يقال انه من العمق السحيق للهامش السوداني بسهوله وجباله، حيث الصخور الشامخة تختزن أصداء الماضي والأرض الطيبة تروي حكايات الاسلاف، وُلدت أسطورة مستقبلها التجذر في قلب التاريخ السوداني، هي أسطورة (لعنة الهامش). هذه الأسطورة ليست مجرد حكاية بل ديوان شعوب السودان، موطن الأسرار القديمة والمعرفة العميقة.
وقد جاء في الاسطورة انه مع سيطرة النخبة الإسلاموعربية على مقاليد الحكم، سعيًا لإعادة تشكيل الواقع السوداني وفقًا لاعتقادهم وقيمهم، واجهت الجماعات الأصلية أمواجًا من الإقصاء والقهر ومحاولات الابادة في كافة أنحاء السودان، من أطرافه إلى قلبه. حينها، ارتفعت دعوات تنشد العدالة والمساواة، مؤكدةً على أهمية المقاومة وتحدي الروايات المفروضة. ومن بين أنقاض القمع، اشتعلت الثورات السلمية والمسلحة، ومن بين الرماد انبثقت صيحات المهمشين، تستصرخ العدالة وتبتهل إلى الآلهة القديمة والأجداد ليشهدوا على تجاربهم ويساندوا معركتهم ضد الظلم. هذه الصرخات، التي تعبر عن جوهر “لعنة الهامش”، تتخطى مجرد كونها تذكيرًا بالماضي، او المعاصر، بل تمثل إعلانًا واضحًا للرفض القاطع للاستسلام وتطالب بإعادة تصور مستقبل للسودان يُكرم تنوعه الثقافي وثرائه الاثني والديني.
النخبة في رؤيتها الفاشية على البلاد، ادعت الإلهام الإلهي وسعت لنسخ تاريخ فتوحات القرون الوسطة وعصور الظلام لتوسيع نفوذها. تسللت الأيديولوجيا الإسلاموعروبية بين أركان المجتمع السوداني، ساعية إلى استبدال هوية الشعوب السودانية الأصيلة بثقافة تحمل طابعًا احاديا جلفا عنوة، في محاولة لمحو تراث وهوية الشعوب الاصيلة والعريقة، حينها كان القتل والتشريد ومعسكرات اللجوء والنزوح وما اسموها ب(قري السلام)، شاهدةً على مأساة الذل والإبادة
تروي الأسطورة أن سكان الهامش في السودان، الحريصين على الحفاظ على تراثهم الثقافي العريق وتقاليدهم العميقة، شكّلوا سدًا منيعًا في وجه السياسات الفاشية. قوتهم استمدت من تمسكهم بمعتقداتهم وتوحيد الآلهة، وبإيمانهم الراسخ بأسلافهم، ما أوجد تحديًا كبيرًا للمجرمين والنخب السلطوية الراغبة في تركيعهم ومحو وجودهم.
وتقول الأسطورة، إن الآلهة القديمة استجابت لدعوات الأمهات والأرامل والأطفال، فأعادت الظلم إلى من أطلقوا عليهم النار، وإلى النخب المتواطئة التي صمتت عن الجرائم. كأنما ردت إليهم السهام التي أطلقت في الهامش لعقود كعقاب. ففي كل منزل حكمته النخبة، وفي كل قصر بُني بيد الحركة الإسلامية ومن تحالف معها او صمت عليها، وفي كل ميدان تم تجنيد الأبناء للقتال باسم الجهاد، نمت أشواك وأدغال. كل شبر من الأرض التي سُلبت حقوقها أصبح يُصدر صرخات ألم تحت أقدام الظالمين! فأُغلِقت الطرق أمام مواكبهم، وجفت الأنهار أمام عطشهم، وتاهت النجوم في لياليهم، وبكت الأرض حتى صارت بركًا ومستنقعات من الدماء تعرقل خطاهم. ولم يكن للظلم أن يستمر، ولم يكن لعرش الطغيان أن يدوم، فبقوة اللعنة، أُطلِقت قوى العدالة من قيودها، وبدأت همسات الريح تنقل بذور التغيير والهزيمة لهم، واستيقظت الأرض على ثورة لم يسبق لهم معرفتها – وإن حاولت مجموعة من النخب سرقتها لإعادة دورة الظلم، لكن هيهات! ثم تحولت الخرطوم إلى غابة موحشة، مكتظة بالكلاب الضالة المتكاثرة التي تتغذى على جثث ضحايا حروب لم يحن أوان توقفها بعد. وهكذا وُلدت لعنة الهامش… أو هكذا سيُروى!
واسطورة الهامش تقول ان النخب السياسية السودانية كنذير شؤم تتجول بين العواصم هائمة علي وجوهها دون دليل او بوصلة، هائمة علي وجوهها تطاردها لعنة الهامش وتوعدها بالفشل المريع لانها تغازل الشياطين حينا وتضاجعه سرا في أحيانا اخري!
تقول أسطورة “الهولندي الطائر” والتي تعتبر من أشهر القصص البحرية، وتمثل رمزاً للسفينة الشبح التي لا يمكنها أن ترسو أبدًا، فهي محكومة بأن تجوب البحار إلى الأبد. الرواية كما في حال النخب السياسية السودانية تجمع بين عناصر الطمع، اللعنة، العقاب الأبدي وتحدي والظواهر الطبيعية (الحقوق الأساسية) و تحدي اللالهة التي خلقت كل البشر اسوياء، وعقد الصفقات مع الشيطان، وتحمل في طياتها دروسًا أخلاقية وتحذيرات من الجشع و الغرور والعصيان، والاستهبال!
والأسطورة تقول، في أعالي خطوط العرض الجنوبية، قرب ساحل إفريقيا، تروي الخرافات عن سفينة شبح، الهولندي الطائر، التي يُقال إن ظهورها يُنذر بشؤم الأعاصير والكوارث الطبيعية والموت. السفينة، المحكوم عليها بأن تبحر إلى الأبد دون أن تجد ميناءً للرسو، ويُعتقد أن طاقمها ارتكب جرائم مروعة، وكان لقبطانها اتفاق مشبوه مع الشيطان، وأن كل من في السفينة اصيب بوباء عضال. وكجزء من عقوبة السفينة كانت اللعنة التي تقول، يُفترض أن يبحر الطاقم في المياه التي لقوا فيها حتفهم، فصاروا اشباح مشؤومة حتى يتم تكفيرهم عن جرائمهم.
برنارد فوكي، القبطان الهولندي في القرن السابع عشر، يُنسب إليه دور محوري في أسطورة الهولندي الطائر. عُرف فوكي بإنجاز رحلات سريعة بين هولندا وعوالم جديدة حينها، حيث روجت الشائعات عن عقده صفقات الشيطان التي منحته القدرة على قيادة سفينته بسرعة خارقة ومكنته من جمع ثروات طائلة. الارتباط الغامض بين فوكي والقوى الشيطانية قيل إنه وراء اللعنة التي جعلت سفينته تبحر دون استراحة إلى الأبد، فقبطان وطاقم السفينة لم يكفروا عن جرائم اقترفوها!
الصفقة المبرمة بين القبطان والشيطان، التي وُعد من خلالها بالسرعة والأمان في رحلاته البحرية مقابل الحصول على أرباح طائلة، ضمنت أيضًا في بعض الروايات تسليم روح القبطان وأرواح طاقمه. هذه الشروط تتيح للقبطان تحقيق طموحاته البحرية دون اعتبار لأية عواقب. بعد إبرام هذه الصفقة، يُروى أن السفينة وقبطانها حازا على قدرات استثنائية، مكنتهما من التحليق فوق العوائق الطبيعية. لكن، النتائج الحقيقية للصفقة بدت واضحة عندما تعذر على السفينة الرسو في أي ميناء، وهو ما تم تفسيره كعقاب إلهي أبدى، أو لعنة لتحديهم الإرادة الإلهية والقوانين الطبيعية، وكان ربما عقابًا لهم على خيانة الأخلاق والقيم الإنسانية!
وفي السودان، النخبة التي أشعلت شرارة الحروب، وجدت نفسها محاصرة بالشوك الذي زرعته. فالقوى الضاربة التي كونتها لقمع الآخرين، انقلبت عليها، مما جعل الدعم السريع والجيش السوداني رمزًا للانقسام والصراع والانتقامات. واستيقظت العاصمة، التي كانت مركزًا للجيوش المرسلة إلى الهامش ذات فجر، لتواجه ذات النار التي أُشعِلت في الأراضي البعيدة بالأمس، فقد كان قول النخب وفعلهم حينها ان الحرب في مكان اخر بعيد عنا ولاتعنينا! تقاتل المجرمين الذين سحلوا الناس في الهامش عندما كانا متحدتين، تقاتلا مختلفتين في شوارع العاصمة والعديد من المدن ولا يزالا!
وتقول الأسطورة أن لعنة الهامش لن تُرفع إلا عندما تُعترف النخب الظالمة، المتواطئة بالحقوق المتساوية لكل رجل وامرأة وطفل في السودان. عندما يُحترم الإنسان لما هو عليه، لا لما يُراد له أن يكون، وعندما يُسمع صوت العدالة فوق الظلم والطمع واللامبالاة. عندما ترد الحقوق لاهلها، فقط حينها، ستعود النجوم لتنير السماء، وتعود الأنهار لتروي الأرض، ويعود الهدوء إلى الهامش، وتستريح الأرواح التي أرقتها اللعنة.
في عام 1989، وكأنها تنبعث من عمق الأساطير القديمة المحملة بلعنات تلف أرواح الضائعين والأراضي التي تأوه تحت وطأة الشر الأبدي، جاءت من الخرطوم حكومة تنضح من جوانبها بذور الجشع وكل أساليب العنف. نظام الإنقاذ، بقيادة الحركة الإسلامية، أصبح تجسيداً حياً لأبشع ما تنبأت به الحكايات الأسطورية؛ إنها لعنة الهامش، مع المساعي لفرض هيمنة الإسلاموعروبية بالقوة والسلاح، كسفينة الهولندي الطائر التي تجوب البحار بلا غاية، محرومة من الرسو بسبب فساد قبطانها وطاقمها. وكان ان جندت الحكومة الإسلامية في السودان الشباب لتنفيذ مشروع جهادي ضد الهامش. وكما في لعنة تيمورلنك، حيث حذرت الأسطورة من إزعاج راحة الفاتح، حذر التاريخ من إزعاج راحة الهامش. لكن الحكومة لم تأبه، ولم تبال النخب بالجرائم التي تُرتكب باسمهم. وقد قيل ان الصمت لم يكن حليف الأبرياء فحسب، بل كان أيضًا رفيق النخب السودانية التي لم تعترض على الظلم الواقع خارج جدران قصورها العالية. فلم يخرجوا بمسيرات مليونيه عندما حلقت طائرات الخرطوم لتقصف جبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور، وحينما سيرت المتحركات الي تلك الأمكنة البعيدة، ولم يرفضوا التجنيد ولا تجنيد عيالهم في الجيوش التي تُحركت للقتل وهي تحمل أسماء الرموز الإسلامية. وفي صمتهم، كانت لعنة الهامش تتأصل الي ان صارت حقيقة فأزكمت رائحة الجثث في الخرطوم الانوف ومات الناس صبرا!
بعد مرور ستين عام، أدركت النخب الحاكمة أن ويلات الحرب لم تعد قاصرة على الأطراف فحسب. القوات التي تم تجنيدها لإخضاع المناطق المهمشة قد انقلبت على خالقيها، محولةً الخرطوم إلى ساحة للدمار الذي كان يُعتقد أنه مقتصر على الأراضي البعيدة المنسية. الآن، يبدو كأن الأمهات والأرامل وأطفال المناطق المهمشة ينادون بأرواح أسلافهم والآلهة كافة، داعين لإصابة كل من القاتل والمشارك والمتواطئ والصامت بلعنة لا تُرفع إلا بالاعتراف والاقرار بالحقوق المتساوية لجميع سكان السودان، ما يُلقي الضوء على حقيقة أن لعنة الظلم لا تفرق في النهاية بين والجلاد، ومن يتواطآ معه او يصمت عليه.
هذا التحول الدراماتيكي يبرز لعنة الهامش كتذكير قوي بأن الظلم، بغض النظر عن طول مدته أو مدى بعده، سيعود ليرتد علي أولئك الذين ظنوا أنهم بمأمن من تداعياته. إنها تُظهر العدالة الأخلاقية التي تعمل على تصحيح المسارات حتى بعد تقادم الزمن.
وبعيدا عن الحكايات الأسطورية ودروس الميتافيزيقا او الغيبيات فان سفينة النخب السياسية التي تريد ان تجد حلولا لمشكل السودان وحروبه دوان ان تعالج قضايا المواطنة والحقوق المتساوية لن تجد مرسا ترسو اليه قط وان تحالفت او عقدت كل أنواع الاتفاقات مع كل أنواع الشياطين. فمن بين زوايا الوجود الملموس، حيث لا تجدي نفعًا أساطير الزمان وأسرار ما وراء الطبيعة، تائهةً تبحر سفينة النخبة السياسية والأحزاب الشمالية في السودان. تغوص في بحر المناورات الخفيفة والرخيصة، تتخبط بين أمواج الصراعات الهوجاء، متغافلةً عن أن شاطئ النجاة لا يُرسى عليه بمجداف المساومات العابرة علي حقوق من هم خارج انديتهم أو بشراع الاتفاقات مع كل أنواع الشياطين. إن الأمان يُبنى على صخرة المواطنة الراسخة وجسور الحقوق المتساوية التي تُعلي قيم الديمقراطية والعلمانية والعدالة التاريخية.
إن لم تستقم هذه السفينة بمصفوفة العدل وتجهر بالمساواة والانصاف وفقا لعدالة تاريخية، فإن مصيرها الحتمي هو الضياع في أعماق بحار التناقضات، لا تجد لها مرسى يأويها، وإن كانت تلوح في الأفق رياح تُبشّر بمواثيق تُقطع مع أشباح الماضي والارواح العنصرية والشيطانية المؤذية.
خالد كودي،
25, بوسطن، مارس