منذ ستة عشر عاماً ظل شبح الحرب يخيم على إقليم دارفور , فالحروب عندما تندلع لا تستأذن أحداً , ولا يرى علاماتها وإماراتها إلا من وهبه الله قوة البصيرة , أو كما يقول أهلنا البقارة : (الدنيا تلد بلا درة) , أي أن مصائب الدنيا تحدث دونما مؤشرات واضحة أو إمارات بائنة , فهي ليست كالجنين الذي تحبل به أمه فتكون شهوره معدودة و مرصودة إلى حين ميقات بروزه إلى بهو الحياة , و (الدرة) تعني إمتلاء ثدي الأنثى باللبن قبل ميعاد الولادة (أنثى كل من الانسان والحيوان معاً) , الأمر الذي ينبيء بقرب أوان قدوم المولود الجديد.
أيضاً , عند احتدام المعارك لا يفيد طرح السؤال الغبي : من هو الباديء و ما هو السبب ؟ لأنه حينها تكون الأولوية لإيقاف الحرب ولا لشيء آخر غير ذلك , ثم بعده تاتي أهمية التنظير و الحديث و الحوار و التفاوض , واسألوا الذين لدغوا من هذا الجحر , فهم أولى بالحديث عن مآلآت الحرب و مآسيها , وصدق مضمون عجز بيت الشعر الذي يقول :(إنّ الحرب أولها كلام) , فما يحدث من إثارة للكراهية بين مكونات المجتمع العرقية و الجهوية , من قبل حملة الاجهزة و الحواسيب اللوحية المنتشرين حول كوكبنا الأخضر , سينتهي بتفجر بركان الحرب داخل عاصمة البلاد.
لقد بدأت ذات الشرارة من قبل في الأقليم المنكوب , بحمل بعض الفتية لأرواحهم على أكفهم , و اتخاذهم لقرارهم المصيري بأنهم يريدون الحرية و الانعتاق , مثلهم مثل جماعة الحرية و التغيير التي نشدت ذات الحق الانساني اليوم , لكن وبحكم تعقيدات واقعنا السوداني الاجتماعي في جميع أقاليمه , وتداخل أجندة النخبه السياسية مع الأجندة الأجنبية , إضافة إلى طموحات الشعب المشروعة في الحياة الكريمة , اندلع صراع بيني في اقليم دارفور, تماماً مثل صراع المجلس العسكري ومؤيديه من جانب , و قوى الحرية و التغيير وجمهورها من الجانب الآخر , هذا الصراع الذي تجري احداثه الآن.
القتال البيني بين مكونين رئيسيين في اقليم دارفور آنذاك أفقد ثورة الشباب قيمتها , و مع مرور الوقت تساوى الثائرون مع المدافعون عن السلطة المركزية من بني إقليمهم , تساووا في الحجم والقيمة , ففقدوا بريقهم و لمعانهم الذي أبهر شعب الأقليم إبان أيام انطلاقتهم الأولى , والسبب يرجع إلى الانجرار خلف الجزئيات و ترك الكليات التي حملوا من اجلها السلاح , وفي سباق الكر و الفر هذا فقدت اجيال بأكملها أرواحها , وضاع حق بعضها في التعليم و الرعاية الصحية , وذلك بجلوسهم مدة قاربت العقدين من الزمان تحت ظلال رواكيب البلاستيك شحيحة الظل , في معسركات الذل والهوان نازحين ولاجئين يبحثون عن الأمن و الأمان.
فالخلاصة التي خرج بها أهل الأقليم من هذه المأساة ولكن بعد فوات الأوان , هي أن الثورة الحقيقية لا تعرف العنصر ولا الجهة و لا الدين و لا اللون السياسي , وأن الاقصاء و الاحتكار و البغض و الكره ليس من سمات الثائر الحقيقي , ولنا عبرة في رمزين وثائرين فاضت قلوب شعوب الدنيا بحبهما (جيفارا و مانديلا) , فالأول قال (أينما وجد الظلم وجدت) فقاتل جنباً إلى جنب مع ثوار افريقيا , وهو الفتى الأرجنتيني القادم من امريكا اللاتينية , والثاني (مانديلا) وهو الذي دعا سجانه الذي كان يتبول على رأسه صباح مساء في الزنزانة , إلى مائدته ليتناولا معاً وجبة الغداء في المطعم الذي جمعتهما به الصدفة , بعد أن حقق الزعيم حلم شعبه , ونعود فنقول أين ثوارنا من هذين الرجلين؟!
مالم تشهده الخرطوم منذ حملة المستعمر الغازي كتشنر حتى الآن , هو الاستباحة والفوضى و انفراط عقد الأمن و الهرج و المرج , وربما هذا قدرها منذ قرنين من الزمان عندما اتخذها محمد علي باشا مركزاً لتجميع الرقيق و الذهب , تمهيداً لارسالهما إلى مصر , إذ ما تزال هذه العروس الفاتنة تثير لعاب المتربصين من حولها , وما انفك بعض ابنائها النرجسيين يضربون دفوف الحرب ليل نهار , أملاً منهم في إخراج المسلحين التابعين للمجلس العسكري الانتقالي الحاكم من عاصمتهم المحبوبة , هؤلاء المسلحون الذين يأكلون البيتزا كما تؤكل العصيدة , على حد وصف أحد مشاهير ملاك مواقع التواصل الاجتماعي السودانية , الذي يقطن أحد أعرق أحياء هذه المدينة المثيرة للجدل , في استنكار صارخ منه لوفود مثل هذه الاجسام الغريبة والمدججة بالسلاح الى مدينته الهانئة , يصولون ويجولون ويأكلون الوجبات السريعة بطريقتهم التقليدية.
السودان بحاجة إلى قائد روحي ملهم , فمنذ المهدي عليه السلام لم يطأ أرضه هذا الأنموذج الوطني المشرف إلا الراحل جون قرنق , ومن سوء طالع هذا البلد أن شعوبه دائماً ما تسعى لحتفها بأقدامها , إذ أنها لا تفرق ولا تمايز ما بين أصدقائها وأعدائها , لذلك تجدها في اللحظات التاريخية الفاصلة لا تنقاد إلا خلف الهزيل من القادة , و تنأى بنفسها عن الوطني الغيور الصادق والأمين.
إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com