يُكابر من يُغالط على أهمية علاقات مصر بالسودان، ولا يدري من يُنكر أهمية السودان بالنسبة لمصر، ولكن هذه المعادلة ليست صحيحة حين تُقال هكذا على إطلاقها دون وضع نقاط ومُحدِّدات تُبين من هو الطرف الأكثر حاجة للآخر؟، فمصفوفة الحاجات المتبادلة بين الطرفين تُرجح حاجة مصر للسودان وليس العكس بأي حالٍ من الأحوال، والمقارنة في جوانب كثيرة لا تُعد ولا تحصى تُثبت ذلك، فالسودان لا يحتاج إلى مصر لا في الماء ولا الغذاء ولا الكساء ولا حتى في تأمين حاجاته في المستقبل، فهو بما حباه الله به من موارد طبيعية مختلفة االألوان ليس هناك ما يحتاجه لسد إحتياجه من غذاء ولا غيره، ولكن بعض من أفراد الشعب السوداني درج في بعض الأحيان إلى الذهاب للإستطباب في القاهرة، فمصر تتفوق علينا في هذا المضمار إضافة إلى مضمار التعليم وأيضاً هو إحتياج في حدوده الدنيا وبالإمكان إيجاد بدائل أفضل بكثير من بديل العلاج في مصر، وهي مضامير لو كان السودان ظل يُقاد منذ تاريخ خروج المستعمر الإنجليزي بواسطة قادة أفذاذ لما كان السودانيون قد إحتاجوا لهذا القليل من العلاج والتعليم في الدولة المصرية ولما تطاول علي شعبه أحد، ما قادني إلى هذه المقدمة هي كثرة الإساءات التي ظل يوجهها بعض المصريين في العديد من المناسبات للشعب السوداني.
فبعد أن أوقفت وزارة الصحة الأمريكية المنتجات المصرية التي أثبتت المعامل تلوثها بالمخلفات البشرية وأن بعض أنواع الجبن الرومي وجدوا أنه يستخدم في صناعته مادة الفورمالين التي تستخدم في حفظ جثث الموتي وأن إستخدام هذه المنتجات نجم عنه تعرض بعض المواطنيين الأمريكيين لأمراض مثل إلتهاب الكبد الفيروسي، وقد فعلت الحكومة الأمريكية ما تفعله دوماً أي حكومة حفاظاً على أرواح مواطنيها، فأوقفت إستيراد تلك المنتجات وذكرت بالإسم الشركات المصرية المنتجة لها واشترطت لإعادة إستيراد تلك المنتجات شروطاً صحية صارمة وفي حال عدم الإلتزام بها لن يتم الإستيراد مرة أخرى، لم يمر وقت طويل على القرار الأمريكي حتى تبعتها روسيا والمملكة السعودية والسودان كذلك اتخذت إثيوبيا قراراً بإيقاف إستيراد الأدوية المصرية بعد أن قالت أن طاقماً إثيوبياً قد زار المصانع المصرية للأدوية التى تصدر لها الدواء فوجدت أنها لا تُلبي المواصفات الصحية الضرورية لإنتاج الدواء، وغالباً ستترى المزيد من الدول لتنضم لقائمة المقاطعين .
جرّاء هذا القرار الكارثي على الإقتصاد المصري، شن بعض المصريين في مواقع التواصل الإجتماعي هجوماً غير مبرر على قرار حظر المنتجات المصرية، الذي أملته ضرورة الحفاظ على صحة المواطنيين في تلك الدول المقاطعة، ولكن من بين كل هذه الدول تم إستهداف الشعب السوداني بالإساءة والتحقير، لم يسبوا الأمريكان الذين فجروا الفضيحة الأخلاقية للقائمين على أمر الإقتصاد والصناعة المصريين وفضحوا تلك الممارسات والعيوب، ولم يسبوا الروس والسعوديين، فقط وجهوا إساءاتهم للشعب السوداني وصبوا جام غضبهم عليه، الذي لم تفعل الجهات المعنية في بلده سوى أنها حذت حذو الآخرين الذين لفتوا إنتباهها لخطورة وضع المنتجات المصرية المذكورة، طبعاً كنا عن هذا غافلين ولكن حتي الأمريكان والآخرين الذين تبعوهم كانوا غافلين أيضاً عن كارثة تلوث المنتجات المصرية الزراعية، ولولا إصابات المواطنيين الأمريكيين المتكررة بإلتهاب الكبد الوبائ هو ما جعل المحققين الأمريكان يصلون إلى تلك المنتجات الملوثة، فلماذا ينبري المصريون ليهاجموننا بأقبح ألفاظ الشتم والسخرية؟ مثل (حتى السودانيين القرود! وحتي إنت يا عصمان؟ ومفيش دولة اسمها السودان هناك خادمون سودان!) إلى آخر تلك المفردات، في سقوط أخلاقي آخر بعد السقوط الأخلاقي للقائمين على نشاط الإقتصاد المصري وغشهم في مواصفات السلع المصدرة إلى الخارج، إذ لا تهمهم صحة الإنسان بقدر ما تهمهم تلك الملايين من الدولارات التي تجنيها شركاتهم مقابل تلك الأغذية الملوثة والمغشوشة.
مما لا شك فيه أن بعض المثقفين المصريين وأيضاً بعض مواطنيهم إستمرأوا مثل هذا الإسفاف، فلا تمر مناسبة وإلا كالوا للسودانيين السباب والشتائم، حكوماتنا المتخاذلة باعت لهم حلفا فلم يرضوا عنا، تركت لهم المزيد من المياه من حصة السودان في مياه النيل أيضاً لم يرضوا، إحتلوا حلايب فغض النظام بصره فازدادوا صلفاً ووقاحةً، ولكننا لا نلومهم فإنهم يعرضون بضاعتهم وكل إناءٍ بما فيه ينضح، نحن نلوم أولئك الأقزام الذين ظلوا يحكمون الشعب السوداني والسودان، الشعب السوداني بجسارته وعفة نفسه والسودان بخيراته الوفيرة، بنيله وأنهاره الأخرى، وأمطاره المدرارة، بثرواته الحيوانية المهولة، وبذهبه وبتروله، وبأكثر من من 200 مليون فدان صالحة للزراعة، لماذا يستورد منتجات خضر وفاكهة وألبان من مصر؟ نحن نلومهم لأنهم عجزوا أن يديروا البلاد وفق برامج مدروسة تتلائم مع مقدراتها وثرواتها، البشرية والطبيعية، نحن نلومهم لأنهم عجزوا أن يكفوا عن الشعب السوداني أذي أمثال هؤلاء الدهماء والرعاع، وأهملوا المرافق الصحية فسعى بعض أفراد الشعب السوداني للسفر مضطراً إلى مصر من أجل العلاج، وأهملوا مرافق التعليم فاضطر البعض للسفر والدراسة هناك، السودان لا يحتاج إلى مصر في سد أي حاجة من حاجات شعبه، لكن مصر تحتاج إلى السودان وإن لم يكن اليوم فغداً وهم يدركون هذه الحقيقة جيداً، ولذا لا يتمنون حدوث إي إنفراج في الراهن السوداني، يريدون للسودان والسودانيين أن ينشغلوا بالإنقسامات والخلافات وإهدار مقدرات بلدهم وأمواله في صراع عابثٍ حول السلطة، فلايجد الوقت ولا المال ليُفجِّر ثرواته من أجل شعبه، لأنه لو حدث هذا فسيخرج المارد من قمقمه وهم لا يريدون دولةً قوية وشعباً عزيزاً في المنطقة لينافس على الريادة والقيادة في المنطقة الإقليمية.
عندما نكتب ننتقد كل الحكومات وعلى رأسها نظام الإنقاذ ونطالب بضرورة ذهابه وهيكلة الدولة السودانية وقيام دولة مؤسسات مقتدرة، وعندما نجزم بأن السودان لم ينل إستقلاله بعد، فإنما نعني بذلك قصور تلك الحكومات التي تعاقبت في جعل السوداني مُكرماً مُعززاً في وطنه لا يسيئه أحد ولا يتطاول عليه متطاول، وعندما تقتضي الضرورة أن يُسافر إلى بلاد الآخرين أن يُقابل بالإحترام والتقدير فهو غني عنهم في كل شئ، ولذا سنظل نقاوم مثل هذه الأنظمة الفاسدة العاجزة والمتبلدة الإحساس حتى يُسفر فجر الوطن عن نظام حكمٍ يضع الإنسان السوداني في قمة إهتماماته فلا يتطاول عليه الآخرون.