إنّ جدلية الحياة و الموت هي الملهمة لثورات الشعوب , والمنجبة للأحرار والثائرين في وجه الطغيان و الجبروت , فمهما طال صمت الناس و ازدادت قوة شكيمتهم وشدة تحملهم للأذى الواقع عليهم من الظالمين من حكامهم , لابد للأقدار أن تستجيب لطموحهم المشروع في الحياة الشريفة والعيش الكريم , فهاهم أبناء وبنات الشعب السوداني يظهرون إرادة صلبة وقوية , و إصرار عنيد لا يقاوم ورغبة جامحة لا تساوم في أن يحيوا أعزاء و عزيزات في كنف وطن يرسمون ملامحه بأيديهم , فهاهم الكادحون الصادقون يركلون يافطات منظومة البؤس والشقاء والفساد , ويشعلون نيران غضبتهم في أعلام دويلة الإستبداد ويحرقون شعاراتها الخادعة , في مدن السودان الشمالية و الشرقية و الغربية و الجنوبية الجديدة , إنها الصيرورة التاريخية و النتيجة الحتمية للصراع الأذلي بين الحق و الباطل , والحقيقة الواقعة لواحدة من السنن الكونية ألا وهي التدافع بين بني آدم بعضهم ببعض , وهي المحصلة البديهية في أن يجيء الحق بائناً وضّاحاً محياه و يزهق الباطل ألا وهو الزهوق المهين , فالموت و الحياة ابتلاء و امتحان يرشح من بين ثناياه النبلاء و الخيرون من أبناء الأمة و الأحسنون أعمالاً , فبعد كل موات هنالك حيوات مخضرات و مزدهرات تعقب كل ذلك الموات المميت , وإشراقات من أنوار الأمل و التفاؤل و الحب , تضيء جبين المقهورين الذين كابدوا العيش في ظلام هذا العهد الغيهب , وفي خضم هذه المعادلة الكونية الراسخة , دائماً ما يفوز المراهنون على انتصار إرادة الشعوب , ويخسر المستهزئون بآمال وطموحات هذه الشعوب , و تخيب رجاءات وتوسلات أصحاب العلل الأخلاقية المبددين لقوت الضعفاء و المساكين , المتخمين بمال السحت المختلس من خزائن دولة هؤلاء المحتاجين والفقراء إلى ربهم , بل الأغنياء بأنفسهم العزيزة وذواتهم النفيسة , فهذه العزة النفيسة هي المطرقة الباترة للأغلال و الكاسرة للقيود المكبلة لانطلاقة المارد السوداني , الذي بانت نواجذه و تكشرت أنيابه في سوح المدن وميادين الأحياء في طول البلاد وعرضها , فانتفض وثار لينقض على هؤلاء الحكام الجائرين ويقضم عظمهم , فقد تلاحمت الشعوب السودانية بقضها وقضيضها , من أجل إزالة عبء دويلة الإنقاذ الظالمة التي أرهقت الأبدان و أزهقت الأرواح.
ففي هذه اللحظة التاريخية الفاصلة من تاريخ أمتنا السودانية , هنالك بعض الأقلام و الكثير من الأصوات الناشدة لتثبيط همم الحاملين لألوية الكفاح الثوري الذي انطلق هذه الأيام , وهي أصوات الإنتهازيين و الوصوليين الذين تواطئوا مع النظام الباطش في أواخر أيامه , بعد ان احتضنهم عبر اكذوبة ما سمي بالحوار الوطني , فما علينا إلا أن ننبري لأسكات هذه الأبواق وذلك بتفنيد حججها الواهية و الهزيلة , التي لن تنال من عزم المتظاهرين ولن تحط من سمو روحهم المعنوية التي ناطحت عنان السماء , ولن يصيب حبر أقلامها المندلق اصرار الثائرين بمثقال حبة من خردل من الإصابة , فالحراك حراك قومي وطني شامل ساهم فيه الناس من أهل السودان كافة , تماماً مثل أذى (الإنقاذ) الذي حاق ولحق بجموع المواطنين السودانيين من عطبرة إلى الفاشر و من الجنينة إلى بورتسودان , فالقتل و التشريد و التنكيل بالصغير و الكبير لم يميِّز ما بين عطبراوي أو فاشراوي , فالكل قد اكتوى بنار منظومة البشير و أذيق سمها الزعاف , وقد ولى زمان الفزّاعات الساذجة التي استهلكها نظام كهنة الإخوان , فيا مدير جهاز أمن و مخابرات نظام التفرقة والمحسوبية , إنّ الحراك المسلح في غربنا الحبيب لم ولن يكون خصماً من منجزات ومكتسبات ثورة ديسمبر الشعبية , فرموز هذا الحراك متضامنون مع هذا الفعل الثوري الشعبي العفوي و التلقائي , لأنه يمثل الرغبة الغالبة لأهل السودان , وما كان لأحد منهم أن يحمل البندقية لولا تحديات رأس النظام الجهيرة , وعنترياته المتكررة التي درج على البوح بها عام تلو الآخر , والذي دأب على توجيهها للمدنيين العزل من أبناء الشعب السوداني , حين قالها بكل صراحة أن من يريد منازلة سيئة الذكر (الإنقاذ) , عليه إعداد القوة وشيء من رباط الخيل ما استطاع إلى ذلك سبيلا ومواجهة آلتها العسكرية , غير دارٍ بأن القوة الحقيقية تفرزها إرادة هذا الشعب , وهي طاقة الدفع الوحيدة التي تصدر كلمته الواحدة و الفاصلة , والتي هي بائنة للعيان الآن في نبض هتاف الشباب و الطلاب و العمال و الموظفين و المزارعين , فاليوم رأينا بأم أعيننا كيف عانقت سلسلة جبال مرة رصيفتها جبال التاكا , بينما تشرئب جبال النوبة لأحتضان أهرامات البجراوية , مقدمين لوحة وطنية مزركشة بألوان طيف الإنسان السوداني في الريف و الحضر.
لقد طال حلمنا بحضور ومعاصرة النهاية المحتومة لنظام الجبهة الاسلامية القومية (المؤتمر الوطني) , التنظيم الأصولي المتشدد الذي أذاقنا الويل و الثبور , واستطال الزمان حتى اتحفنا بهذه اللحظة التاريخية الفاصلة , فلقد ظل الأمل يحدونا في تحقق هذا الحلم منذ صبانا الباكر إلى أن (هرمنا) , نعم (هرمنا) , إنها ذات المفردة التي هتف بها ذلك التونسي الأشيب لحظة إنتصار ثورة الشهيد (البوعزيزي) , مساء هروب الطاغية (بن علي) بعد طوفان شعب الثائر (أبو القاسم الشابي) الذي ألهمنا عنوان هذا المقال , فما فتيء التفاؤل يملأ النفوس واليقين الصادق يعتقل القلوب , فتصبح البصيرة و البصر كل منهما مدرك لإنجاز النصر المؤزر الذي استوعبته العقول وهضمه الوجدان , هذا النصر الذي هو قاب قوسين أو أدنى من التأكد و التحقق بصورة فلكية (تلسكوبية) مكبرة , أكثر وضوحاً من سابقاتها من الصور (المايكروسكوبية) المصغرة , فالمسيرات الشعبية الهادرة التي جابت مدن أقاليم السودان , لهي ماضية وغير متوقفة حتى تبلغ سقفها الأعلى و هدفها الأسمى وغايتها النبيلة , التي هي تطهير كل شبر وقدم مربع في تراب الوطن من قبضة هذه الفئة المهووسة , فثوار ملحمة ديسمبر الظافرة ليس بينهم رعديد يكبل خطوه ثقل الحديد , فهم أسراب من الضحايا الكادحين أخرجتهم سياط جلاد منظومة الإنقاذ من المصانع و الحقول , فملئوا طريق الإنتفاضة الشعبية العارمة يتزاحمون ويقسمون , على مطاردة المترفين الطغاة والمتجبرين من سدنة النظام , حارة حارة ومدينة مدينة و (زنقة زنقة) , ليظهروهم على الناس كافة كي يلقوا الجزاء العادل الذي يستحقونه , لقد هنئوا زماناً طويلاً باحتكارهم لقوت الشعب وتمادوا في حرمانه من حقوقه الأساسية , فمسيرة هذه الشعوب الكادحة التي تاهت قافلتها في متاهات أزمنة حكم الإنقاذ الجائر ثلاثون عاماً , قد دنا موعد وصولها ورسوها في موانيء مدن الوطن المحرر من قبضة هذه الثلة من المجرمين , ودليل هذه القافلة الذي لا تضيع بوصلته أبدا هم الحفاة العراة الجائعون و المشردون , الذين أفسدوا ليالي الطغمة المتجبرة واحالوا قهقهاتها و ضحكاتها الماجنة إلى ذعر ورعب و كابوس , بعد أن كسّروا كؤوس الموائد الخضراء الطافحة بالشهوات و بالنبيذ , إذ كيف يسمحون لمن تاجر بآيات الله و ابتغى بها ثمناً قليلاً وقدراً ضئيلاً من حطام الدنيا أن يستكين , وأنّى لمثله أن يهنأ بالقيلولة و الهدوء بينما صخب الملايين الجياع يشق أسماع الوجود برعوده وبروقه , ثائرون و يهتفون حتى يعودوا ظافرين إلى أحيائهم و أكواخهم , سائرين على جماجم حكامهم الظالمين ليوشحوا أسوار بيوتهم بالقلائد والورود , وحتى تزغرد جاراتهم ويرقص أطفالهم وصغارهم ليؤكدوا عدم التخاذل أو الحياد , عن خط نضالهم وكفاحهم المقدس ليعود لهم بالسودان حراً طليقاً أبياً , وتعود أنغام الصباح.
إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com