خلال سبعة وعشرين عاما عجافا، وكلا الطرفين يتربص بالآخر على المكشوف، تبدلت مسميات المعارضة السودانية، وبقيت جُلّ رموزها، توارت صقور إنقاذية وبقى النظام كما هو، عُقدت جولات وصولات من المفاوضات العقيمة وحتى التي اثمرت، تم اجهاضها قبل أن يؤتى اُكلها، وُقعدت عدة اتفاقيات معظمها نُقعت في مياه مجاري النظام الآسنة، والقليل منها اُضيفت إلى هوامش الدستور الهلامي للبلاد، فماذا استجد الآن وما هي المآلات المحتملة لخارطة امبيكي لطريق السلام المزعم وملحقاتها الغامضة وشروحها الجدلية؟ وهل بإمكان نداء السودان، منازلة النظام من الداخل، وباي سلاح؟
لم يتوقع النظام ان يوقع قيادات نداء السودان على خارطة امبيكي المائلة، ولم يتوقع الأخير أن يكتشف أو يكترث المجتمع الدولي لتحيزه البائن للنظام، أو أن ينتقده الكبار. راهن كُثر على تصدع مظلة باريس في ظل الفرز المعيشي للجبهة الثورية. خابت كافة هذه التكهنات، فقد “استعدل” امبيكي خارطته الشتراء رغم انفه، الأمر الذي اربك حسابات النظام، وصمدت مظلة نداء السودان رغم تململ الإمام ولجاجته المعهودة.
الثابت ان المعارضة لا تزال ثابتة في موقفها من اسقاط النظام كحل جذري لمشكلات البلاد المزمنة، وبعد إنتفاضة سبتمبر عام 2013م ارتفعت تطلعاتها لتكرار ثورة شعبية تكفيها شر القتال الذي فقدت الكثير من مقوماته وميادينه لصالح النظام، والثابت ايضا أن النظام الذي يظن انه كسب بعض ميادين الحرب، لم يكسب السلام ولم يشعر بالطمأنينة، وظل مرعوبا من شبح إنتفاضة سبتمبر التي ساعده الامام في اخمادها، في ظل هذا الواقع سيجلس الطرفان للحوار قد يكون للمرة الاخيرة مرغمين لا ابطال.
دعنا نعود للسؤال المطروح في عنوان المقال، بغض النظر عن كافة البنود التي من المتوقع ان تمثل احجار عثرة تفاوضية، لا شك أن كفالة الحريات السياسية ستمثل العقبة الكأداء في طريق خارطة الطريق، وعند هذه النقطة تحديداً من المتوقع أن يدفن قيادات نداء السودان عِصيهم للنظام، إن وافق عليها يعنى أنه وضع الحبل على رقبته، فالشارع السياسي في ظل ضنك العيش والفساد الذي يمشي برجليه في اروقة الدولة ووسط دهاليزها، لم ينقصه سوى القيادات الثورية الشابة والمُلهمة، بيد اننا لا نعتقد أن النظام حتى ان وافق على كفالة الحريات، ورجله على رقبته، سيلتزم بها، والمجتمع الدولي لم يعد معنياً بحقوق الإنسان، وغير مهمتا برفاهية الحريات السياسية لدول العالم الثالث. لن يحتمل النظام تفاعل القيادات الثورية مع قواعدها، وسيضربهم بيد من حديد “حميدتي”، والسيناريو المتوقع أن يهرب الجميع ما عدا الامام بالطبع.
إن لم يوافق النظام على كفالة الحريات بالمعنى الحرفي، لا نظن أن عرمان من دون الناس سيوقع على أي اتفاق معه، فرغم مآخذنا المعلنة على السيد ياسر، نعترف انه اكتسب خبرة تراكمية لا يستهان بها، ومع ذلك سيظل انسحابه المفاجئ من السباق الرئاسي عام 2010م لغط يقلل من الوثوق به، سيما وان سلفا كير طلب من الرأي العام توجيه ذات السؤال لياسر مما يعنى ان القرار كان شخصياً. جبريل لا نظنه سيوقع أي اتفاق مع النظام لا يضمن فك اسرى حركته المحكومين بالإعدام والمؤبد، إذن من المتوقع عن تكون هنالك تقاطعات في اولويات قيادات نداء السودان، الأمر الذي قد يطيل المفاوضات، التي بلا شك ستتأثر بمن يدخل البيت الأبيض الامريكي. هيلاري كلنتون كانت على الخط لآخر لحظة مع مرسى، والجميع يتذكر صورتها التذكارية من الفريق نافع على نافع والأريحية البائنة على وجهيهما، ولا نظن ان هيلاري وزيرة الخارجية، ستختلف عن هيلاري الرئيسة. وإن جاء ترامب كل من في الشرق الأوسط وتوابعها عليه ان يحبس انفاسه، قد يشمل ذلك المعارضة السودانية ذات نفسهم. وقتها قد تكتمل حلقات الوصاية الدولية على دولة الجنوب توأم الفشل المجاورة، والسيناريو بلا شك سيكون ماثلاً وقيد التقييم والنظر.
لقد تضاعفت عضوية الحركة الشعبية بعد عودتها للداخل، عقب نيفاشا، والاستقبال الاسطوري للراحل قرنق في الساحة الخضراء، هذه الفرصة ستتكرر مرة اخرى للجبهة الثورية مع فوارق مفهومة، سيما وأن المؤتمر الوطني فقد جاذبيته للشباب، ووصلت شعبيته إلى الحضيض والشاهد الانتخابات الأخيرة، ولا نظن ان هناك من ينضم إلى حزب تلعنه قياداته السابقة ليل نهار، ناهيك عن عامة الشعب. لا يوجد وسط قيادات الإنقاذ الحالية شخصية واحدة تمثل قدوة يتطلع إليها الشباب، الكل محبط وملوث ومنكفئ، فقد فقد الجميع المنطق، وبات الشباب مقتنع بان الإنقاذ ساقط لا محالة، وليس لديه ما يقدمه لهم، حتى الوظائف ضاقت مواعينها، والمال السائب نضبت مصادره.
نعتقد أن التحالف الحالي بين الإمام وشباب الجبهة الثورية، هو الموقف الطبيعي اخلاقيا لحزب الأمة، وإن حاد الإمام عنه قيد انملة، ليس مستبعداً أن يتجاوزه شباب الأنصار، خصوصا وأن هنالك قيادات انصارية شبابية راكزه في الجبهة الثورية، كانت لهم قدم السبق، اجبروا الامام على موقفه الإيجابي الحالي، ويستحسن له الحذر من دخول قاعة الصداقة منفرداً ولو من باب الفضول.
كفالة الحريات العامة، هي الرمال التي من المتوقع ان يدفن فيها قيادات نداء السودان اسلحتهم الهجومية والدفاعية ضد النظام، وهي ستمكن كنفدرالية منظمات المجتمع المدني من الاضطلاع بدورها في تفعيل مناشط التجمعات الفئوية، واضافة سُخونة للساحة السياسية، ويستحسن للسيد مكي مدني التخلي عن التمويل الخارجي السهل، والعودة إلى الاحتكاك المباشر بقواعده من اجل التمويل والتفاعل المثمر، عملاً بنصيحة قيادية يسارية مستنيرة.
فالساحة الآن في فراغ سياسي، سيملأها قيادات الجبهة الثورية، الشابة بكل ثقة، لتنضم إلى قيادات حزب المؤتمر السوداني الصاعدة والراكزة، متى ما كُفلت الحريات السياسية، واصبح بإمكانهم التواصل الحر مع كافة قواعهم على طول البلاد وعرضها.
الذي يجلس للحوار كشيء من الفضول، لا يمكنه ان يصل إلى تسوية سياسية مُرضية، والذي يفتقد الثقة في من يحاوره، سيجفل متى ما رأي شبح رعب او اشارة غدر، ومن الذي لا يرتاب من الإنقاذ؟ ما عدا د. جبريل، الجميع وقّع اتفاقيات مع النظام من قبل، الإمام وقع معه اتفاقية جيبوتي، والذي ظنه فيلاً، اصبح كسراب بقيعه، وعرمان وقعت حركته اتفاق نيفاشا المشئوم وقد تنصل النظام عن ترتيبات المنطقتين، ومناوي وقع اتفاقية ابوجا المعروفة مآلاتها، ورغم ذلك إن حدث ما لا يُحمد عقباه، سيحمّل الرأي العام الفشل على عاتق الإمام، الذي ظل متحمساً لهذه الخطوة، وكأنه يبحث بإصرار عن مبرر لعودة للبلاد، فقد نذر نفسه مؤخراً لإقناع الجبهة الثورية بالحلول السلمية، ولأنه طوال حياته السياسية المديدة لم يوقع اتفاق سياسي ناجح، دعك عن مصالحه الأسرية المتقاطعة مع النظام، بعيداً عن اشواق الأنصار، والذي فشل في نفيه او تبريره للرأي العام، أي منافعه الخاصة، زد على ذلك اشادته المستمرة برأس النظام، ومنافحته المكررة عنه بمناسبة وبدونها.
رغم مباركتنا الصريحة للحوار الحالي، في ضوء الظروف الميدانية والدولية المحيطة بالثورة المسلحة والمعارضة المدنية، أننا لا نرى أن إعتراض الحزب الشيوعي السوداني، وتحفّظ عبد الواحد نور عليه، لا نراه عملاً مشينا أو موقفا مضرا بهذه المساعي، إذ من الحكمة ألاّ تضع المعارضة جميع البيض في سلة واحدة، ونأمل من الكيانات المعارضة للحوار، أن تلتزم بالنقد البناء بعيداً عن مبدأ (يا فيها او طافيها)، وأبداء الحرص من قبل المحاورين والممانعين على سلامة شعرة معاوية بينهما، ومن الجيد أن ظهر هذا الفهم بوضوح من خلال حوار د. جبريل وراشد سيد احمد القيادي بالحزب الشيوعي بلندن عبر قناة البي بي سي مؤخرا، غير أن رئيس حركة العدل والمساواة السودانية اثار مخاوفنا حين ذكر خلال هذه الطلّة، أن مسألة الحريات العامة، هي ضمن القضايا التي تهم كافة الشعب السوداني، مما يعني ليس هم وحدهم (نداء السودان) من يبت في امرها، ومرد مخاوفنا، الشك في إمكانية حدوث إنتفاضة شعبية، تفضي إلى تغيير جذري في هيكلية الدولة السودانية في ظل إستمرار القمع السياسي وتكميم الأفواه.
إن حبلت المفاوضات المقبلة، نتوقع ان تكون الولادة متعسرة، لمولود قد يفرح الجميع لمقدمه، إن تمكنت قيادات نداء السودان من اخفاء عَصيهم بمهارة، واستخدامها في الوقت المناسب باحترافية وحكمة واستطاع اصحاب اللجاجة “شيل” الصبر، وإن تهاونت المعارضة في هذا الأمر، فالسيناريو معروف. دخلت نملة واخذت حبة وخرجت.
[email protected]