احمد داوود
عندما تفشل الوعود ، أو حتي السطوة في السيطرة علي الشعوب واخضاعها ، غالباً ما تلجأ الحكومات الي ابتداع وسائل أخرى . و من بين هذه الوسائل : افتعال المشكلات ومن ثم تقديم الحلول . حيث تقوم الحكومة المعنية بافتعال مشكلة ما ثم تقدم نفسها كمنقذ بعد أن يصيب الشعب درجة معقولة من اليأس والإحباط نتيجة فشله في حل المشكلة التي تم اختلاقها له عمدا. و بحسب المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي : فإن الأسلوب أعلاه سيمكن الحكومة من فرض أو تمرير الفكرة أو الغاية التي يراد تمريرها بدعم من الجمهور والذي سبق وأن رفضها في وقت سابق . وفي مجتمع ينقصه الوعي السياسي ، والمعرفة بأدوات العملية السياسية فإنه من السهل أن يقع الجمهور فريسة سهلة لمصيدة النخب السياسية .
مع نهاية العام الماضي شهدت مدينة الجنينة بولاية غرب دارفور صراعا داميا خلف عشرات القتلى والجرحى ، فيما كثرت ظواهر السلب والتحرش بالعاصمة الخرطوم ، أما مع مطلع العام الجديد فقد تجددت المواجهات القبلية في مدينة بورتسودان شرقي البلاد . هذه الأحداث تزامنت مع المفاوضات الجارية الآن بين قوي الكفاح المسلح و الحكومة الانتقالية في العاصمة جوبا .
قبيل عدة أسابيع صرح قيادي بارز : أن البلاد علي حافة الانهيار ، مما دعاه في تلك اللحظة الي التلميح بإمكانية إجراء انتخابات مبكرة . و قبل ذلك أيضا بفترة سربت الصحف أخبارا تفيد اعتزام قوي الحرية و التغير تقديم مرشحيها لمنصب ولاة الولايات مع قائمة توضح أسماء المرشحين .
حينها لم تلق تلك الخطوة أية تأييدا او استجابة كافية من قبل الرأي العام ، أما من جانبها فقد أبدت قوي الكفاح المسلح استنكارها ، بل و دعت بشكل واضح علي لسان بعض قادتها الي ضرورة تأجيل البت في تلك القضايا حتى الفراغ من ملف السلام .
اذا_هنالك تيارين يتصدران المشهد الآن ، أحدهما يدعو إلي تعين الولاة مع تمسكه بفكرة إجراء انتخابات مبكرة ، وآخر يري خلاف ذلك . وبقدر ما كانت دعاوي التيار الأول صحيحة و منطقية الا إنها مقارنة بدعاوى التيار الآخر ضعيفة و هشة خاصة إذا ما علمنا أن السلام لا يتحقق مالم يتم الاتفاق حول قضايا السلطة والثروة لارتباطها المباشر بجذور الأزمة السودانية .
علي أرض الواقع ليس هناك ما يدعم دفوعات التيار الأول ؛ فالقوي السياسية ليست مستعدة بعد لخوض انتخابات مبكرة ، ولو حدث وان أجريت سيكون الفوز حتماً من نصيب التيارات الموالية للنظام السابق بحكم سيطرتها على معظم مفاصل الدولة ، وهيمنتها علي الاقتصاد ، الجيش والشرطة . وهذا ما لا يقبله بعض الأحزاب كالشيوعي الذي ظل يعمل تحت الأرض لسنوات . علاوة علي ذلك إجراء انتخابات مبكرة يتعارض بصورة واضحة مع ما توافقت عليه القوي السياسية و ما تعهدت به أمام الشعب ، والإصرار على إجرائها قد يثير حفيظة الشارع العام .
هذا بالطبع يعني أنه لا يمكن اجراء انتخابات مبكرة دون الحصول على التفويض من قبل الشعب ، وبنفس الوقت لا يمكن بأي حال سد الطريق علي قوي الكفاح المسلح مالم يتم تعبئة الجماهير و اصطناع رأي عام رافض لفكرة التأجيل .
التيار الذي يسابق الزمن الآن لتعيين الولاة ، أو إجراء الانتخابات هو في حقيقة الأمر التيار المؤيد لخيار الهبوط الناعم أو الآمن . وهو جسم من الأجسام المكونة لقوي الحرية و التغيير . وتحركه الأطماع السلطوية و المحافظة علي الامتيازات التي ظل يحصل عليها على مدار المائة وخمسون عام الماضية . لهذا فإنه علي استعداد تام لان يضحي بدماء الشهداء و يتفاوض مع قادة النظام السابق طالما أن ذلك يحقق أهدافه . وفي تصريح سابق أكد مني اركو مناوي قائد حركة تحرير السودان وجود هذه المفاوضات كاشفا حتي عن المكان و الزمان التي تمت فيها والشخصيات المشاركه .
ما يميز التيار السابق : أنه الأقرب ايدلوجيا للمعسكر المحسوب للنظام البائد . واذا صحت تصريحات مني ، أو غيرها من تسريبات عن اجتماعات تمت بين قائد الأمن البارز صلاح قوش و بعض قادة الحرية والتغير قبيل سقوط البشير ، إذا صح ذلك فهذا يعني أن هناك مساومة تمت في الكواليس . المساومة بطبيعة الحال ستقوم علي قيام العسكر بتسليم السلطة لأعضاء هذا التيار مقابل أن يقوم هولاء بضمان سقوط أو تنازل آمن للعسكر و قادة النظام السابق مع توفير الحماية والحصانة من المحاكمات .
ولكن يبقيالسؤال ملحا _ كيف سيتم ذلك ؟
فقط عن طريق سد الطريق أمام القوي المناهضة سواء كانت أحزاب أو حركات كفاح مسلح بخلق رأي عام مؤيد لتعيين الولاة أو إجراء الانتخابات المبكرة .
و هنا يتكفل العسكر بالقيام بالدور المرسوم مسبقاً : افتعال المشاكل والأزمات _صراعات عرقية ، انفلات أمني _، مع تقديم الحلول المنقذة .
يظل الهدف الأسمى هو إجراء الانتخابات أو تعيين الولاة بما يضمن سيطرة التيار الموالي علي مقاليد الحكم ، غير أن هذا الهدف سيواجه بالرفض إذا ما نفذ بصورة مباشرة ، وبالتالي لابد من تهيئة الشعب قبل ذلك بما يضمن قبوله لأي مقترحات أو حلول تقدم إليه.
لو أن الشعب لم يتفاعل قبل ذلك مع الأصوات الداعية لإجراء انتخابات مبكرة ، أو مع قائمة مرشحي الحرية و التغيير ، التي رفضها البعض وعدها مجرد محاصصات فإنه في هذه اللحظة بالذات سيجد نفسه مرغما علي التفاعل معها .
و بسبب الانفلات الأمني ، و نوايا الدولة العميقة التي تتربص بثورته العظيمة سيقبل الشعب بأية مقترح لإجراء انتخابات مبكرة أو تعيين الولاة طالما أنه سيقضي علي الكيزان الاشرار ، ويحقق الأمن والاسلام حتي لو دعت الضرورة الي تسيير المواكب أو الوقوف ضد مفاوضات السلام التي تجري الآن بالعاصمة جوبا .