شغل نظام البشير الرأي العام بعملية جمع السلاح المزعوم من أيدي المواطنين في دارفور وكردفان والتى إنطلقت حسب زعم الأخبار بمناطق في ولاية شرق دارفور والتى سوف تستمر في كافة الأرجاء حتى جمع آخر قطعة سلاح حسب زعم قادة النظام ، وقد أوكلت هذه المهمة إلي لجنة برئاسة حسبو محمد عبد الرحمن نائب البشير ولا يخفي علي المتابعين دلالة إيكال هذه المهمة الخطيرة إلي حسبو تحديدا دون غيره من قادة النظام والتى تنطوي علي مخطط خبيث كما فعلوا مع دكتور علي الحاج إبان طريق الإنقاذ الغربي وما دار حوله من لغط وفساد إنتهي بخلوها مستورة !!
وبالتالي أي نتائج وإفرازات محتملة جراء هذه العملية الرعناء سيتم تحميلها إلي (ولدكم) كما فعلوا مع دكتور علي الحاج .
والعالم بأسره يعلم بأن أكبر حزب مليشوي مسلح هو حزب المؤتمر الوطنى الذي يمتلك مليشيات قبلية تحت لافتات مختلفة ، حرس الحدود ، الدفاع الشعبي ، الدعم السريع ، الأمن الشعبي وووإلخ وإذا كان النظام جاد فيما يقول فليبدأ بتجريد هذه المليشيات الرسمية من أسلحتها أولا ومن ثم الخطوة التالية جمعه من المواطنين والقبائل في ظل توفر سلام وأمن وإستقرار علي الأرض ، فالنظام يعلم كل هذه الحقائق وإستحالة جمع السلاح بهذه الكيفية وأن الجو السياسي ملبد بغيوم الحرب .
وجود السلاح في أيدي القبائل والمواطنين سابقا لوجود حكومة الجبهة الإسلامية القومية وهي سارت علي النهج الذي أختطته حكومة الصادق المهدي في أواخر الديمقراطية الثالثة منتصف الثمانينات حيث قام المهدي بتسليح القبائل العربية في كردفان ودارفور والتى عرفت بمليشيا المراحيل بغرض مواجهة التمرد في جنوب كردفان وجنوب السودان ، وكنا صغارا حينها ونحن نشاهد شحنات الأسلحة التى تتدفق إلي جنوب كردفان ومنطقتنا لقاوة تحديدا عبر سيارات اللاندروفر وجموع المليشيات المتجهة إلي جبال تولوشي وكيقا وتيما وجلد وغيرها من الجبال الغربية وغرب كادقلي وكنا نجري وراءهم لإشباع فضولنا ولم نعرف حينها حقيقة المجازر المحدقة بأهلنا في جبال النوبة وهم يرددون هتافاتهم وأناشيدهم :
نحن أسود فوق كيلي…هوبنا
كلام البنات ما بننسي…هوبنا
وفي كيلك ولقاوة عدونا شاف شقاوة
وغيرها من أناشيد الحماسة لمواجهة عدو متوهم ، وما هي إلا ساعات وتأتي العربات راجعة من مسارح العمليات تحمل الجرحي والمصابين وأخبار (إستشهاد) فلان وعلان ، ومن ثم تحمل قوم آخرين تزج بهم في هذه المحرقة العبثية التى دفعنا فيها فاتورة باهظة الكلفة أرواحا وممتلكات وتهتكا للنسيج الإجتماعي وآلاف القتلي والأيتام والأرامل والمعاقين حركيا .
ثم الحرب الليبية التشادية حول إقليم أوزو كانت عاملا آخر في دخول السلاح إلي دارفور وكردفان بحكم الجوار والقبائل المشتركة .
عملية الهجوم المنسوب إلي الجيش الشعبي علي منطقة قردود أم ردمى في 1987 والمجازر البشعة التى حدتث بحق قبيلة الحوازمة العربية في تلك المنطقة والتمثيل بالجثث وحرق الأطفال وغيرها من الجرائم غيرت من مجري الحرب وإستقطبت معظم القبائل العربية ضد الحركة الشعبية علي إمتداد الشريط من أم دافوق إلي الجبلين بالنيل الأبيض وساعد إعلام النظام آنذاك في هذا الإستقطاب القبلي مع تدفق السلاح إلي أيدي المواطنين بحجة حماية أنفسهم من التمرد ولكن المنطق يقول أن مسئولية الحكومة حماية المواطنين وليس العكس ، والحقيقة لقد تأكدت بنفسي عن حقيقة ودوافع المجزرة أعلاه من قيادة عليا بالجيش الشعبي أذكر منهم اللواء تلفون كوكو أبو جلحة واللواء مريال نوار مدير إستخبارات دولة جنوب السودان والمرحوم جون لات مدير إستخبارات جنوب السودان الأسبق والذين أكدوا لي عدم ضلوع الجيش الشعبي في مجزرة القردود بل متفلتين من دينكا فاريانق تخرجوا من معسكرات التدريب في إثيوبيا وهربوا بأسلحتهم إلي جنوب السودان وإرتكبوا هذه المجزرة بدوافع ثأر قديم مع جيرانهم الحوازمة بجنوب كردفان.
بعيد إنقلاب الجبهة الإسلامية القومية في 30 يونيو 1989م ولتثبيت أركان حكمها والتصدي للتمرد سارت علي نفس المنوال الذي سار عليه سلفهم الصادق المهدي بتجييش المواطنين علي أساس قبلي رغم علمهم بخطورة هذه المسلك وتهديده للوحدة الوطنية وسلامة المجتمعات وإستقرارها ، فتم إنشاء الدفاع الشعبي والشرطة الشعبية وغيرها من مسميات المليشيات الرسمية وأعلنوا الجهاد علي ثلث السودانيين وتكفيرهم بزعم مواجهة القوي الصليبية وإعلأ كلمة الله بل كانت أشعارهم وتصريحاتهم تقول بأن الحرب في الجنوب ما هي إلا طريقا لوصول الجيوش الإسلامية إلي أدغال إفريقيا بل أن المعركة الحاسمة مع أمريكا وروسيا (أمريكيا روسيا قد دنا عذابها) !!
وحدثنا برنامجهم المسمي ساحات الفداء كيف أن القرود تحارب في صف المجاهدين وأن الملائكة إشتركت في معركة كذا وحلت الهزيمة بأعداء الله والوطن ، وكيف أن زعيمهم المرحوم قد نصبه الله وليا للحور العين يزوجهن إلي الشهداء المزعومين وهو جالس في داره بالخرطوم وسط التهليل والتكبير في منظر أقرب للدروشة إن لم يكن عين الجنون !!
بفعل العوامل التى ذكرتها آنفا والتسليح الممنهج للقبائل العربية في دارفور وكردفان الذي سارت عليه حكومتا المهدي والبشير وما تحصلوا عليه غنائم في الحرب أصبحت القبائل العربية تمتلك ترسانة عسكرية كبيرة توازى ما تمتلكه القوات المسلحة بل تتفوق عليها أحيانا .
بعيد إندلاع الحرب في دارفور 2002-2003 قام النظام بإنشاء مليشيات قبلية قوامها من القبائل العربية وقلة من قبائل دارفور من غير العرب بحجة مواجهة التمرد الذي أعياء القوات الرسمية للدولة ، فتمت صناعة الشيخ موسي هلال من العدم ووفرت له كافة أشكال الدعم فغدا زعيم قبلي ومليشوي وتم منحه منصب متقدم في السلطة المركزية ولكن يبدو أن للشيخ موسي هلال طموحا أكبر من هذا المنصب وهو الذي يمتلك مليشيا حرس الحدود وجبل عامر وما أدراك ما جبل عامر ، وحاول مرارا الضغط علي النظام لتحقيق مآربه عبر الكروت التى يمتلكها خاصة عندما شعر بأن النظام قد إستغني عنه بعد أن أستنفذ أغراضه منه بل تمت صناعة الجنرال حميدتي ليكون بديلا لموسي هلال وسخرت له كل الإمكانيات حتى أصبحت قواته بديلا للقوات المسلحة ولها تجهيزات عسكرية هائلة ودعم مالي غير محدود ، وهذا ما جعل الشيخ موسي هلال يحس بالخطر وبدأ يرسل نقده اللازع للنظام والتهديد وراء التهديد ، ومن هنا جاءت فكرة جمع السلاح من أيدى المواطنين كهدف معلن ولكن هنالك دوافع أخري لا يستطيع النظام ذكرها صراحة أوجزها في النقاط التالية:
1. أصبحت القبائل العربية في دارفور وكردفان مهدد حقيقي لوجود النظام لما تمتلكه من أسلحة وعتاد حربي يوازي عتاد قوات النظام إذا وجدت قيادة وأعية ذات طموح وهدف ، لذا صنع النظام حروبا بين القبائل العربية بغرض إضعافها (رزيقات ، مسيرية، بنى هلبا ، هبانية ، معاليا ، سلامات)ووالخ وحروبا بينها وجيرانها من القبائل الأخري لذات الهدف.
2. تجريد الشيخ موسي هلال من سلاحه ومليشياته حتي لا يفكر في التمرد المسلح أو التواصل والتنسيق مع الحركات المسلحة والوقيعة بينه وإبن عمه حميدتي ويعلم النظام بأن إضعاف مكون الرزيقات كأكبر قبيلة عربية هو إضعاف لكل المكون العربي ، وإسناد مهمة جمع السلاح إلي مليشيا الدعم السريع دون غيرها ذات مغزي ودلالة.
3. بدأ النظام يتوجس من ثورة الوعي الذي بدأ يتسرب إلي الغالبية العظمى من القبائل العربية بعد أن أدركوا أن النظام قد أستغلهم في حرب عبثية لا ناقة لهم فيها ولا جمل وهي ليست حرب جهاد ولا يحزنون بل هدفها تكريس السلطة في أيدي قلة من الوسط والشمال النيلي وترميز تضليلي لأبنائهم (عمدة بلا أطيان) وقد خسروا القريب والبعيد بسبب هذه الحرب الملعونة بل أن النظام تنكر لكل الخدمات الجليلة التى قدموها له .
4. بدأ النظام في تكوين حلفاء جدد من المنشقين من الحركات المسلحة (أغلبهم من غير العرب) مثل تجاني سيسي وبحر أبو قردة ودبجو ومحمدين أركاجور وأبو جمال وغيرهم من الموقعين علي صفقات مع النظام ، وقد بدأ في تدريب قواتهم بغية دمجها في مليشيا الدعم السريع من جهة عدم دمغ مليشيا الدعم السريع بالعرب ولتجريد حميدتي من قواته من الجهة الأخري عبر بيعهم كمرتزقة كما حدث ويحدث في اليمن أو توزيعهم في كافة أرجاء السودان وإبعاد تأثيره عليهم حتى لا يصبح موسي هلال آخر خاصة عندما بدأ يتطلع إلي مراتب عليا في الدولة مثل وزير دفاع وخلافه ، وهنالك إحتمال يظل حاضرا وهو تصفية حميدتي جسديا وتغييبه من الساحة لإكمال المخطط المرسوم خاصة وإنه لن يسكت علي عملية تجريده من قواته وهو يري الموس في رأس أخيه موسي هلال فلابد أن يبل رأسه وينتظر ما تحمله الأيام.
في الختام أقول بأن عملية جمع السلاح كلمة حق أريد بها باطل ، والنظام يريد ضرب أكثر من عصفور بهذه العملية التى جاءت في ظروف سياسية وأمنية غير مواتية ، وإطلاق هكذا عملية يحتاج إلي سلام وأمن وإستقرار وحكم رشيد وإرادة بمشاركة الجميع حكومة ، أحزاب ، إدارات أهلية ومجتمعات ، وليس من الكياسة والذكاء السياسي أن تجمع السلاح من زيد لتمنحه إلي عبيد من الناس وإحلال مليشيا قبلية بمليشيات قبلية أخري !!
الأيام القادمة سوف تكشف خطل النظام وهو أول من يكتوي بلهيب النيران التى أشعلها والأزمات التى صنعها ، وقد حذرنا مرارا من خطورة تسليح المواطنين وصناعة المليشيات القبلية وتهديد السلم المجتمعي ووحدة وإستقرار السودان .
ومن العجز والعوز أن يعالج النظام أخطأه بأخطاء أكبر منها دون أن تكون له شجاعة الإعتراف بخطاياه .
محمد عبد الرحمن الناير (بوتشر)
16 أغسطس 2017م