أفندي جوزيف
مرحباً أعزائي القراء بمختلف مسمياتكم، أريد أن أتوكل مباشرةً على الله لأنني متناسقاً معكم ..
التفكير في أصل الصراع في جنوب السودان بالنسبة لي هو مرحلة أساسية، ولكنه يحتاج إلى تأسيس ينطلق من فهم المثقف الجنوب سوداني لذاته وكيفية تفاعله مع واقعه ومع الآخر المختلف خاصةً عندما يكون أصل الصراع مع طبيعة الإختلاف والتباين الثقافي في المجتمع، وتحتاج لبحثه الدؤوب عن الحقيقة التي تقتضي رفض القوالب الأيدولوجية الجاهزة لأن كل ما هو جاهز هو بالضرورة سيئ في أغلبه.
فعلى أساس أن التفكير له نقطة بداية وليست له نقطة نهاية إن لم نصل إلى نقطة البداية؛ على هذا الأساس سأسير معكم من محطة البداية التي هي الوقوف خلف هالة الصراع الجنوب سوداني .. الجنوب سوداني الذي سال دماءه بغزاره؛ ومنها سأنتقل بكم إلى منطقة أخرى آلا وهي محور الصراع الأساسي وسأحاول أن أدخل بقية المعلومات إلى عالمكم (عالم القراءة) بتسلسل لكي لا أصدمكم بما يخالف أفكاركم وقناعاتكم. وإستمكالاً لموضوع نقطة البداية تلك، سأتعامى قليلاً عن التعرض للنهاية وليس عن البداية أو أصل الصراع في جنوب السودان لأنني أحاول أن أعالج هذه المعضلة بإدراك أن الوطن لم يعد لكل الناس ولم يعد هو وطناً يسع الجميع وأن القوانين التي تحيط به وتحكمه تمثل من ناحية أولية أدنى درجات الركود الفكري والإنساني لإنسان جنوب السودان عبر التأريخ، ومن ناحية ثانوية تمثل أعلى درجات تسخّير جهود الوعي الإثني والسياسي من قبل غلبة أو أغلبية المثقفين الجنوب سودانيين للدفاع عن حزب الحركة الشعبية الحاكم وعن مصالحه؛ وكان أحدثها ما كتبه الكاتب والمفكر السوداني “أبكر آدم إسماعيل” في أحدث كتاب له (جدلية المركز والهامش) وأرجع مثل هذه الصراعات إلى سبب رئيسي هو تجذر الإنتماء البسيط في سلوك الفرد.
وبالرغم من ذلك أنا لا أتفق مع واقع جنوب السودان بل أتفق مع كتاب وفكرة د. أبكر آدم إسماعيل في أن (جدل الثقافات المُتعددة) خاصةً ما حدده في مسألة (الحد الثقافي)؛ عموماً أنا أتفق معه لأن الإنتماء البسيط هو عامل أساسي في إدراك وقبول شريعة الإختلاف والتباين الثقافي عند المجتمعات، لا سيما العوامل الأخرى كالعرق ومصادر الثروة والعادات والتقاليد بالإضافة إلى التموضع الجغرافي، لتصبح فلسفة القومية أو الفكر القومي الذي كان يدعوا له ثوار جنوب السودان قبيل الإنفصال في 2011م أكثر إنفتاحاً وتقبلاً للآخر بشكل أكثر واقعية من قبول الآخر بواسطة الجغرافيا؛ لأننا تيقنا من أن “جورج سانتايانا” صح؛ عندما قال: ((أعتقد أنها إهانة فظيعة أن يكون للمرء روح محكومة جغرافياً )). ونحن بعد إنفصال جنوب السودان بدأ علينا الطغيان من جديد ولم نعد صح في كل حياتنا لأن حكومتنا الجديدة أعادة إنتاج التناقض القديم وتمسكت بالتاريخ بدون إستفهامات أو إجابات وبدون تصديق أو تكذيب وهكذا غابت العدالة الإجتماعية وغابت العلمانية Secularism ونهضت الدكتاتورية من جديد حتى جربنا تدفق الألم من طاغية جنوب سوداني وأفريقي مثلنا بعد أن فشل في نقل جنوب السودان من دولة “ثورية” إلى دولة “مدنية” وإستعصى مشروعه الأساسي “السودان الجديد” على التطبيق لإنعدام الكادر السياسي المؤهل ولضعفهم في إستيعاب الفكر الذي كان يحمله “حزب الحركة الشعبية” منذ بزوغه بحسب ما تقدم منهم ـ أي من تجربتهم ـ من إنتشار للجهل والفوضى كمبتدأ وأساس لتجربتهم الفكرية والسلوكية في الحُكم بعد إنفصال جنوب السودان في 2011م.
والإثباتات الأولى لما ذكرته أعلاه هي أن المثقف في جنوب السودان لا يعني وساعة الفكر والبال ولا يعني وقوف الإنسان ليواجه الحقيقة الصعبة في أنه هو المسؤول الأول والأخير عن مصيره ولا يعني أنه ـ أي المثقف ـ من يحدد الغايات من وجوده، ولكن هنالك مثقفين ما محددين ومعروفين هم من أدركوا أنه لا وجود لذات واعية في جنوب السودان تدير جنوب السودان أو على الأقل يجب أن يكون هذا هو الإفتراض المبدئي ليضطلع الإنسان المثقف بذاته وينطلق منها نحو العقلانية والعلمية التي بدورها تقدم المجتمع وتعمر الدولة؛ حتى إنتهى به (المثقف) الأمر إلى مجرد أداة حرب وإحتراب لضعف الشخصية المغايرة للفكر المتوارث.
وتبقى الأسباب والإثباتات الثانية في طبيعة الصراع الجنوب سوداني .. الجنوب سوداني هو أن جنوب السودان عندما كان إقليماً بدأ مقاومته للأنظمة السودانية القديمة عسكرياً أي بدأ بإنتاج كوادر سياسية ذوي ثقافة عسكرية بحتة فضلاً عن أن الإنتخاب الطبيعي في السودان القديم ظل ينتخب المُتعلمين الجنوب سودانيين بالذات إنتخاباً قسرياً لفترات طويلة، فكان من البديهي أن يبدأ الجنوبيون رحلة مقاومتهم بالطريقة العسكرية لأنها أكثر الطرق كفاءةً في ذلك الوقت، ولكن، المشكلة تكمن في أنه وبعد إنفصال جنوب السودان إستمرت عسكرة الدولة بإستمرار وظيفة هؤلاء العسكر في الحُكم وفق ميكانيزم الصدفة الذي عجز بعد وفاة زعيم الثورة ومؤسس حزب الحركة الشعبية د. جون قرنق؛ عجز على تقديم فرصة لشعب جنوب السودان ليحُكم بدستور وحقل شعبي ومعرفي ومُتقدم مقارنةً بالدستور والحقل السوداني المُنفصل عنه بإعتباره نِداً معرفياً ورجعياً أي متخلف وهو ما بينه د. محمد جلال هاشم و د. أبكر آدم إسماعيل عن طريق عرضهما الواضح والصادم للطغاة في كتابيهما؛ بما يعرف بــ (أيدولوجية الهيمنة الرسمية أو الإسلاموعروبية) التي لها عدة أشكال ووظائف؛ وعليه: تبدل شعور إنسان جنوب السودان بوجودها أي بوجود (الأيدولوجيا الإسلاموعروبية) فنبت لديه ـ شعب جنوب السودان ـ شعور بالإحتقار وشعور آخر بأن الوعي الشمالي (أي وعي السودانين غير الجنوبيين) يوجد خلفه شئ مُستفهم (؟) أو شئ غامض.
ولكن، قبل إنقسام السودان إلى “سودانان” تبادلت الحكومتين “حكومة المؤتمر الوطني في الخرطوم” و “حكومة الحركة الشعبية في جوبا” الأفكار والميكانزمات أو آليات الهيمنة على السودان بإقتسام المساحات المتفق عليها في إتفاقية السلام الشامل 2005م ما عدا عدة أو بضع مناطق إقتصادية وإنتاجية كمنطقة “أبيي” ظلت عالقة لإعادة إصطفاف السودانان عليها كإحدى أهم عوامل القوة الإقتصادية والطبيعية ولإستمرار البلدين في علاقة جدلية ذات بُعد منظم ومشترك ولخلق حياة في المستقبل قابلة على التفاهم والتعايش مع توحُد الشعوب والذي بات يُعرف حديثاً بنظرية العقد الكوكبي Social Globalization ؛ وبعد هيمنة أيدولوجية الهيمنة الرسمية لحزب حركة الشعبية في جنوب السودان والذي بدأ يتشكل بموجب الصراع الحالي كـــ “أيدولوجيا إثنوسياسية” أشبه في وظيفته الرئيسية بـوظيفة “الأيدولوجيا الأسلاموعروبية في السودان من ناحية التمركز والتهميش” والتي إبتدأت عندها تاريخياً بالنضال من أجل الوصول إلى سُدة الحكم أولاً لا الوصول إلى نتائج أفضل، ومن ثم التغلب على الوحدة الوطنية أو ما يعرف بمفهوم “الهُوية القومية عند الشعوب” من أجل البقاء على سُدة الحكم لآف عام بحسب إحدى تصريحات رئيس جمهورية جنوب السودان، ولو بالإقدام على تقسيم السودان بالنسبة لحكومة المؤتمر الوطني. المعرفة المسبقة لهذا الطرب أي لأفكارهم وميكانزماتهم هذه تتناقض تماماً مع الهدف الذي كان يتجه إليه حزب الحركة الشعبية قبل الإنفصال، من بعد أن أجازت فكرة (حب السُلطة) فضلاً عن أن ممارساتهم الحالية جاءت مضادة لمختلف التوقعات وهو ما تطرق له د. منصور خالد المستشار السابق لكل من الدكتور الراحل. جون قرنق ديمبيور والرئيس الحالي”سلفاكير ميارديت” في حوار صحفي له مع جريدة “السوداني” أجرته الصحفية (لينا يعقوب) وعذراً لا أتذكر تأريخ الحوار بالضبط؛ ولكنني أذكر أن الصحفية نقلت لمنصور خالد سؤالاً هاماً ألا وهو: “إقتباس” * قلت في حوار سابق أنك شعرت بتغليب كفة الإنفصال خاصة بعد إنسحاب وزراء الحركة الشعبية من الحكومة .. لماذا، وبعد تيقنك من الأمر، لم يظهر لك دور واضح بين الأطراف لإعادة فكرة السودان المُوحد؟ فأجاب د. منصور قائلاً: “الفكرة لكي تتحقق لابد أن يتفق الطرفان عليها، والطرفان إتفقا عليها في إتفاقية لها مشرفين وبها قواعد وبرنامج وفترة زمنية محددة لتنفيذ بنودها، كل شئ كان موجوداً، والمسألة لم تكن مسألة وساطة أو لعب دور .. الإتفاقية ـ مثل أي إتفاقية ـ هي التي تُفسر ذاتها وليس الكلام الذي يدور حولها .. إنتهى ما وددت توضيحه من النقطة أعلاه لكي لا يصبح الموضوع مجرد كلام وفض مجالس فقط؛ أن هناك دراسات جرت منذ 2006 لرصد نشاط طرفي إتفاقية السلام الشامل 2005م وأظهرت النتائج أن نشاطهما مختلف من واحد إلى آخر كما أن التحولات وبنود الإتفاقية لم تجري بنفس التواتر؛ الباحثين أوضحوا هذه النتائج بكون عدم تطبيق بنود الإتفاقية بحزافيرها هو نقطة لتجدد وتجديد الأزمات في كلا البلدين بعد ضمان نزعتها الملحوظة نحو خيار تقسيم السودان بينهما، وتكمن أهمية تلك الدراسات في العِلمية التي يمكن فهمها في النسج والسلوك المتشابه بين حزب المؤتمر الوطني وحزب الحركة الشعبية (أنظر إلى محتوى مقالات العميد “تلفون كوكو أبوجلحة” المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وجهان لعملةٍ واحدة) لتجد حقيقة كلاب بافلوف والشخصية السايكوباتية، حيث أن السياسات (سياسات حزب الحركة الشعبية الحاكم وحزب المؤتمر الوطني الحاكم) والسلوكيات متشابه إلى درجةٍ كبير ويعملان في الوقت نفسه بشكل متناظر، لذلك قال الباحثين أنهما سيكونان حزبان مُعَرضان لنفس النهاية الشعبية أو الجماهيرية المتوقعة، كيف،؟ لأن دور الصدفة أو العشوائية في العمل السياسي دائماً بسيط. إذ عادةً تكون المعطيات أو الإحتمالات السياسية لتشكل واقع سياسي ما وبالأخص واقع مثل الواقع الجنوب سوداني يكون القياس العِلمي لهذا الواقع الجنوب سوداني أو لهذين الواقعين هو نتاج سياسة واعية ومخططة من قبل الطبقة أو الجماعة الحاكمة في كلا البلدين، وعلى سبيل المثال عندما يتعرض النسيج الإجتماعي إلى الخطر، هذا الأمر يعطي إحتمال سياسي وحيد هو غياب العدالة الإجتماعية وغياب الوطن الذي يلبي إحتاجات مواطنيه وإحترام تطلعاته بشكل كفء أو عادل أو متبادل لعدم ضمان أو نشوء أوكسجين ثقافي واحد أو لعدم ضمان تحقيق أو نشوء شعب ذو قومية ثقافية ـ إفريقيةً كانت أو غيرها مُوحدة ومميزة كبصمة الأصبع؛ وهو ما أسموه بــ (أزمة الهُوية) والتي سأتناولها في الجزء الثاني إنشاءالله.
ولكن لولا سياسة الهيمنة الرسمية لحزب الحركة الشعبية التي لم تقم بقبول بقية القوميات والثقافات الجنوب سودانية الأخرى؛ بعد إنفصال جنوب السودان؛ لكان جنوب السودان بعد إنفصاله مكاناً أفضل بتشكيله للعتبات ذات الأهمية الخاصة والمتفردة خاصةً في الخطاب المُعاصر المُضاد للخطاب التاريخي المُعتمد على الدين أو القبيلة أو الجهوية أو كذا من ما هو من السابقات والضيقات آه ولكن للأسف برزت لدينا في جنوب السودان نفس الإرادة الحكومية القديمة ـ الطاغية والمُسيطرة بحُكم التأريخ والتأريخ وحده، حتى أصبح هذا التأريخ يرمز إلى قيام (دولة جنوب السودان) على أكتاف المستقبل المجهول، لأن حزب الحركة الشعبية الحاكم بات يستند على التأريخ بدون وضع تصور محدد لشكل المستقبل (أنظر لكتاب التخلف الإجتماعي أو سيكولوجية الإنسان المقهور والمهدور لعالِم النفس د. مصطفي حجازي خاصة فيما يتعلق بالديمومة وما يؤدي إلى إنسداد أفق المستقبل) فصار حزب الحركة الشعبية يرمز إلى المجهول الذي يشير إلى عالم اللايقين الموجود داخل كل ما هو ليس (عِلمي) و (أدبي) وبالتالي صار جنوب السودان كــ (دولة) مسجون ضمن سجون التخلف والإنغلاق، وبات جنوب السودان يجهل كل شئ تماماً ويجهل حتى اليابسة التي تطؤها أرجله وهكذا أصبح جنوب السودان بعد إنفصاله لا يميز ولا يعرف ذاته من أرضه، وأصبح بلا حقيقة وبلا وطن (تجد ذلك في كتاب ـ ميشيل فوكو ـ تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي 1961) لإستمراره في تطوير أزمات السودان القديم؛ ملحوظة صغيرة: (إصطلاح السودان القديم هو بالنسبة لي هو سودان ما قبل إنفصال جنوب السودان).
أما إتفاقية السلام 2005 كبحث عِلمي أثبتت أن طرفي (السلام) لم يهتموا بنور أو بند التنمية المتوازنة والمستدامة في جنوب السودان وشمال السودان ولم يهتموا بتطبيق الديمقراطية ولا بدعوة الناس إلى سبيل العيش في وحده جذابة ولم يطمسان الظلام بالشكل المنصوص عليه في الإتفاقية أو بحسب ما ألثمت به الإتفاقية من جلا وهيبة، وبالتالي غابت مرونة وشفافية العمل التنموي في الجنوب وفي الشمال وغاب التمرين على العدالة الإجتماعية والتنموية التي تسمح بتدفق الثقة بين الطرفين (طرفي إتفاقية السلام) وكان هذا مؤشر واضح لحالة ضعف تطبيق العملية الديموقراطية في جنوب السودان وشمال السودان وضعف متابعة الدولة (الدولة السودانية جنوبا وشمالاً) وضعف المحاسبة الدستورية لحماية حقوق ومقدرات الشعب لا سيما تغييب دور الأحزاب أو ما يعرف بالقوى الديموقراطية، وتضمنت تلك الفترة غياب العلاقة الثنائية (الشمالية والجنوبية) وعلى سير العلاقة بين الإقليمين لإمتناع (إمتنع) الطرفان على جعل النافذة التفاعلية أو خيار الوحدة جذاباً، حيث إنتهى مصير الإتفاقية بتطبيق بند (حق تقرير المصير) بعدما أجازوا (مسبقاً) فكرة التقسيم بينهما (أنظر إلى تأريخ إنسحاب المرشح الرئاسي لحزب الحركة الشعبية “ياسر عرمان” 2010)؛ أو كخطوة جاءت ضمن إتفاقية سرية بين حزبي (المؤتمر والوطني والحركة الشعبية) في إطار تنظيم إقتسام السودان بينهما بغض النظر إن كانت النتائج الأخيرة إيجابية لشعبي جنوب السودان والسودان أو غير إيجابية بالنسبة لهذين الشعبين أو لأيٌ منهما. وبعد إنفصال جنوب السودان تأثر حزب الحركة الشعبية الحاكم في جنوب السودان بشكل سلبي من خلال التجربة بأنظمة الحكم في السودان (سودان ما قبل الإنفصال) حيث إزدادت فترة حكم الحركة الشعبية بالتجريد والتصنيفات وأعاد تشكيل وتجديد المركز (مفهوم المركز بطابع إثنوسياسي) وإعادة تعريفه في جنوب السودان على أنه مركز إثنوسياسي وبالتالي أصبحت مقاومته أو الصراع ضده فعالاً بعد تمكن القوميات الأخرى من الشعور بالظلم والتهميش وبعد تعرفهم على إبتدأ تشكل سياسة التمركز والتهميش بطريقة ممنهجة ومعتمدة من قبل السياسة والأيدولوجيا الرسمية ـ الحكومية، وكما قالوا المفكرين أعلاه أن سياسة التمركز تؤدي إلى إنتاج تلقائي لمضادات أو مقاومات أو قوى سياسية معارضة بأشكال سياسية وإجتماعية مختلفة إنطلاقاً من التجربة الواقعة، وبالنسبة لها ـ اي تلك القوى المعارضة لنظام المركز ـ يكون دورها أعظم حيث تعمل كقوى معترضة على ظروف حياتية محددة وتتجه بها صعوداً إلى إنتاج دراسات لنظام المركز هذا ونشاطاته العملية ومن ثم تصبح القوى المُعترضة قادرة على إستخراج برامج على المدى البعيد، بيد أن التغيير الإجتماعي والعدالة الإجتماعية هي القاعدة الوحيدة التي تتوفر بها القدرة على مقاومة مثل هذه السياسات الحكومة المُهيمنة ـ المُرتكزة على القاعدة الفكرية التي تتراجع ـ بحسب التجربة السودانية ـ تتراجع أسياً بعدم إعترافها وإحترامها للإختلاف الثقافي ولجهلها بما يعرف بمفهوم (الأغلبية) إذ أن مفهوم الأغلبية لا يجري على المجموعات الإثنية، لا، بل يجري على الأفراد؛ الذين هُم المواطنين أو الشعب؛ لذلك فإن الأغلبية الإثنية هو دليل دامغ للتخلف الإجتماعي ودليل على تخلف قائلها (الذي هو حزب الحركة الشعبية وأتباعه ومجلس أعيانه “الإثني”) بالإضافة إلى حراس أيدولوجيته وحراس كراسيهم السُلطوية التي وحدها تثبت كذبة هذا التحليل والعكس صحيح.
حسب مشروع السودان الجديد هو أن يدخل المرء في علاقة جميلة مع الآخر حتى تعطي هذه العلاقة كل معاني الثقافة أو المدنية وهذا ما لم يحدث إطلاقاً (في جنوب السودان) لأن المثقفين والقوى الديموقراطية (البنية السياسية) التي سأتناولهم في الجزء الثاني ايضاُ .. إنشاءالله؛ لم تعجز فقط بل فشلت أيضاً في توصيل عب جنوب السودان إلى (مشروع السودان الجديد) وفشلوا في إدخال الناس في علاقة فيما بينهم على أساس المصير الإنساني المشترك أو لتذوق الحياة (ساي) أو لنشوء دولة سودانية على نمط البيئة ـ التأريخ ـ الإنسان (جدل الثقافات المتعددة) أو (النظرية التاريخية) مع تدمر الحدود الثقافية ذات المفهوم أو البعد الخطي بين الثقافات أو الإجتماع البشري في دولة جنوب السودان؛ لضمان إستقرار الدولة ولكي لا تستمر الحروب أعواماً طويلة بين الثقافات أو القبائل ولكي لا تظهر أو تنهض مركزية ثقافية (عُمقاً أو سطحيةً) ولكي لا تضعف الدولة. لم يفلح المشروع السياسي المسمى بمشروع السودان الجديد أن يصل لأعلى المرتبات في جنوب السودان ولم يستطع إيقاف المعارك ولم تستطع كيانات حزب الحركة الشعبية الحاكم أن تُعقلن البيئة وتبني مشروع دولة بل إستطاعت أن تزعزع الموروث الثقافي وأبقت دولة جنوب السودان تحت تأثير الحروبات الثقافية التي تم التخطيط لها بعناية من قبل حزب الحركة الشعبية الذي لم يتحرر من اللاوعي ولم يتوصل إلى صيغة تصالح مع ذاته وبالتالي لم ينطلق في تفكيره بحرية وهكذا لم يعش إنسانيته ولن يعشها قط لأنه يعيش الآن في تصالح مع نفسه في رحاب السُلطة. فعندما أرادت الحركة الشعبية التوصل إلى تقرير المصير بالذات Self-determination وعندما إنتهت الإرادة الحُرَّة القاطعة أو حرية الإرادة القاطعة Categorical free will لشعب جنوب السودان، نتج سؤال؟ ما الحاجة التي تجعل الجنوب سودانيين يتصارعوا بعد الإنفصال؟ من هو المثقف؟ ومن هو المفكر الجنوب سوداني؟
ومن هي القوى الديموقراطية الجنوب سودانية التي أجابت على هذه التساؤلات المشروعة؟ نجد الإجابة صفرية أو صفر Zero .. أي .. (لا يوجد صراع مثقفين في جنوب السودان) و (لا يوجد صراع مفكرين في جنوب السودان) و (لا صراع فلاسفة) و (لا توجد هناك تساؤلات جديدة)؛ لماذا؟ لأننا لم نضع نقطة البداية التي بدورها تبعث لنا الجديد من التساؤلات حول (من أنا ـ من نحن) ولأننا لا نعرف أن التساؤلات وحدها هي التي تُعبر عن الإنسان ولا نَعرف أن التساؤل الواحد ينطلق من نقطةٍ إلى أخرى؛ ولا نعرف أن المثقفين والعلماء كلهم كانوا يُحبون كلابهم جداً جداً دعك من (البشر) شُركاءهم في الوطن. ولكن .. أنا أفندي جوزيف .. أرى جنوب السودان يحاول أن يقنع نفسه بأكاذيب مؤقتة لا فائدة منها إطلاقاً وأرى أن حبي يتناقص لكل صحفي ومثقف جنوب سوداني لا يَقُل الحق .. أنا مجرد صحفي مُدرك أن جنوب السودان لا يعرف أي شئ عن (النظرية الوجودية) وأنا مجرد صحفي مُدرك أن عملية التفكير في جنوب السودان هي مجرد حركة حنجرية (متعلقة بالحنجرة)، فكيف يجب على المرء أنْ يفكّر بأسلوب أكثر إخلاصًا من هبوب الريح؟ وأنا مُدرك أن السبب الرئيسي للصراع في جنوب السودان هو (أزمة هُوية) أنا مُدركٌ بانني غريب في وطني. إلى لقاء آخر .. سنلتقي عند الجزء المقبل بإذن الله .. والله العليم الصحفي الذي أتى لبرهة من الزمن ثم سيغادر (أفندي جوزيف) !