محمـد أبكـر
وقد لا يخفي على الجميع الحالة المأساوية! نعم “المأساوية” التي تعانيها الصحافة السودانية قيد العقد الأخير، إن لم يكن منذ سطو حكومة “نظام” المشروع الحضاري، أو حزب مفاصلة مشروع الحركة الإسلامية على إرادة الشعب السوداني دهرئذ. فالحالة “الإكراهية القانونية” التي يعايشها هذا النمط – في الآونة الأخيرة – من الإعلام المقروء لهي الأسوأ على الإطلاق من قِبل حكومة الثلاث العقود – حكومة البشير وحاشيته – إلا بضعة أشهر وأيام. بيد أن الأمر لا يخرج عن دائرة الطبيعة الإشكالية أو العدائية لعلاقة الإعلام/الصحافة بالسلطة السياسية، وبالخصوص – الطبع الصراعي الدائم – في حالة حكم نظام شمولي، أو حكومة دكتاتورية، أو قيادة حزب أحادي قاهر.
ولما كانت قضية “الحرية” وسبل تدعيمها لا تأتي فرادى، وقد لا تتجزأ فإن مدى المعانأة من الإنحصار القانوني، والإنحسار الإنتاجي والتوزيعي والإبداعي اللذين تعايشهما الصحافة السودانية لا يقل قدراً وأهميةً وتأثيراً عن مدى ما يقاسيها المواطن السوداني سياسياً وإقتصادياً وقضائياً، الأمر الذي يؤدي – بشكلٍ أو بآخر – إلي تأويل أن الإشكالية بالكلية تكمن في إذدواجية المعانأة والتظلم; حيث في الوقت الذي يتحدث فيه “النظام” عن “هامش” الحريات الصحفية، إذ يؤكد في الوقت نفسه على إنوجاد “سقف” بعينه لهذا الهامش من الحريات الذي قام – النظام ذاته – برسمه قبلياً وصياغته وتحديده مُسبقاً عن قصدٍ ومنهجيةٍ بعينها، وعن دهاءٍ تخطيطي غير دستوري، وتنظيم لا أخلاقي تنظيري كبيرين، الأمر الذي يسحق – عن ترصد بالغ – أيقونة هذه الصحافة لقرنٍ وأكثر وهي مقولة البريطاني “توماس ماكولاي” الناطقة : “إن المقصورة التي يجلس فيها الصحفيون أصبحت السلطة الرابعة”، وهذا فضلاً عن إنساف المبادئ الكلية للمواثيق والقوانين و والمعاهدات الدولية التي تنظم مهنة الإعلام، وتتعلق بإقرار المبادئ الأساسية لحرية الصحافة، وسبل إحترامها، وحمايتها، والدفاع عنها.
فهكذا يبدو القضية; حيث أنه عند الحديث عن تاريخ معانأة الصحافة السودانية ومقاستها لقوانين الحكومات القمعية فإن الأمر قد يتعلق بــ”نظام” كُلي، وشمولي و”تنظيم” ممنهج ومخطط له عن كثبٍ ودقةٍ وكذلك خبث كبير، وذلك عن إعتقاد جازم بأن هذه الصحافة لم تنعم “يوماً” بحالة إستقرارٍ دستوري وسياسي وإقتصادي من قِبل كافة أنماط الحكومات، سواء تلك التي إستولت على إرادة الشعب بفوهة الزناد والعنف، أو هذه التي سطت على كرسي الدولة بالتزييف والكذب والتضليل، وإغتصبت رغبة وإرادة المواطنة والإختيار الحُر، وقهرت مواطنيها. فالمواقف غير القانونية والأخلاقية والتجارب القمعية التي تعرض، ولا يزال يتعرض عليها الصحفيين، والعمل الصحافي ليست وليدة فترة حكم بعينها، بل – و بلا إحالات إستثنائية – نتاج طبيعي وحتمي لـ”نظام شامل” ومنهجية سياسية وحضارية وثقافية معينة وهي ما تتعلق – بطريقة مباشرة – بحقبٍ مفصلية لدي المشروع الحضاري للحركة “الإخوانية” الإسلامية. فالإشكالية هكذا; حيث منذ العهد الإستقلالي الثاني للسودان – الإستقلال من الحكم الثنائي 1956م – وحتى هذه اللحظة لم تتمتع الصحافة السودانية بل و الإعلام السوداني بأسره بتلك النوعية من القوانين، مواثيق الشرف التي تكفل الحرية الكافية لممارسة وجودها الطبيعي لرسالتها، ولا تلك الإستقلالية التي تجعلها قادرة على الإبداع وخلق الفرق قيد طبيعة أعمالها المتمايزة والمختلفة بالطبع.
فالحكومة المايوية – رئاسة نميري 1969- 1985م – قد فعلت كل ما في إستطاعتها لإسكات صوت الصحافة، وكبح جماح الأقلام الناطقة الحُرة، وتوقيف فرص الحق في التعبير عن الرأي، وكشف الحقائق، وتصوير الواقع، وتوصيل الأفكار والمعلومات اللازمة للوعي والتنوير والحكمة وترشيد العقول نحو الرُقيّ الأخلاقي والإنساني والحضاري؛ فإذ أول من قامت به هو تأميمها للصحف مع الشركات والبنوك الأجنبية. وهكذا يبدو أمرها – الصحافة – وكأنها تعايش الإعتناء”الطفولي” بسلطة القمع والمصادرة والإنحسار رغم عمرها القرني ويزيد; حيث لم تغور حكومة إنقلانية عسكرية قامعة لها، وإلا برهةٍ فتأتي الآخرى أكثر شموليةً وأكبر عداءاً للصحافة، وفرص ممارسة حريتها الخالصة وحظوها بإستقلاليتها الوجودية.
وقد كان قبل المايوية إنقلاب “إبراهيم عبود 1959- 1964م” الذي لا يقل عداءاً عن سابقيه ولاحقيه تجاه “حرية الصحافة وإستقلالية الإعلام. وبالتالي فالصحافة السودانية تبدو – طيلة عمرها الأطول 1903م – أنها لا تتمتع بغير تجارب إقصائها وموافق غادقة في قمعها، والتضييق في أمر ممارسة حريتها كاملةً. وهكذا بالطبع قد كان كل هذه التجارب والمواقف لهي نتاج تنازع كبير، وصراعات حادة بين عدة قوى، ومحددات شتى; بعضها داخلية وأخرى خارجية، الأمر الذي يحيلها إلي فريسة سهلة الصيد – بشكل مباشر وكبير – من قِبل كل أنماط الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم؛ فإذ تأثرت بصراعات قوى السياسة والفكر، وأزمات بورصات المال والأعمال، وصدامات الحظو بسمو الجاه والمكانة أنذاك; حيث بين الأصدقاء أو الفرقاء، فضلاً عن تأثرها بفترات التحولات السياسية، والإحــالات الثقافية، والتناقضات الدينية والعقائدية، بالإضافة لمواقف التضادات الحضارية والإجتماعية من جهة، ومدى وطأة الصراع بين الحكومات، وقوى المعارضة بجناحيها المدنية والعسكرية من جهة آخرى.
وبطبيعة الحال فقد أصدرت كل حكومة أستولت على كرسي السلطة قانون بل قوانيناً عدة لا تخرج عن صندوق زناد قمعها للأقلام، وقهر أصحابها، وتجفيف منابع معلوماتهم، وسهول أفكارهم ومقالاتهم الصادعة، ومصادرتها عن حقول الإنتاج، وفرص إذدهارها، الأمر الذي أدى إلي تجاوز – في الوقت الحالي – مواجهة الصحفيون السلطة حيال قضية “حرية الصحافة” وفرص الإقرار بقدسيتها الإستقلالية، ومحددات حمايتها والدفاع عنها إلي الإهتمام – بكل معاني الكلمة والتعبير والمقصد – بمسائل قدرة وإمكانيات الصحافة في حدِّ ذاتها على تأمين فرص وجودها، وضمان تجليات بقاءها، فضلاً عن مدى إمتلاكها القوى الكافية للصمود في ظل أعدى “نظامٍ” عن حكومةٍ تجاه حرية الصحافة؛ حكومة “البشير وحاشيته” ونوعية قوانينها، ونمط مواثيقها القانونية، وشكل تعاطيها مع الصحافة، وطبيعة تعاملها معها. وكل ذلك لأن الأيام في مسيرة تعاقبها تخبرنا – وبوضوح شديد – أن الصحافة السودانية شيئاً فشيئاً ذاهبة إلي مواجهة طريق مجهول، إن لم يكن مسدود وغامض وضبابي وكثير الظلم والظلام في ظل واقع (نظام ،حكومة) لا يحترمان “حرية الإعتقاد والإتصال والإعلام”، بل يصدران قوانين تزيد من تقييد أقلام الصحافة، ومضايقتها والحدِّ من إستقلاليتها، الشئ الذي يدل على أن كل قانون يتعلق بالصحافة والمطبوعات يُصدر عنهما فأنه قد يكون أكثر وبالاً وأقوى قمعاً على الصحفيين والعمل الصحافي، وأحدَّ تضييقاً، وأكبر قهراً على حرية الصحافة ومبادئها الأخلاقية والقانونية والوجودية، وفرص ممارستها بكل جراءة ورؤية وشغف وإرادة.
وخلافاً لقوانين تنظيم مهنة الصحافة في إعوام (١٩٩٣، ١٩٩٦، ١٩٩٩، ٢٠٠٤)، فإن قانون 2009م فقد حتوت نصوصه – حسب رأي كبير وكثير من الصحفيون والقانونيون – على “هوامش مقدرة” من الحريات الصحفية; بيد أنه قد نص على إمكانية حظر أي صحيفة لمدة “ثلاثة أيام” مما رأه الصحفيون نصاً أكبر إجحافاً فزادها – بقوانين لاحقة – السلطة إلي “عشرة أيام”، الشئ الذي ينم عن قصد السلطة على المدى المبالغ في إلحاق الضرر والقمع والتضييق في حالة عدم إنصياحهم لخضوعها وإنقيادهم لمشيئتها، بينما نجد قانون 2013م – والذي أعقبه – فقد أهتم بجانب تهديد دور الطباعة بالإغلاق أو بالعقوبات التعسفية في حالة عدم الخضوع، والتجاوز عن الخطوط الحمراء التي يضعها بالطبع النظام والحكومة، مما يجعلهم عرضة للإبتزاز الأمني، والرقيب السلطوي ،وحتى على منتوجاتهم الطباعية. و هذا علاوةً على إنتقاء عبارات من قبيل “الأمن الوطني” و”هيبة الدولة” التي تضمر التهديد والترهيب والتخويف حيال المحاولة لكشف تجاوزات الحكومة، ونشر فساد المسئوليين، وسوء إدارتهم لمهاماتهم، وتعرية النظام عن أقنعته ووجوه فاسدينه.
ولكن يبقى ألانكى ما في الأمر هو أن – في فترة حكومة البشير الآن – جهاز الأمن والمخابرات الوطني لهي من أهم الجهات التي تمنح “هامش” حرية الصحافة، وحرية الرأي والتعبير والإعتقاد والإتصال، أو مصادرتها والتضييق عليها عوض أن يقوم به المجلس أو الإتحاد – لو كانا في حقيقة أمرهما لسيا بوقان للسلطة – بهذا الدور في حالة إمكانية وجود أشياء من هذا القبيل، الأمر الذي يؤدي إلي إحتكار إمتيازات الجزاء أو الإدارة أو غيرها – حتى القانون والإستشارية – في يد جهاز “عسكري سلطوي” قد لا “يفقه” سياقات القانون،وظروف المدنية،وإحالات الإنسانية بالقدر الكافي، وبالتالي لا مراء لو مارس هذا الجهاز “العسكري” أشد أنماط القمع والإنتهاك والمساس بالعمل الصحفي والصحفيين، وقام – ولا يزال يقوم – بإرتكاب “أنكى” أنواع التعدي على “حرية الصحافة” وتضييق خناق إستقلالية الكتابة والإبداء بالرأي والتعبير بالإعتقاد والوصول إلي مصادر المعلومات اللازمة لممارسة العملية الإتصالية والقيام بالعمل الصحافي.
وليس جديداً إن قولنا أن “النظام” الذي تنبثق منه الحكومات المتعاقبة على سدة حكم السودان لهو “أسوأ” منظومة “تخطيطية سياسية حضارية ثقافية ودينية” يمكن أن تعرفه الشخصية السودانية ولا نبالغ وربما العالم قاطبةً. وبالطبع هذا النظام هو الذي يولد مجموع الأزمات والكوارث التي تشهدها السودان – كدولة – عن سني عمرها الدهري؛ فهذا النظام قد لا يفقه أو يحترم أدنى حقوق الإنسان أو يعتراف بحرياته وخصوصيته ككيانه له الحق الكامل في الإحترام والقيمة الإنسانية قبل القيمة الأخلاقية والجمالية.
ولكن يبقى أسوأ ما في أمر هذا “النظام” – والدة الحكومات المتعاقبة على إستلاء إرادة الشعب – هو فيما يتعلق بقضية كيفية سنَّ القوانين، و كيفية وضع التشريعات في كافة الأصعدة; حيث أنه بالمراجعة البسيطة والتحليل السطحي لا أكثر لمقولاتها ومفرداتها، وصيغها المنتقاة قد يتضح أنه لا يراعي أو على الأقل ينظر البتة في أمر “حرمة” حقوق الإنسان وإحترام حرياته وخصوصيات شخصيته كإنسان، وهذا الأمر قد يشمل جميع القوانين والمواثيق والتشريعات في كافة الأصعدة، وبالخصوص على صعيد قوانين القضاء والصحافة والإقتصاد والإدارة السياسية لأجهزة الدولة.
ولذا هكذا نلاحظ كيف أن تجارب الحكومات كم كانت “عدائية وقمعية وبربرية”، وكم أن مواقف قياداتها كانت أكثر إنتهاكاً، وأكبر قَبولاً حيال قضية قوانين الصحافة، ومدى ضمان وإقرار وإحترام “سقف” حريتها، ومدى إنتشال إستقلاليتها عن أقبية السلطة وأسوار رقابة الحكومة وأجهرة محاسبتها وآليات جزاءاتها وعقاباتها، وذلك لأنها تعلم – علم اليقين – أن للصحافة القدرة والإمكانية والفرص الكافية لتحرير الإنسان من أسوار الشمولية، وإنعتاقه عن “بيوتات” الدكتاتورية في مقابل زج طغاة الفساد في سجون العقاب، وتقديم الجبابرة لمنصات العدالة، ومحاكم المساواة والعدل، فضلاً عن قواها “اللامحدود” في تعرية أوجه الفاسدين، وإسقاط إقنعة النفاق السياسي والأخلاقي، والتعدى على مصالح الوطن، وإهمال إرداة المواطن ووسائل تنويره.
ثم أكبر إشكالية تواجهها – بإستمرار – قوانين وتشريعات هذه الحكومات هي أن نصوصها تتضارب – بطريقةٍ أو بآخرى – ونصوص القوانين والمواثيق الدولية، وتضاد مع طبيعة الدساتير “السليمة” ومواثيق الشرف الأخلاقية لدرجة أن ثمة أصوات – هنا وهناك – تنادي بعدم تطبيق العقوبات الجنائية في قضايا الصحافة ومنتوجات نشرها، و – و إن كان الأفضل- إستبدالها بالعقوبات المدنية، وإن كان للصحافة محاكمها “الخاصة” سيكون الأمر أعدل وذا إنصاف أكبر وإحترام لحقوقها وحرياتها بصورةٍ أوضح وأوسع وأفضل.
ففي كل إصدار لقانونٍ ما لصعيد معين فقد يأتي بــ”فوضى” مفرداتية بالغة، ويتضمن لكثير من ضبابية العبارات، وغموض التعبير واللاأخلاقية النصوص، واللاحضارية الأحكام، وغير الدستورية اللوائح والإجراءات الإدارية والجزائية، هذا فضلاً عن أن أي تعديل عليه أو جديد للصعيد المحدد فإن المتوقع بالديمومة فضوية قصوى في إجراءات العقوبات، وضبابية بالغة في إمتيازات الإدارة، وفضفاضية “قاسية” في صلاحيات السلطة، هذا ناهيك عن أن هذا القانون أو ذاك قد يتم وضعه ولكن من يضعه؟، لا أدري، بيد أن من هم يمارسون هذه المهنة لهم كل البُعد عنه لحظة صياغته ومداولته والمصادقة عليه؛ فمثلاً قانون الصحافة الذي يضعه البتة ليس الصحفيين – الأكاديميين والممارسيين لها – الذين هم أهل المهنة، وأصحاب الرسالة وأرباب الممارسة هذه، ولكن كلا، إنهم فقط كمتفرجيين على المشهد، وكأنما ليسوا لهم أية صلة بالأمر. ولكن يبقى أن “النظام المسيطر” هو الذي يضعه ويصيغه ويعاقب عليه وفيه. كما هو واقعاً الآن؛ فهذا القانون المعدل الجديد عن القديم قد وضعته الحكومة الحالية بعيداً كل البُعد عن حضور أهل الشان، ورُسم هناك خلف الأبواب عن أعين أصحاب القضية الذين هم الصحفيين، الأمر الذي حّول السيئ إلي أسوأ، وزاد من الظلم والبغي أكثر مما يستحق التعبير والوصف.
وهكذا يظل وجود الحبر الصحافي عن عدمه رهن يد نوعية الحكومة بعينها في الدولة – أي دولة – المعينة، وأكثر من ذلك أن اليد الدكتاتورية لهي أسوأ قبضةً على حرية الصحافة، وأكثرها عداءاً لإستقلالية الإعلام بوسائله المختلفة. وبالتالي فالحبر الصحافي الراهن في السودان لهو أقرب إلي الإغتيال و “الموت الناعم أو الرحيم”، وأكثر قُرباً إلي الإنجفاف شبه النهائي عن الإنكتاب والإنقراء، بل والإنوجاد عما القريب العاجــل.
mabakarm28@gmail.com
* كاتب وصحافي سوداني – الخرطوم.