محمد أبكر
والصحافة ولطالما ممارسة رسالية، ومهنة قدسية، وفن في منتهى الإبداع والجمال والرُقــيَّ، فإنها تظل كذلك كما ظهرت إلي الوجود الإنساني; فإذ هي تكن مشاعر الفخر وتبث كوامن الشرف والسؤدد والحبور العقلاني والعاطفي على حدٍّ سواء، وبينما تبقى ممارسة العملية السياسية وإمتهان العمل والإتصال السياسي لهو الشئ الذي يتربط -بشكلٍ مباشر – بإحالات الغش والخداع وترميزات التلاعب والتضليل والفبركة والتزييف وتهميش الأدمغة وسغل العقول وإعادة إنتاجها مرة آخرى، فضلاً عن إستحضار معانٍ الكذب و تمكين مقولات تسطيح الشعوب وممارسة وتجسيد ثقافة التضليل والزيف وتمكين تراميز الإنتهازية والقمع والإقصاء.
وبالتالي فنظام العمل الصحافي/الإعلامي في إطار ممارسة النسق السياسي أو بالأحرى إمتهان العملية السياسية ضمن دائرة السلطة والنظام والحكومة والحزبية كثيراً ما يتسم التصادم أو التنازع والإسقاطات الجمة المتمايزة رغم الغياب .
وهكذا فإن الإعلام/الصحافة عملية ذي طبيعة لغوية وخطابية ورسالية متميزة ومغايرة أكثر عن رفيقاتها; فإذ لغة الإعلام لهي تلك اللغة الرسمية التي تمتزج اللغة العلمية والأدبية; حيث الدقة والرسمية والسهولة والجمال، حيث الوضوح والإبداع والإلتزام والحبور.
وبالتالي فطبيعة اللغة الإعلامية أنها تهتم بالجانب المنطقي والعقلاني مقروناً بلمسات الفن والذائقية، بينما لغة السياسة تتطبع السياق العاطفي الممذوج بلمسة التبريرية وإستصحاباً للجانب المسوغاتي والحجاجي; وهكذا فالخطاب الإعلامي يخاطب العقل ويعطي البرهان المنطقي المتعقل دون إختزال أو إبتزاز أو دونية وجلف إعتباري، وسخف تخاطبي، أما الخطاب السياسي فطبيعته مخاطبة الوتر العاطفي وإعطاء الإكثراب لديه للموقف الوجداني والإنتمائي والولائي الهوياتي أكثر مما ينبغي، الأمر الذي يحيل إلي إمكانية تضمينه للمحددات الإعتباطية والعاطفية المبتذلة فضلاً عن إحتوائه للتجليات العاطفية و الحسية الكيانية.
وقد يأتي نشوء صراع الصحافي والسياسي ضمن حلقة ممارسة العمل الإعلامي من جانب، و في أطار تطبيق النظرية السياسية من جانب أخر; وكل ذلك وفق إعتبارات كيفية الإمساك بمصادر صناعة الإخبار وممارسة العمل الصحافي فضلاً على تقديرات مدى السيطرة وكيفية الهيمنة على مقاليد صناعة المعلومة وتمثيل الحدث وتصوير الواقع وخلق التاريخ ورسم أسوار الحقيقة وطرق توصيلها ونشرها وإحترامها والإيمان بها.
فالصحافي يعمل على خلق الفرق والتميز وصناعة الإختلاف والتيقن عنه والإعتراف بالحقيقة والدفاع عنها وحمايتها عبر ممارسة لوازم المهنة ومتطلبات الرسالة وإحالات الفن وكيفيات خلق الفرق الجمالي والذوقي، في حين يعمل السياسي على تجسيد إحالات السلطة وتجليات القهر وتقديرات الإكراه عوض الإهتمام بالإدارة الرشيدة وتمثيل الحكم الديمقراطي تحري لوزام معايشة الشفافية وتحري العدالة ومخاطبة سبل تصوير سيادة القانون والعدل والمساواة.
وهكذا فالصحافة لهي عمل رسالي في المبتدى والمنتهى وقبل كل شئ; الأمر الذي يحيلها إلي أن تهتم بكيفية تجسيد الجوانب الأخلاقية والقيمية والإنسانية في صدارة جدول الأعمال، وذلك لأنها ضد كل قول أو فعل يمس أي جانب يتعلق بحقوق الإنسان وحرماته ويتطاول علئ خصوصياته ولوازم تحقيق شخصيته الوجودية، بينما نجد أن السياسة كثيراً ترتبط بتمكين ثقافة الكذب والخداع والتضليل وتسييد عوامل ممارسة التزييف والفبركة وتلبيس الإقنعة وتجميل الوجوه وتلميس الأطراف والأنسجة والأحشاء.
وبالتالي فإن يمكن الإقرار بصراع الصحافي والسياسي ضمن النظام السياسي العام للدولة المعينة في إطار ممارسة مقولات الوطن والمواطنة والحكم والوطن; أي أن هناك نقطة إشكالية تجعل كليهما في حالة حساسية وإحتكاك حيال الآخر; حيث أن الصحافي من خصائص مهنته تحري المصداقية والشفافية والموضوعية، وتميثل نوافذ الحقيقة والمعلومة والإخبار، في حين أن السياسي يجب أن يكون خبيراً في خلق أساليب التضليل والكذب، وصناعة أنماط التزييف فضلاً أن يكون مثقفاً في السيطرة على عواطف الجماهير والهيمنة على أدمغة الناس والتلاعب بعقولهم.
وهكذا تكمن حقيقة صراعهما في أن الصحافي يمتهن وظيفة رسالية مقدسة وعليه تحري الصدق والموضوعية وتمكين مبادئ وأسس كشف الحقيقة وتوصيلها بكل جراءة وقوة وبراءة ودون إبتزاز أو إحتراز أو إبتذال، في الوقت الذي يمارس أطر عمليات السلطة أو السياسة بكل إستهواء وخبرة عن تمثيل ثقافة التضليل والتزييف والتلاعب بأدمغة الجماهير والسيطرة على عواطف الناس والهيمنة على عقول الأتباع وإحتلال دواخل القواعد وأصوات الولاء والإنتماء والتضحية.
وهكذا تبدو العلاقة بين الإعلامي/الصحافي والسياسي إشكالية أو بالأحرى علاقة صراع ديمومي وإحتكاك بإستمرار وتحولية دائمة; فإذ هي علاقة قد تسمح للاعلامي/الصحافي إلى سياسي دون دراية كافية بقواعد العمل السياسي، وتحول هذا الأخير إلي إعلامي دون معرفة لقواعد مهنة الإعلام و وإدراك بمبادئ رسالة الصحافي، فيحدث التشويه لكلا المهنتان.
وبالتالي فإن العلاقة بينهما على مستوى الأساس التاريخي والموضوعي لهي “في الأصل يعتبر السياسي هو المصدر بالنسبة للإعلامي، لكن حالة الضعف التي تعتري الكثير من السياسيين أو حتى غيابهم عن الساحة تدفع الكثير من الإعلاميين لملء ذلك الفراغ بحكم ما يمتلكونه من رؤى سياسية أو شبكة علاقات صنعوها خلال عملهم الإعلامي”.
أما على مستوى درجة قبول تلك الحساسية في السياق المناطقي أو الزمكاني فإنها في الدول الديمقراطية استقرت العلاقة بينهما، “وقنع كل منهما بالدور الذي يؤديه لخدمة مجتمعه، ولا تقل مكانة الإعلامي في تلك الدول عن مكانة السياسي بل يحرص كثير من الساسة على كسب ود الصحفيين والإعلاميين للاستفادة من منابرهم في تسويق سياساتهم ومشروعاتهم”.
ولأن هذه العلاقة صعبة التعقيد في أحاين كثيرة فأنه في الوقت المعاصر ثمة ثلاث مدارس في الصحافة العالمية تميز علاقة الصحافي بالسياسة والعكس; فأولها “المدرسة الأميركية” والتي ترى عدم جواز الإنحياز السياسي للصحفي الى درجة أن العديد من المؤسسات الإعلامية الأميركية تمنع الصحفيين العاملين فيها من الكشف عن ميولهم السياسية خارج اطار العمل بهدف الحفاظ على موضوعية واستقلالية المؤسسة.
وبحسب مجلة ” النيويوركر” الأميركية” فان العديد من الصحف في الولايات المتحدة لا تسمح للصحفيين بالتعبير عن آرائهم العامة أو المشاركة في تظاهرات أو تعليق رموز انتخابية أو ملصقات على خلفية سياراتهم، وترى أن على الصحفي التزام جانب الحياد عندما يغطي مظاهرة أو مؤتمراً جزبياً أو اي نشاط سياسي آخر و ان يكون متوازناً وينشر الآراء المختلفة لأنه لو أنحاز الى جهة ما فأنه يفقد مصداقيته وقراءه من ذوي الأنتماءات السياسية الأخرى .
و لقد بالغ رئيس تحرير صحيفة ( الواشنطن بوسط – Washington Post) – في وقت سابق – في هذا الأمر كثيراً الى درجة أنه رفض الأدلاء بصوته في الأنتخابات الرئاسية لكي لا ينتهك مبدأ عدم الأنتماء السياسي للصحفي، مؤكداً ان الدور الاعلامي الذي يلعبه الصحفي يحول بينه وبين الأنحياز السياسي ليوفر لنفسه ولقراءه فرصة أوسع من التحليل الموضوعي لشتى الأحداث والمواقف من غير تدخل الميول والمزاج السياسي.
وقد ترى هذه المدرسة “أن العمل الإعلامي هو أحد ميادين التحليل والحكم الدقيق وهو عالمي ووطني اكثر مما هو فئوي أو أيديولوجي، فهو كالقضاء المستقل بطبيعته الداخلية يرفض ان يتماهى مع الأنتماء السياسي المحدود”.
وثانيها “المدرسة الأوروبية ” وهي “التي لا تمانع أن يكون للصحفي انتماء سياسي خارج اطار العمل، على ان يلتزم بالمعايير المهنية للصحافة المستقلة ، لأن الكثيرين من أفراد المجتمع – اي مجتمع – لديهم ميول سياسية ، ولا ضيران يكون للصحفي أيضاً رأي سياسي أو حتى انتماء سياسي ولكن العيب والخطا هو أن يتم تغطية الاخبار والاحداث ليس كما تقع على ارض الواقع، وانما كما يهوى الصحفي وما يحقق من خلال تغطيته للجهة التي ينتمي اليها او للوسيلة الأعلامية التي يعمل فيها، فالمطلوب اذن وعي الصحفي لأدوات ومعايير العمل الصحفي وأدراكه لدور الصحافة والتزامه بالمصداقية والحيادية أي ان يكون الانتماء السياسي خارج العمل الاعلامي المهني”.
أما ثالثها ” مدرسة عالمية ” تقسم الصحافة الى نوعين أولهما: “صحافة بلا موقف سياسي” وهي الصحافة، التي لا تعبر عن اتجاه سياسي معين، أو تتبنى أيديولوجية بعينها، وأنما تفتح صفحاتها لكل الآراء والإتجاهات السياسية والإجتماعية ولكل أصحاب الرأي على أختلاف رؤاهم، بينما الثاني صحافة ذات موقف سياسي.
وهكذا فإن العلاقة بين الصحافي والسياسي كثيراً ما تشوبها نكهة الصراع والإشكالية والحساسية بقدر ما تتصف بالتكاملية، والتبادلية والتنافس الشريف لكلا النظامين في إطار تأديتهما أدوار جوهرية في المجتمع الإنساني.
mabakarm28@gmail.com
* كاتب وصحفي سوداني – الخرطوم