بقلم :محمد أبكر
ومما يستنشط العقل إنتباهاً ويأخذ بؤرة النظر ويعجّل بالإلتفافِ ، لكل متتبعٍ حصيف ،بل كل متابعٍ لحركة الأحداث وصيرورة الوقائع؛ أنَ الصحافة السودانية تعايش ومنذ العقد الأخير إلي اللحظة هذه ، حصاراً سياسياً وإقتصادياً ضاربان في القمع والمصادرة والرقابة..
ومن وجهةٍ أخرى تعاني إنحساراً من حيث شرائها ورقياً ..وثالثاً تلوك طعم العلقم من الإقصاء والتجاوز تشريعاً وقانوناً وتنفيذاً..
ورغم أنّ التجاذبات الثلاث أعلاه ،تبدو متكاملة للضمير الصحفي الحالك بالإستبداد المستمر، علاوةً للذاكرة المثقوبة ولاءاً وتمويلاً وتنظيراً لهاهنا الصحافة، وبعض الومضات القابعة في شرزمة من بنود قوانينها ومواثيق شرفها ، إلا أنها بكل أسفٍ لم تهب لها الصمود والمقاومة الجلمودية أمام لعاب الرقيب تكميماً للأفواه ولأياً للأقلام وملاحقةً للضمائر الكاتبة إخباراً للشعب وتنويراً للعقول وتنقيباً للحقيقة..
وبالعودة لتشخيص علل هذا النتاج المأزوم ،نعثر في أرشيفها ؛ أنها وليد ولاءاً حزبي وتنظيراً إغترابي(بمعنى إستلاف المرجع التأسيسي من تربة مغايرة) وتفكيراَ إيديولوجي لا يقبل التوازن والطريق الثالث ، ثم لنعرج موضوعياً لنضف تأثير ونفوذ وسيطرة عقلية سياسية على مفاصل الدولة من تاريخها الحديث ، والتي لا تلد بعد كل عهدٍ رئاسي ،سوى آليات أكثر وحشيةً لقمع حرية الصحافة وأساليب أحَدَّ تطرفاً لمصادرة حق التعبير..بالإضافة لإنعكاسات التطور التقني على وسائط الإتصال والتحولات التي يتقاسمها العالم بأسره..
ورغم ميلاد صحافتنا مبكراً وسبقت الكثير من الصحف إقليمياً وعالمياً في مخاضها الوجودي ، إلا ـ والمرارة في الحلقوم ـ أنّها تبدو وكأنها في سني الطفولة والصبا ؛إذ تتحاشى التقدم ذاتياً وتهيب المقاومة القاهرة وتنبيض القضايا الهامة للرأي العام وملامسة الشعب في إهتماماته وطموحاته ومعاشه..
والمعلوم بالضرورة أن الصحافة صاحبة الضمير المستيقظ لا تثبطها متاريس الأنظمة الفرعونية ولا تحيَّدها قمع الحكومات المستبدة عن مسارها الوجودي ولا تنهم زخائر العسكر أو قوانينها المجحفة أو أجهزتها الرقابية أقلامها السديدة النابضة للحقيقة..
ولكن ـ وفي الأحشاء غضباًـ أنّ الصحافة في سوداننا الموقر، غدت مجرد صفحاتٍ تتسابق في تثبيت التصريحات المتضاربة للمسئوليين، وتوثيق الوقائع الهزيلة روحاً وشكلاً، وتحرير الأحداث التي لا تغني ثرياً ولا تفقر مغلوباً..فقط للتكذيب بالسبق الصحفي ولتشذيب ذوي الأدمغة العادية بحداثة أو صراع أو تنافس أو مواساة لأجل أرشفة حركة الوقائع صحافيةً.. وبالطبع ـ حتى لا نُتهم بالإجحاف ـ ثمة أحبارٍ صامدةٍ في مسارها بكشف الحقيقة أينما كانت ،وهناك أنفسٍ مغايرة تنبض بالمقاومة ولأجل أعين الشعب الدامعة جوراً وتظلماً..
والذي ينبغي توكيده أن هذا النتاج الذي يعانيه صحافتنا هو أزمة حقيقية شائكة ومتجذرة الأسقام ؛ بداً من الذاكرة شبه الفارغة للخبرة في مواجهة القمع تسلطياً ،والنقص في الرؤية والتنظير المؤسسي والمهنية مقابل سطوة الإيديولوجيا ،مروراً بإذدواجية قادة ونخب صحافتنا بين العقاب الضميري ببصق المبادئ الخُلقية للصحافة والتطاول على اخلاقيات الرسالة..وحيناً آخر أو في الحين ذاته؛ الخضوع لإغراءات المال والتركيع على قبلة الولاء مقابل ركل إكليل (صاحبة الجلالة) وإنقيادها مع التيار الجارف..وإلا سكون العتمة وحرمانها ضوء الشمس..
فالأزمة تبدو جلياً للجيل الجديد من الصحفيين؛ إذ تفقرهم القدوة الحاذق تفكيراً وتجريباً وفقدانهم للبيئة الوجودية للمهنة من الأساس..بالإضافة لإنعدام تواصل الأجيال فيما بينها ثم إقصاءات ثورة الرقمنة..
إن هكذا بيئة فقيرة ضامرة الحرية للتعبير والكتابة ومؤسسات صحافية فطيرة الفكر والتطوير والتمويل..وهكذا ذاكرة مثقوبة الخبرة والفكرة ،ونخب سلطوية العقلية..كيف للجيل الآني قبول دراستها والترشح فيها وأخذها مسار رسالة وفن ومهنة..ناهيك عن ممارستها والعمل فيها والغوص في بحارها الزاخرة وتحمل بوادر الإغتيال أو الإعتقال ..فقط بجرمة كشف وتنقيب الحقيقة من أوكارها الاولى..
ولطالما الأزمة واقعة بأظفارها علينا..نحن كصحفيين جدد لا نحيد عن تحمل المسؤلية لطالما هي نتاج واقع سياسي واقع ..ونعلنها دوايةً أننا سنبزع شمس حرية الصحافة وننصب السلطة الرابعة عرشها الوجودي برؤيةٍ مغايرة ونظرةٍ مختلفة وأفكارٍ متفردة..
وحينها تمسي لتصبح صاحبة السمؤ بلا أرق المصادرة او سُهاد قمعٍ أو نفوذ رقيبٍ، وإنّما تترفع عالياً في سماوات الحقيقة والحرية وبإشراقات أضواء الصباح المعتاد..
وحينها تصير واقعة الأزمة الآنية لصحافتنا مجرد حدثٍ طيفي لا يقدر على الجراءة أن يزور منام وواقع الصحفيين الجدد..لطالما يفهمون شرف الرسالة والمهنة ومسؤلية الكلمة.