الخرطوم – صوت الهامش
رصد تقرير نشرته وكالة الأنباء الكاثوليكية (سي إن إس) الأمريكية، حالة فريدة من التعايش السلمي بين المسيحيين والمسلمين وغيرهم من أبناء الديانات التقليدية في مجتمع جبال النوبة بالسودان.
ونبه التقرير إلى أنه وبينما تزكي الاختلافات الدينية نيران التوتر بين أبناء المجتمع الواحد في بلدان كثيرة حول العالم، فإن المسيحيين والمسلمين في جبال النوبة السودانية التي مزقتها الحرب يقولون إنهم متعايشون جنبا إلى جنب في سلام.
ولفت التقرير الذي اطلعت عليه (صوت الهامش) إلى أن الغرباء ربما يحتاجون بعض الوقت للوقوف على حقيقة الوضع في جبال النوبة وفهم أبعاده.
تقول آنجيلينا نياكورو، الأخت المبشرة الكومبونية، “عندما أتيت لأول مرة إلى جبال النوبة، كنت مرتبكة، فالجميع هنا يرتدي على نفس النمط.
وتابعت قائلة ، ثمة نساء رأيتهن ترتدين أغطية رأس، ثم بعد ذلك شاهدتهن في الكنيسة يقيمون الشعائر الكنسية… في الكريسماس، يأتي المسلمون للاحتفال مع المسيحيين، وفي عيدي الفطر والأضحى نذهب للاحتفال معهم”.
وتؤكد آنجلينا، “هذا أمر خاص بهذا المكان. ثمة تعايش سلمي بين المسيحيين والمسلمين وأيضا أصحاب الديانات التقليدية الأخرى في المكان. هنا الأهالي المسلمون لا يعترضون إذا أراد أبناؤهم أن يتنصروا. بل إنهم عندما يفعلون ذلك، فإن آباءهم يصاحبونهم إلى الكنيسة لدعمهم”.
وتقارن آنجيلينا، التي تعيش في جبال النوبة منذ عام 2008، بين هذا الواقع ونظيره في أوغندا… “في أوغندا، يقتتل الناس بسبب اختلاف أديانهم. ومن يتحول عن دينه يضطر إلى الهرب نجاة بحياته. هنا العائلات تعيش مختلطة، وليس ثمة مشكلة”.
ويقول الأخ أيزاك كورنياندو، المولود في جبال النوبة، وخدم على مدى عشرين عاما ككاهن في كنيسة كاودا، “لن تستطيع الوقوف على ديانة الناس ما لم يخبروك هم بها، لأننا نأكل معا ونشرب معا ونمشي معا. عليك أن تسألهم عن ديانتهم وسيخبروك”.
وهذه طوما كونيونو، مراسلة إذاعة صوت السلام، وهي إذاعة كاثوليكية في منطقة جيديل. طوما وزوجها مسيحيان، لكن باقي أسرة زوجها مسلمون.
تقول طوما “نحن أناس مسالمون. نحب الاحتفال بالكريسماس والعيد مع بعضنا البعض. وفي رمضان أصطحب التسجيل معي وأذهب للجامع في كاودا وأسجل الابتهالات، ونذيع بعضا منها على أثير إذاعتنا. إنها ابتهالات شيقة. وفي أعيادهم، نذيع أعيادهم على مستمعينا”.
وتضيف طوما أن برامج إذاعتها (صوت السلام) ليس موجهة حصريا على الكاثوليكيين… “عندما نناقش قضايا الصحة أو المرأة، فهذه ليست قضايا مسيحية أو إسلامية. إنما هي قضايا تهم كل إنسان في جبال النوبة، ونحن نريد أن نجعل من المحطة صوتا للجميع”.
أما الطبيب طوم كاتينا، الأمريكي، المقيم بمستشفى الرحمة في جيديل، فيؤكد أن التوترات الناجمة عن اختلاف الأديان تكاد تكون غير موجودة في جبال النوبة…. “قليلا ما يعارض بعض الأهالي زواج أبنائهم ممن هم مختلفين في الديانة، لكن لا يصل الأمر للعنف. ولا يسمع المرء حديثا سلبيا من مسلمين ضد مسيحيين أو العكس”.
وينبه كاتينا إلى أن “هذا ربما يكون غريبا من بعض جوانبه؛ ذلك أن التشدد الإسلاموي قائم في شمال السودان. أما الحكومة هنا في جبال النوبة فهي حريصة بشدة على النظام المدني والعلماني، وهي لا تسمح لأحد أن يفرض رؤيته للدين على الآخرين”.
ونوه التقرير عن أن أهالي جبال النوبة انخرطوا في حرب ضد حكومة الخرطوم المركزية على مدى عقود. وأكثر ما ميز تلك الحرب هي تلك الهجمات المتواترة من جانب الجيش السوداني بالقنابل على مدنيين في جبال النوبة.
تقول الأخت المبشرة الكومبونية الأوغندية بوليكارب أميو، وهي تعمل ممرضة في جيديل، إن سنوات من الهجمات الوحشية من جانب حكومة الخرطوم قد تركت رابطة الهوية بين أبناء جبال النوبة أقوى بكثير من رابطة الدين… “عندما كانت تحلق الطائرات فوق رؤوسنا وتقصف لم تكن القنابل تفرق بين مسيحي ومسلم. إن ذلك يوحدنا أكثر من ذي قبل”.
وهذا إمام مسجد كاودا، عيسى إبراهيم، يوافق الأخت بوليكارب في وجهة نظرها، قائلا “إننا عائلة واحدة في جبال النوبة. حيث الأرض لله أما الناس فيمارسون الديانة التي يرتضونها لأنفسهم بلا مشاكل… إنما المشكلة بالنسبة لنا تتمثل في أن جماعة من الناس في الخرطوم يروننا كما لو كنا حشرات وليس آدميين ومن ثم فهم يقصفوننا بطائرات الأنتونوف الروسية”.
وطبقا لـ جون أشوورث، وهو مستشار للأساقفة الكاثوليك في السودان وجنوب السودان، فإن التعايش الصحي والتلاحم فيما بين أهالي جبال النوبة بعضهم بعضا يساعد في تفسير الوحشية التي يعاملهم بها جيش حكومة الخرطوم .
وأضاف أشوورت “فلو كان أهالي النوبة من المسيحيين فقط لما عوملوا بتلك الوحشية لأن الحكام في الخرطوم لم يكونوا ليروا فيهم تهديدا. لكن حقيقة أن يتعايش مسلمون ومسيحيون جنبا إلى جنب في سعادة هي أمر يصعب على الحكام في الخرطوم قبوله”.
ويقول الأسقف المتقاعد مكرم ماكس قسيس، الأسقف السابق في الأبيض، والذي خدم لسنوات في الإشراف من كينيا على العمل في جبال النوبة، إن الهوية الدينية لا علاقة بها في تقرير وجهة توفير خدمات تعليمية أو رعاية صحية أو مياه شرب.
ويؤكد مكرم “عندما نحفر بئرا في إحدى قرى النوبة حيث لا يوجد ولا مسيحي واحد، وأذهب لافتتاح البئر، فإنني أقول لأهل القرية: “هذا الماء ليس مسيحيا. إنما هو ماء الله وهو لنا جميعا. هذه هي الحقيقة. إننا نتقاسم نفس الأرض. فلماذا لا يمكننا التعايش في سلام؟”.