هنالك أربعة حقوق للإنسان أجمعت عليها الأديان وكل الشرائع العادلة ، وهي كما لخصها الفيلسوف الإنجليزي جون لوك John Locke (1632-1704)م: حق الحياة وحق الملكية وحق الحرية وحق المساواة. من سوء حظ إنسان هذا البلد أنه صحا ذات يوم على نعيق الراديو والتلفاز ينعيان له مصادرة حقه في ممارسة الحرية وحقه في أن يتساوى مع آخرين في التملك والمساواة حين ادعى بعض صغار الآلهة في كذبة بلقاء أنهم جاءوا على ظهر دبابة لينقذوه! منذ ساعة الشؤم في 30 يونيو 1989م ونظام الإسلامويين الذي اغتصب سلطة الشعب على مدى 26 عاماً يواصل انتهاك حق إنسان هذا البلد في العيش بكرامة ، وحقه في الحرية كما وهبها له الله. يعلم الإسلامويون جيداً أنهم كجماعة صغيرة الحجم لم يكن بمقدورهم أن يجثموا على صدر شعبنا وكتمان أنفاسه فوق ربع القرن لو لا أنهم تحصنوا بكل أدوات الفساد ، وأعدّ النظام لنفسه جيشاً من الانتهازيين قوامه نخبة من المثقفين والأكاديميين ممن سقط منهم وازع الضمير وهم يصطفون لتناول فتات مائدة الفاشيين الجدد.
سقط القناع خلال السنوات الطويلة هذه عن بعض النخب السياسية وعن كثرة من أدعياء الثورية والفكر الثوري وعن ثلة من الديمقراطيين وأساتذة الجامعات الذين دفنوا رؤوسهم في الرمال بحجة أن الشر لن يحيق بهم ما داموا بعيدين عنه. لكنهم نسوا أن الطغيان- كما قال احد الفلاسفة – يبدأ عندما تنتهي سلطة القانون وإلحاق الأذى بالآخرين!
يتابع كاتب هذه السطور – مثله مثل الكثيرين- ما يدور في الساحتين: السياسية والثقافية ، بل ويشارك بجهد المقل ما سنحت له الفرصة تمشياً مع المثل الذي يقول: أن توقد شمعة واحدة خير من أن تلعن الظلام. مثلها مثل كل الأنظمة الشمولية القمعية في التاريخ فإن الإنقاذ صادرت منذ اليوم الأول كل وسائل الإعلام ووضعتها تحت إبطها النتن. لكنها نسيت أنّ عصر الإنترنت والفيمتو سكند جعل من العالم قرية كونية Global village وأنّ ما يحيكون من المؤامرات ضد شعبنا وأمتنا يتسرب كالماء بين الأصابع ، فيأتي عبر مواقع التواصل الاجتماعي طازجاً على مدى أربع وعشرين ساعة. لذا لم يعد في جعبة نظام النازيين الجدد غير مواصلة حرب الإبادة في غرب السودان (دار فور وجبال النوبة) وجنوب النيل الأزرق. وتلك حرب استعان فيها بالمرتزقة من أبناء غرب السودان أنفسهم في لعبة التقسيم العرقي بين أوهام العروبة والزنوجة في دار فور وكردفان والأنقسنا (فرّق تسد)!. مستعينا أيضا بمرتزقة من دول الجوار في غرب أفريقيا لتحوير البنية الديموغرافية (الكثافة السكانية) في دار فور بالتحديد والقفز فوق ملكية الأرض (الحواكير) وتمليك الأرض بعد حرق القرى وتهجير سكانها أو وضعهم في المعسكرات وإحلال المكان لوافدين جدد.. حتى إذا صحونا ذات يوم كانت هناك سياسة الأمر الواقع. لا.. بل يضيف النظام الآن أحبولة استفتاء مفبرك في دار فور حول توزيع الإقليم وتفتيته إلى كيانات متصارعة جديدة.
كل هذا يحدث ، والإبادة مستمرة منذ حوالي ثلاثة عشر عاماً بينما الكبير من نخب ومثقفي المركز لا يرون أبعد من أرنبة أنوفهم. فدار فور بعيدة جداً ، وحتى حين يهاجم بلطجية النظام طلاب وطالبات دار فور في الجامعات والمعاهد العليا بالهراوات والسواطير ويستشهد منهم البعض في ود مدني والخرطوم ودنقلا تجد أن صوت الرفض الشعبي غير المنظم أعلى وتيرة من أصوات المثقفين، سواء كان ذلك بالكتابة في مواقع الانترنت هنا وهناك أو كان عبر ما عرف بالوقفة الاحتجاجية الخجول المحاطة بجندرمة النظام وعصاباته المدججة بالسلاح.
وتنهض جماهيرنا ثائرة هذه المرة في الشمال النيلي حين يسعى غول النظام المسعور في محاولة لإغراق مساحات شاسعة من الأرض قد تمتد من دنقلا إلى وادي حلفا بما حوت من إرث تاريخي عالمي بحجة إقامة سدود لم يتم التخطيط لها ولا الإعلان عن جدواها لإنسان المنطقة. وطن يباع بالتقسيط لمستثمري البترو- دولار وشعبنا ينتفض بالآلاف في كجبار وأمري، بينما يظل الصمت الخجول لمثقفي زمن الحيرة – وكأنما الذي يجري لا يعنيهم!
وأمس القريب – وحتى كتابة هذا المقال – سطر مقاتلو الحركة الشعبية لتحرير السودان – ش ملحمة بطولية أسكتت أبواق النظام وضربت بصلفه عرض الجبال والأحراش. كان النظام قد أعلن أنه يجرد حملة صيفية لإنهاء وجود الحركات المسلحة التي تدافع عن كيان شعبنا في الهامش العريض وتعلن أن السلام العادل مطلبها..لا الحرب. كل متتبع لما يجري في بلادنا يعرف أن النظام كان يعد العدة والعتاد لمغامرته الخائبة التي سيخسرها – بل خسرها بالفعل. كل هذا يجري وكثيرون من مثقفي زمن الخيبة لا يكتبون على مواقع الانترنت شيئاً عما يجري هناك من انتصارات على مليشيات ومرتزقة حزب فاشي أذاق شعبنا الأمرين ومزق بلادنا. مثقفو نخبة المركز لا يتكلمون في مثل هذه الأمور.. فالهامش – وبالذات جبال النوبة والأنقسنا أماكن في ركن بعيد من الأرض وما يجري هناك لا يعنيهم! بل إنّ ثرثرة الكثيرين منهم هذه الأيام موضوعها خارطة طريق ثابو امبيكي المضروبة ولماذا ترفضها الحركات المقاتلة وقوى نداء السودان؟ كذا! وأتابع مواقع الانترنت لأجد بعض مثقفاتية نخب المركز حريصون على متابعة حملة معتوه الانتخابات الأمريكية دونالد ترمب!! لكنهم لا وقت لديهم لفضح جرائم الاغتصاب الممنهج لحرائر دارفور من مليشيات ومرتزقة النظام!
وأمس جاءتنا الأخبار بشائعة هي مقدمة لخبر ستثبت الأيام صحته: بيع مباني جامعة الخرطوم – إحدى أعرق جامعات أفريقيا وفخرنا العلمي! لن استعجل أحكامي فالخبر ما زال جنيناً. لكني أقول لبعض مرتزقة النظام من الأكاديميين والمثقفاتية: ليس هناك من جبل تأوون إلى قمته سوى حضن شعبكم الذي يعرف كيف يوقف الطوفان! أدري أنّ في الساحة اليوم مثقفين أحرار ومستنيرين من الجنسين داخل وخارج السودان يقومون بكل ما في وسعهم لفضح هذا النظام، وهي جهود مقدرة تضاف لملاحم وبطولات شعبنا هذه الأيام في أمري وكجبار وفي دار فور الصامدة وفي جبال النوبة الشامخة دائماً وانتصارات شعبنا في مفو بجنوب النيل الأزرق. هذا جهد نقدره لمثقفين وحقوقيين من النساء والرجال والشباب والشابات داخل الوطن وخارجه.. لكنه جهد أقل سطوعاً من الدفق الثوري الذي جعل فرائص النظام ترتعد في ذكرى مارس ابريل هذه الأيام. انتصارات الهامش العريض في ابريل الانتفاضة تعلن أنّ شمس انتفاضة شعبنا تلوح في الأفق. وشاهدي على ذلك حركة التاريخ!
فضيلي جماع