أينما نظر المرء في أركان السودان المتسعة يرى آلاماً بشرية خائرة القوى تسير على قدمين. إنها آلام الإنسان السوداني المظلوم من قبل شبكة الفساد المستشرية على كل المستويات في الدولة. بدءا من أصغر موظفي المحليات وحتى رئاسة الجمهورية. تقارير المراجع العام للفساد الملياري في كل المصالح الحكومية وضعت السودان ضمن قائمة أكثر الدول فسادا في العالم. لكن هذا الفساد للأسف ليس مجرد أرقام على دفاتر الحسابات، انه ضياع لحياة الملايين من الضحايا من هذا الشعب المغلوب على أمره.
فاراضي السودان أصبحت نهبا لمافيات الأراضي المنظمة، حيث تباع أراضي الوطن زراعية كانت أم سكنية ام رعوية في الحضر والمدن إلى اجانب وعرب وسودانيين. هذا البيع احيانا يتم بدون دراية الملاك الحقيقيين أو عندما يتم بشكل علني تتم عملية استخدام للقوة المفرطة من أجهزة الدولة القمعية من شرطة وأمن. حيث شهدنا الدماء تسيل دفاعا عن الأرض وحماية من اغتصابها وبيعها إلى الأجنبي. تلك الدماء لم تسيل في القدس بل في قلب الخرطوم في الجريف شرق وقبلها في ام دوم. وفي معظم أقاليم السودان شرقا وغربا تجري معارك يومية بين المواطنين وبين عصابات الفساد التي تنهب أراضي الشعب وثرواته دون حق.
وبين يدي هذا الظلم المستشري الظاهر على السطح، هناك ملايين عمليات الفساد والظلم اليومية التي اصبحت طابعا لحياة الإنسان السوداني. حيث تفككت الأسر وتبددت الممتلكات مع التدمير الممنهج لشبكات أمان المواطنين الاقتصادية. فعمليات الفساد الكبرى مثل تدمير مشروع الجزيرة ونهب سودانير وبيع موانئ بورتسودان وتهجير المواطنين في الشمال والشرق لبناء سدود لا حاجة لها سوى لجلب قروض ربوية تمول حسابات بنوك السماسرة، كل هذه العمليات الفاسدة لم يكن فقط ضحيتها الأمانة والضمير الوطني. ان ضحيتها أفراد يعيشون حالة مستمرة من الفقر المصنوع من قبل النظام. أفراد سودانيين سلبت مصادر رزقهم وتم اجبارهم على ترك أراضيهم ومهنهم التي يعرفون ليصبحوا كادحين بلا مأوى ولا عزة ولا سند اقتصادي ولا اجتماعي ولا قانوني. هذه الأرواح الهائمة التي تحوم في السوق العربي وفي مواقف مواصلات الخرطوم تبحث عن لقمة العيش بين فتات ما تركه الفاسدين.
ان آثار هذا الفساد على المجتمع السوداني هو عملية دمار شامل لمنظومة العيش الكريم والسترة بالرزق الحلال. لقد تمت عملية تجريف كاملة لكرامة الأنسان السوداني عبر تجريده من حقه في العيش بلا مذلة السؤال أو الترحال إلى بلاد الآخرين بحثا عن ما يستر الحال. في مقابل هذا يعيش أرباب الفساد في ترف مثير للاشمئزاز، يبدو جليا في مناسبات الافراح الباذخة التي تستورد لها الورود من دبي وتحضر لها الوجبات في الفنادق خمسة نجوم.
ولكن للأسف أن الشعب السوداني يبدو أنه يقف وحيدا في مواجهة هذا الفساد. فالنخب والقوى السياسية تتبنى خطاب قديم متجدد شعاره هو تعرية النظام. غير أن هذا النظام لا يحتاج إلى تعرية، فهو يسير عاريا منذ زمن لأنه لا يجد من يجبره على أن يستتر أو أن يذهب إلى غير رجعة. ان عرى هذا النظام هو في فساده الظاهر لدرجة أنه أصبح بمثابة الهواء الذي يتنفسه كل سوداني. ان خطاب تعرية النظام الذي تتبناه المعارضة لا يخدم سوى النظام نفسه. فهو خطاب يقوم فقط بتنفيس الغضب عبر سرد مثالب النظام التي في الحقيقة لا يجهلها حتى الطفل الصغير في السودان.
وفي ظل استمرارية خطاب تعرية النظام، تستمر أيضا حقوق السودانيين في الضياع بلا توقف وكل يوم. ولا يجد المواطن السوداني البسيط المناصرة الفاعلة والحقيقية التي تمكنه من الحفاظ علي الأمل في أن حقوقه ستسترد يوما ما أو أن هناك من يقف معه ويعينه على ماساته. لا يمكن إنكار أن هناك مجهودات هامة من الصحافة رغم القمع وبعض الأفراد والمؤسسات المدنية في محاولة دعم بعض القضايا. لكن التوجه العام للنخب والقوى السياسية وحتى المجتمع المدني للأسف يتبنى خطاب التعرية وليس خطاب المواجهة والدعم للضحايا.
ان استراتيجية التوجه بالنقد للنظام في كل حادثة فساد أو مظلمة للمواطنين هي سياسة كسب سياسي لحظي لا تبني اي قاعدة دعم جماهيري حقيقية ولا تثبت مصداقية القوى السياسية لدى المواطن السوداني الباحث عن حقوقه. فتعرية النظام دون ستر المواطن الذي قام النظام بتعريته من حقوقه ومن ممتلكاته هي سياسة استغلال المواقف وليس سياسة بناء المواقف التي تبين جدية ومصداقية القوى السياسية في التغيير الحقيقي. لا يمكن إنكار واقع التضييق على الحريات الذي يؤثر سلبا على حركة القوى السياسية والمدنية والصحافة وغيرها من النخب المؤثرة. لكن هذا التضييق يعني أن المعارك التي يجب خوضها يجب أن تكون مؤثرة وفاعلة، بحيث ان الاثمان التي تدفع من وقت أو اعتقالات أو غيره يجب أن تكون لها وقعها على المواطن السوداني بشكل مباشر.
مساحات الالتحام الحقيقي مع جماهير السودانيين على مستويات قاعدية هي فرصة يومية لاسقاط النظام. حيث أن السودانيون العاديون يخوضون معارك يومية صغيرة ضد فساد النظام في كل مكان من الشارع إلى المدارس إلى الأسواق إلى المزارع إلى المصانع إلى الفرق الرياضية والأندية. ولكن ضعف القدرات وانعدام المعرفة وقلة الدعم القانوني والاقتصادي والمالي يجعل حتى المعركة الصغيرة ضد عسكري النظام العام صعبة الانتصار فيها للبائع المتجول أو صاحب الدرداقة.
ان معركة الحريات التي تصرخ النخب والقوى السياسية كل يوم على أنها أمر أساسي للتغيير يبدو أنها معركة منحصرة في مصالح ورؤى نخبوية أيضا. فالحريات التي يريدها النخب والقوى السياسية هي حرية إقامة الندوات السياسية والثقافية في الميادين العامة، وهذا هو ما يعتقدون أنه وسيلة مخاطبة وتواصل مع الشعب السوداني. اولا فإن هذه الطريقة للتواصل ربما كانت تنجح في الستينات قبل التلفزيون أو حتى في الثمانينات قبل الانترنت، لكن الآن، إذا كان لديك خطاب مؤثر ضعه على صفحتك في الفيسبوك والذي يستخدمه ثلث الشعب السوداني. هل سيأتي ثلث الشعب السوداني إلى ميدان ابو جنزير؟ مهما كان من قدم لهم الدعوة.؟ وثانيا فإن الحريات التي يريدها النخب والقوى السياسية تختلف تماما عن الحريات التي يريدها سواق الركشة وبياع الطعمية وسيد اللبن والحنانة وموظف الكهربا وعامل النظافة. هؤلاء يريدون حرية البحث عن ارزاقهم دون مذلة. يريد بعضهم حرية الاختيار في العودة إلى قريته أو حواشته التي كان يمتلكها قبل أن تنزعها أو تحرقها أو تبيعها أو تصادرها الحكومة. أو قبل أن يضطر لبيعها لعلاج أو محاولة هجرة فاشلة. هذه حريات صغيرة واحلام فردية لكنها هي في مجموعها احلام شعب كامل ضاعت حقوقه بين خطاب معارض يريد أن يعري النظام لشعب قام النظام باكل لحمه ونخر عظمه، فهو لا يريد اي خطاب يحكي له قصته. ان خطاب تعرية النظام لا يقوم بتوعية الشعب السوداني، انه يقوم فقط برواية القصة التي يعيشها كل مواطن بلغة منمقة ونبرة مسيسة تختلف حسب انتماء المتحدث. ان هذا الخطاب يفرغ عملية التوعية والمناصرة وحتى الحشد الجماهيري من مضمونها وفاعليتها.
أن النخب والقوى السياسية التي تطلب من الشعب النزول إلى الشارع، عليها اولا ان تتنزل هي من علياء خطابها الغير عملي والذي اثبت فشله ، وان تلتحم وتحتك عمليا مع هذا الشعب. ان هناك الآلاف من القضايا القانونية التي يمكن تبنيها لمساعدة الملايين لنيل بعض حقوقهم أو مجرد توثيقها. وهناك الملايين من المظلومين الذين يبحثون عن من يستمع لهم ويخبرهم أن حقهم سيسترد يوما ما. لكن هذه العملية لن تتم من مراكز الأحزاب ولا من قاعات الندوات والمؤتمرات. العمل بين الناس وتبني قضاياهم الحيوية هو المفتاح الحقيقي ليس فقط للكسب السياسي بل لأحداث تغيير حقيقي في مفهوم ممارسة السياسة السودانية التي ظلت نخبوية منذ بداية تكوين الدولة السودانية. حيث أن العائق الاهم بين كل النخب السياسية السودانية منذ الاستقلال وبين الشعب هو أنها ليست بأي حال قريبة من هذا الشعب ، فهي تعيش في عالم موازي ليس لديه أي احتكاك يومي مباشر بالناس. على النخب السياسية السودانية النظر إلى تجارب التغيير والديمقراطية الناجحة في دول مثل الهند ودول أمريكا الجنوبية مثل البرازيل والأرجنتين ودول جنوب شرق آسيا. حيث أن الدفاع بشكل يومي ومستميت عن حقوق الناس في معارك صغيرة وكبيرة كان سببا في تحقيق نجاحات سياسية وتنموية كبيرة. فالمرضي والجوعي وفاقدي المأوى والباحثين عن عمل أو فرصة مهنة صغيرة لا يمكن أن تنظروا ثلاثين سنة حتى تتم تعرية النظام وإسقاطه بحسب رؤي القوى السياسية النخبوية الفاشلة. وربما يجب على هذه النخب التعلم من أعدائهم، لو كان لديهم شئ من حكمة التواضع لفعل لذلك، فالكيزان في السودان والإخوان المسلمين في مصر وغيرها تواجدوا في كل حارة وكل زقاق وكل قرية مهما كانت بعيدة ودعموا حاجات الناس اليومية وقدموا لهم خدمات صغيرة لكنها ضمنت للإخوان المسلمين في مصر مثلا فوزا ساحقا بعد ثورة شعبية ضخمة وتاريخية. ان ضحايا فساد الإنقاذ الذين هم كل الشعب السوداني يدعون كل النخب السياسية السودانية للنزول إلى الشارع معهم الان وليس غدا!!
[email protected]