لم تكن إجراءات إقرار التُهم لدي محكمة الجنايات الدولية والتي قضت باعتماد 32 تهمة في مواجهة “كوشيب” والمُتصل بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية المُرتكبة في قرية دليج ومن حولها في العام 2004 مجرد إجراءات روتينية أمام المحكمة ،بل كان حدثا فاجعا للضمير الإنساني من خلال عرض هول الوقائع المتعلقة بارتكاب الفظائع والتي أظهرت بشكل صارخ وحشية نظام الحركة الإسلامية ووكلائها الدمويين في دافور ،في هذه الإجراءات ارتسمت لوحة إنسانية مأساوية للغاية ، صُور أشلاء القتلى ،أنات النساء والفتيات من وقع الاغتصابات ،حرق القري والمساكن وإبادة كل من يَدُب في الأرض في تلك المناطق ،تدمير واسع النطاق لسبل العيش وجميع مقومات الحياة ،هكذا كانت حزمة الوقائع والأدلة المقدمة من فريق الادعاء وما اتصلت عنها من صور ومآسي استحضرت للذاكرة الإنسانية الكثير من الجراحات والآلام ،ولكن هل يستطيع أن يتخيل المرء حدوث مثل هذه الجرائم في القرن الواحد وعشرين علي الرغم من مضي عدة عقود من الزمان بعد الاعتماد علي ميثاق الأمم والذي تعهد بموجبه المجتمع الدولي بعدم السماح على الإطلاق بوقوع فظائع من هذا القبيل مرة أخرى!
حسناً فعلت الحكومة الانتقالية عندما وقعت مذكرة تعاون مع المحكمة الجنائية الدولية والخاصة بقضية كوشيب ،ولكن لم تكن هذه الخطوة لوحدها كافية في وجهة نظر الضحايا ،بل كان ينبغي علي الحكومة بشقيها السيادي والوزاري اتخاذ ما يلزم من الإجراءات اللازمة والمُلحة في ملف العدالة لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي ،لان تسليم المطلوبين والمحتجزون الآن في سجن كوبر لدي المحكمة لم يكن مطلبا للضحايا فحسب بل هو من اعتي شعارات التي بُنيت عليها هذه الثورة المجيدة ،نعم أن مطلب تحقيق العدالة لضحايا الانتهاكات لا تنحصر نطاقها في حدود هذه الثورة المجيدة فحسب ،بل كان وما زال مطلبا إنسانيا دوليا ،حيث ظل المجتمع الإنساني باسره يحبس أنفاسه حيال الفظائع المرتكبة مُنتظراً اللحظة التاريخية التي يتم فيها اقتضاء الحقوق لأصحابها ويعلن فيها الانتصار لمشروع العدالة الدولية.
أن من مصلحة العدالة ليست فقط تسليم المطلوبين لدي المحكمة الجنائية الدولية ،بل ضرورة الإسراع في تسليمهم ،لان ليس هناك أي سبب ما يمنع تسليمهم للمحكمة فورا ,وخاصة فيما يتصل بقضية كوشيب التي يجب أن يكون في محاكمة مشتركة مع احمد هارون والمقبوض عليه حديثا جعفر عبد الحكم في تخطيطهم وارتكابهم معا للجرائم المنظورة أمام المحكمة ،،،كما أن أي محاولة للتقاضي أمام المحاكم السودانية سيواجه إشكاليات قانونية كثيرة مما قد يسبب إخلالا جسيما لسير العدالة وتحقيقها ،ومن المعلوم ،أن جرائم الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب لم تكن تشكل جرائم في القانون الجنائي لحظة ارتكاب انتهاكات دولية منظمة وواسعة النطاق في إقليم دافور، علاوة علي حالة القصور التي تكتنف النظام القانوني الجنائي في السودان الي وجود نصوص واضحة تحدد مسئولية القيادة ،وهي المبدأ القانوني للمساءلة الهرمية عن الجرائم الدولية ،إما بتورط المسئولين بشكل مباشر أو عدم اتخاذهم التدابير اللازمة في منع وقوع الانتهاكات أو معاقبة مرتكبيها .هذا بالإضافة الي المتاريس القانونية الأخرى والمتعلقة بقوانين التقادم وحزمة قواعد وإجراءات الحصانة .وفوق كل هذا ،لا نعتقد أن الحكومة وما تحاصرها من أزمات اقتصادية جمة من كل حدب وصوب أن تضيف علي ذمتها أعباء مالية إضافية عن طريق إنشاء محاكم مُدولة أو باي صيغة كانت في إجراء المحاكمات .
نحث الحكومة الانتقالية أن تفي بكامل التزاماتها القانونية الدولية، وان تعمل على الانضمام لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وان تقوم بتسليم جميع المطلوبين والمشتبه فيهم والتعاون فيما يتعلق بتقديم الأدلة، والسماح فورا لفريق الادعاء لمباشرة التحقيقات في مسارح الانتهاكات، وتمكينهم في القيام بكل ما هو لازم بُغيا للوصول الي العدالة.
عبد العزيز التوم
[email protected]