بعد إلحاح وإصرار شديدين رضخت هذه المرة ملبيا دعوة صديقي ، ورافقته بعد رنين جرس نهاية اليوم الدراسي إلي منزلهم المتواضع الذي لا يختلف كثيراً عن بيتنا الواقع في الجانب الآخر من الحي .
استقبلتنا والدته الأربعينية بابتسامة مشرقة ، وحيتني بحرارة بعد أن قدمني لها أبنها وتعرفت علي أسرتي فوراً عندما ذكرت لها إسم والدي.. لعله قد كان من المشاهير .
كانت تحدثنا بصوتها العذب عن مواضيع مختلفة أثناء تناولنا وجبة الغداء اللذيذ بينما كانت تعجن طينا لصنع آنية فخارية اشتهرت بها وسط أهالي المدينة ،
بل لم يخلو بيت من بيوت المدينة من منتجاتها ، فهي تصنع (ازيرة) لحفظ وتبريد مياه الشرب ، و تعتمد علي ذلك في إعالة أسرتها التى تتكون من صديقي وثلاث بنات جميلات يكبرنه بسنوات متفاوتة بعد وفاة زوجها الذي كان يعمل في صناعة الآلات الزراعية البدائية ، إثر مشاجرة غير متكافئة مع أحد زبائنه الذي تجرأ على الامتناع عن دفع ثمن صناعة (الطورية) ، فدخل معه في عراك إنتهى بضربه الزبون بالمطرقة التى كان يحملها أثناء العراك ، فخر الخصم مغشيا عليه ، وعندما حاول الهرب لتسليم نفسه إلى الشرطة عاجله بعض الحضور بعدة طعنات أردته قتيلاً مضرجا في دماءه وسط سوق المدينة !
هكذا حدثتني والدة صديقي قبل أن تنخرط في موجة بكاء مرير اضطرت على إثرها للتخلي عن ما في يدها من أطيان مستسلمة للنحيب .
2
اقترحت على صديقي بأن نتولى تكملة ما تركته والدته من عمل ، سيما وأن للطين مراحل متعددة من عجن وتخمير وتجفيف قبل أن يعرض لحرارة الشمس ، فيدفن ويحرق وما إلى ذلك .. مما يعني أن أي تأخير فيه سيكلف أم صديقي البدء من الصفر ، فاستجاب صديقي باستغراب لم أفهم كنهه في تلك اللحظات وحتى الآن …….
لم تمر علينا في العمل سوى ساعة وبضع دقائق حتى أطل علينا فوق الحائط القصير أحد السكارى المتطفلين الذين عادة ما يقطعون المسافات الطويلة على ظهور حميرهم وجمالهم للوصول الى بيوت الشراب التي تقع مجاورة لمنزل أسرة صديقي.. لكنني لم أكترث لنظراته الطويلة ، بيد أنه قد أوقف ناقته التي أخذت تلتهم من نبتة (الشحلوب) الملتفة حول جزء من السور الشوكي للمنزل ، واستطرد يحدق فينا مليا حتى نبهني صديقي إلى وجوده قائلاً :
أنظر .. لماذا يحدق فينا هذا الرجل هكذا ؟
رفعت رأسي نحوه فالتقت عيني بعينيه المحمرتين بفعل (العرقي) الذي لربما احتساه قبيل مروره بنا .
اعرف هاتين العينين .. نعم أعرفهما وأعرف الناقة التي يمتطيها .. بل احفظ حتى عدد السيور الجلدية التي تتكون منها رسن هذه الناقة.. ولكم تذوقت من لسان ذاك السوط الذي يتدلى إلي جانب عنق الناقة نازلا يتراقص طرباً نحو الأرض..
إنه خالي .
خالك ؟
قم .. قم اختبئ حتى لا يتعرف عليك !
ماذا ؟
هل جننت ؟
كيف أختبئ من خالي وأنا أعرف جيداً بأنه لا يؤذيني ، بل سيدافع عني حتى الرمق الأخير إذا استدعى الأمر ذلك .
ألح علي صديقي قائلاً : اختبئ داخل الغرفة تحت السرير أو اهرب خلف الكوخ و اختبئ داخل قن الدجاج حتى لا يراك .
لا زلت غير مدرك لما يرمي إليه صديقي إلي أن تدخلت والدته التي كانت في المطبخ وخرجت لتتفاجأ بوقوف ذلك الرجل الغامض الغاضب خلف السور ممتطيا تلك الناقة الحمراء ذا الوبر الكثيف .. لكنه ما إن رآها حتى غمز ناقته برجله فغادر المكان .
3
قالت لي بصوت مرتجف : حان وقت العودة إلي بيتكم يا صغيري .
قاطعتها : لكننا لم ننتهي من عملنا بعد ولم يتبقى إلا القليل .
-لا بد أن تذهب فوراً قبل أن يحترق بيتنا بما فيها ومن فيها .
حسبتها في بادئ الأمر تمازحني ، لكن علامات القلق والتوتر التي بدأت ترتسم على وجه صديقي بدأت تقلقني ..
فسألته بكل براءة : ماذا يجري ؟
أجابتني أمه بأن :« ثمة أشياء لا يمكن البوح بها على الصغار ..
لكن بما أنك مصر علي معرفة ما يجري فلا بأس سأخبرك .. شريطة أن لا تخبر أحداً بأنني من أخبرتك ».
أومأت لها برأسي موافقا ، فقالت : «يا ولدي.. لعلك قد تظنني أمزح أو أنسج قصصاً من بنات خيالاتي .. لكن أسمعني جيداً فما أقوله لك هو حقيقة لا مزاح فيه..»
ثم استطردت تحكي بينما أعطيناها وصديقي أذنينا الصاغيتين بانصات .
قالت :« نحن مجتمع بلا هويه..بلا حرية .. بلا حقوق ..بلا قبيلة.. بلا حلم… »
لم أفهم شيئا مما قالت فسألتها :
كيف ذلك ؟
فقالت : « كما سمعت يا ولدي، نحن لا زلنا نعيش أوصياء على هوى أسياد مزعومين منذ القدم .. ينتسب كل منا إلي عشيرة أسياده الافتراضيين فيدين بديانتهم ويعادي من يعاديهم ويناصر من يناصرهم .. لا حقوق لنا إذا ظلمنا أحد ممن ننتسب إليه.. لا حرية لنا في اختيار قبيلة غير التي ينتسب إليها اسيادنا ..رغم أنهم لا يؤاكلوننا في قصعة واحدة ، ولا يزاوجوننا .. و لا يراقصوننا في الأفراح.. ورغم أننا من نصنع آلات الأفراح والحرب والسلام .. ولا يصادقوننا ، بل يضربون أبناءهم إذا ما حاولوا أن يبنوا أي نوع من أنواع الصداقات مع أبناءنا.. وهو ما يجعلنا نخشى عليك عند العودة إلي بيتكم .. خصوصاً بعد أن أبصرك هذا الرجل في بيتنا ……»
صمتت قليلاً تحاول التقاط أنفاسها ، فانتهزت الفرصة لأسألها ، قلت : إذن لماذا لا يتمرد الرجال على هذا الوضع طالما أن هنالك ظلم ؟
أجابتني بابتسامة ساخرة : الجميع يناضل من أجل الحصول على حريته ، بينما رجالنا يناضلون من أجل الحصول على رضا الاسياد معتقدين أن لا حياة إلا تحت جلباب السيد الوريث .
فنحن ما زلنا موالي وخدم رغم إبطال قوانين الرق منذ أكثر من قرن، لكن بكل أسف يا إبني لم نزل نحن في قبضة كلابيش العبودية الصامتة.. لا حلم لنا سوى ابتغاء رضى الاسياد الذين ورثوننا أبا عن جد.. وهو ما جعل زوجي يدفع حياته ثمناً لمحاولته الخروج عن المألوف عندما طلب من أحد الاسياد دفع ثمن أجرته قبل سبع سنوات ، ولم يتحرك أحد لمسائلة الجناة حتى اليوم ………… »
4
خرجت تحت هجير حر الشمس واضعاً الحقيبة المدرسية فوق رأسي أتخبط في السير عائداً الى بيتنا بعد أن غسلت يدي بماء الابريق الجاثي عند باب قطية صديقي لأزيل ما علق بها من طين لازب ..
لكنني لم أعد إلي البيت لوحدي ، إذ اصطحبتني حزمة من الأسئلة الساخنة تداعب مخيلتي كسحلية تسللت إلي شرايين دماغي الدقيقة ..
يا إلهي !
هل في هذا الكون أوحش من بني البشر ؟
لماذا يصر الإنسان علي استعباد بني جنسه ؟
لماذا لا توجد هذه الصفة بالذات وسط الكلاب والخنازير و الخيول والجراد والقمل والبعوض والضفادع التي تفتقد إلى العقل الذي يحظى به بنو البشر ؟
آه عرفت …
لأن تلك الحيوانات والحشرات ما انفكت ماضية في دروب الفطرة السليمة التي تأبى الاضطهاد واستعباد الغير .
لكن هل يعني ذلك أنها أوعى وأفهم منا !؟
أحمــــــد محمــــــود كانــــــم
بولتون\انجلترا : 14 أكتوبر 2020