لظروف خارجة عن الإرادة، غبت لمدة عام عن الكتابة في صحيفة الراكوبة أوحتي قراءتها، وكنت أتوق شوقاً لمعانقتها، وأكثر شوقاً لرؤية خطٍ عام إنتهجه الكتَّاب السودانيون في سبيل خدمة قضية الوطن المركزية والمحورية التي ظل يُعاني منها كل الشرفاء السودانيين ألا وهي حل أزمات البلاد التي سببها نظام الإنقاذ والتي جرّاء إسقاطاتها إنهارت البلاد. وقبل أن نسترسل في موضوع مقالنا اليوم أود أن أُشير على أنني قد لاحظت أن كثير من المهتمين يصفون الوضع في السودان بأنه على وشك الإنهيار ولكنني أقول لهم أن الأوضاع للأسف قد إنهارت فعلاً في البلاد وهذا ما سنثبته في مكان آخر في مقالٍ قادم إن شاء الله.
أُصبت بالدهشة إذ وجدت، كتّاباً صحفيين ومثقفين، تركتهم قبل عام ومنذ سنوات يجهدون أنفسهم بتقديم النصح لنظام الإنقاذ وقادته يستجدونهم إصلاح الأوضاع السياسية والإقتصادية وإجراء إصلاحات في نظام الحكم ومحاربة الفساد إلى آخر النصائح بصورةٍ أشبه بالتوسل ولا زالوا يفعلون، وآخرين هم أفضل حالاً وأكثر صدحاً بالحق، يحاولون فضح فساد نظام الإنقاذ وآخرين أعلى كعباً نصحوا وفضحوا وعندما لم تُفلح جهودهم في تبديل الحال بأحسنه قرروا شتم النظام لم يتركوا مفردةً في قواميس الشتم إلا وكالوها للنظام ولا زالوا يشتمون.
فالناصحون ينصحون ويتبعون النصحية بالأخرى وهكذا، وأُولئك يتحدثون عن الفساد بصورة رتيبة وفي كل مرة يتحدثون فيها عن الفساد يرفعون حاجب الدهشة ثم غداً يتحدثون عن حادثة فساد جديدة ثم يرفعون حاجب الدهشة مرة أخرى وبعد غدٍ يتكرر ذات المشهد، ثم أولئك الأخيرون ظلوا يشتمون بلا توقف!! ثم ماذا بعد ؟ وماهي نتائج جهودهم هذه؟.
بالله ماذا يعني أن يظل بعض الكتاب يكتبون لمدة عشر سنوات عن فساد الإنقاذ، ولقد ثبت فساد النظام ومنسوبيه منذ أكثر من عشرين عام، ولا زال يرتكب الإثم تلو الإثم ويواطئ المفسدة وراء أختها ثم لا ينتصح لهم؟ فلا يكتبوا سطراً واحداً يدعون فيه بصدقٍ إلي رحيل النظام وتقديم من ارتكبوا الفساد إلى منصات المحاكم ورد الأموال والموارد المنهوبة، بعضهم على إستيحاء يُطالب النيابة العامة وهيئة رد المظالم القيام بواجبها وهم يدركون جيداً أن الدعوة لمحاربة الفساد ورد المظالم لن تتأتى إلا بعد رحيل هذا النظام الذي يأوي المتجاوزين ومرتكبي جرائم هذا الفساد الذي يتحدثون عنه وهم يعلمون جيداً أن مرتكبي هذه الجرائم هم منتسبو هذا النظام نفسه، بل بعضهم الآن وزراء ووكلاء وزارات، إن لم يكن حديثنا هذا صحيحاً فليُدلونا على واحدٍ من أفراد الشعب السوداني الذين مِن مَن هم ليسوا أعضاءً في منظومة المؤتمر الوطني أو تربطهم صلات قربي برؤس النظام متهماً بأيٍ من الجرائم التي يسودون بها صفحات صحفهم؟ أعطونا إسماً واحداً لا غير؟ أما إذا عجزتم فإن ذلك بالضرورة يثبت ما ذهبنا إليه من قول أن ناهبي المال العام وأئمة الإجرام الآن في السودان هم منتسبو النظام نفسه وهم يتمتعون بحمايته، فكيف يمكن محاسبة هؤلاء في ظل هذه الحماية التي ظل يُسبغها عليهم؟ إذاً فالمنطق الذي لا يختلف عليه إثنان أن الخطوة الأُولى هي رحيل النظام الذي أصبح بمثابة وكر باض فيه الفساد وأفرخ، ثم تأتي مرحلة المحاسبة بعد تجريد المجرمين من الحصن الآمن الذي يتحصنون به وهم يرتكبون الجرائم، فمن يحرص على ألا ينادي برحيل النظام ولايسعي إلي توعية جماهير الشعب السوداني وتحريضه على التصدي له حتى يرحل فهو بالضرورة يرغب في قرارة نفسه أن يبقى هذا النظام وليس جديراً بالموقع الذي يتقلده كحامل لشعلة التنوير في أمته، لأن من يخشى عواقب موقفه الداعي لرحيل النظام فليكف عن لعب دورٍ هو أقصر قامة من أن يطاله؟.
كلنا ندرك أن هذا النظام لن يترك السلطة التي سطا عليها بليلٍ ولن يُصلح ما أفسده ولن يترك نهب ثروات البلاد ولن يؤمن بالحوار ولابغيره إلا بإرغامه على ذلك، هذا الخيار لم يفرضه أحدٌ عليه بل إن هذا هو خيار النظام نفسه وموقفه الذي ظل لا يحيد عنه كل تلك السنوات الطوال التي ظل يُنيخ فيها بكُلكُله على صدر الشعب السوداني، فما بال هؤلاء يصرون على وضع الندى في موضع السيف؟.
تُوجد شرائح مقدرة من الشعب تُصيخ السمع لهؤلاء المثقفين والكتاب وينتظرون منهم النصح وإضاءة ما غمض عليهم بوصفهم يمثلون ضمير الأمة، لكن للأسف ظلت كتاباتهم لا تزيد المواطن إلا خبالاً ومزيداً من الخنوع والخضوع للنظام الجائر إلى حد الإسترقاق، كتابات حمّالة أوجه تُغبش الرؤي وتهز الثقة في وجدان الجماهير في وقت تبحث فيه عن الثقة والإستعداد لمنازلة ومواجهة الطغاة العصاة، لا زالوا يكتبون مستعنين بالأقواس وعدم الوضوح وبالإشارات الضمنية وهناك كتاب آخرون يُخذِّلون الناس ويُخوفونهم بفزّاعات نماذج التغيير التي حدثت في ليبيا وفي سوريا وفي العراق.
نعلم أن هناك من يكتبون لكسب عيشهم ولا مشاحة في أن يكتب المرء لكسب قوته وقوت أسرته ولكن أن يكتب بوصفه الرائد الذي لا يكذب أهله وأنه هو ضمير الأمة ويكتب من أجلها وأنه هو مناضلٌ يكافح نظام البغي الفاشي ثم يدس السم الدسم ويكتب ليثبِّط من عزائم شعبه الذي يبحث الإنعتاق من أصفاد نظامٍ دموي أحال حياته إلى جحيم فهو ما لا نقبله، يرون الفيل ويطعنون ظله، هؤلاء ينطبق عليهم عجز بيت الشعر الذي يقول: المال عند بخيله والسيف عند جبانه، فليكتبوا عن الأدب والشعر والموسيقي والرياضة وغيرها ويُحللون الأجور التي يمنحها لهم مالكو هذه الصحف ولكن يجب أن لا يخدعوا الشعب السوداني الذي يقرأ لهم ويتطلع إلى التوعية بحقوقه ويشرئب بعنقه نحو فجر الخلاص ومعرفة الكيفية التي بها يُحافظ على ثروات ومقدرات بلاده وصونها من النهب والإستنزاف الرهيب الذي تتعرض له الآن، لأنها ببساطة تعني له معاشه ومستقبله ومستقبل أبنائه وأحفاده.
على صفوف الكتاب الصحفيين والمثقفين أن تتمايز، فالذين يحرصون على أكل عيشهم عليهم أن يبتعدوا عن تبني مواقف في كتاباتهم هم لا يؤمنون بها ويخدعون بها المواطن، لأن موقف الوطن أصبح حساساً وقد حانت لحظة الحقيقة والتضحية والحسم، فاليوم الساحة الإعلامية السودانية ساحة معركة لا مكان فيها للمتخاذلين ومثبطي الهمم، وأما الذين يرون أن الخطر يُحدق بالوطن وأن الفاعل معلوم وأن مناهضته من أوجب الواجبات الوطنية فعليه بالإنحياز إلى جانب الكاتب الصحفي عثمان شبونه ورفاقه الميامين طليعة المكافحين الصادقين، الصادقين مع أنفسهم وشعبهم، فشبونة وآخرون وضعوا المبضع على مخبوء الجرح الدامي الذي يؤلم فلم يتوانوا ولم يتلجلجوا وقالوا هاهنا الداء وهكذا يجب أن يُستطب، ظللنا نطالع كتاباتهم منذ سنوات عديدة مارسوا كل ما في وسعهم لحمل النظام على تجنيب البلاد البوائق والضوائق التي نعيشها اليوم ولما لم يسمع لهم يئسوا منه وقرروا ألا مفر من المطالبة برحيله غيرُ مأسوفٍ عليه أو إسقاطه عنوةً بكل السبل المتاحة.
لقد دفع شبونة ورفاقه الثمن غالياً، فضُيق عليهم بكثرة الجرجرة في سوح المحاكم وتحريض وتهديد رؤساء تحرير الصحف التي ظلوا يعملون فيها لإيقافهم عن الكتابة ولكنهم مثل الصخور الصماء لا يتزحزحون عن مواقفهم أبداً، فقرروا إيقافهم نهائياً من الكتابة، فمنهم من هاجر ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، وإن الله على نصرهم ونصر أهل السودان على الفئة الباغية لقدير.
Almotwakel_m@yahoo.com