د. فيصل عوض حسن
تَنَاوَلتُ كثيراً الرُؤية الإسْلَامَوِيَّة المعروفة بـ(مُثلَّث حمدي)، التي طَرَحوها في مُؤتمر قطاعهم الاقتصادي عام 2005، والتي حَصَروا فيها السُّودان في محورٍ ثلاثي يتكوَّن من (دنقلا، سِنَّار والأبيض)، واستبعدوا ما دون هذه المناطق! وهو أمرٌ رفضه غالبية السُّودانيين، على اختلاف أقاليمهم واتجاهاتهم الفكريَّة والسياسيَّة والعقائديَّة، لأنَّه (يُؤسِّس) للعُنصُريَّة ويُشعل الفتنة والقَبَلِيَّة/الجَهَوِيَّة البغيضة، ويضرب وحدة وتماسُك الدولة وأهلها.
اضطرَّ المُتأسلمون للتَبَرُّؤ (ظاهرياً) من هذه الرُّؤية الشيطانيَّة، لامتصاص (غَضْبَة) السُّودانيين، لكنهم اعتزموا تنفيذها بأساليبٍ/تكتيكاتٍ مُتنوِّعةٍ (خبيثة)، تقودنا في المُحصِّلة، للمُطالبة بمضامين المُثلَّث عقب (فَرْضِهَا) كأمرٍ واقع وهذا ما يجري الآن تماماً. حيث قَدَّمَ المُتأسلمون حِجَجَاً وتبريرات واهية، تارةً بأنَّ هدفهم كان تحقيق التنمية الاقتصاديَّة المُتكاملة في المحور المعني، لتوفُّر (الانسجام) بين سُكَّانه كما يزعمون! وتارةً بأنَّ الفكرة (وِجْهَة نظر شخصيَّة) لحمدي، ولا علاقة لجماعتهم المأفونة به، وهذا كذبٌ مفضوح ولا يُمكن لعاقل تصديقه! فمن المنظور الاقتصادي، استبعد المُثلَّث مناطق الدخل القومي (الحقيقيَّة/الفعليَّة)، ومن ضمنها الشرق الذي يُعدُّ (رئة) السُّودان، ومنفذه البحري الرئيسي والأوحد للعالم الخارجي، بجانب مُساهمته المُقدَّرة بعددٍ من المحاصيل الاستراتيجيَّة كالذرة والسمسم وزهرة الشمس والقطن والفواكه وغيرها. وكذلك الحال بالنسبة لبقيَّة المناطق المُسْتَبْعَدَة فهي – جميعها – ثَرِيَّة بمواردها الطبيعيَّة المُتنوِّعة، التي دَعَمَت الاقتصاد السُّوداني ردحاً من الزمان، ويُمكن التعويل عليها كثيراً في استعادة عافيته ونهضته، مما (يدحض) تَدَثُّرَهم بالتنمية الاقتصاديَّة! وفي ما يخص (الانسجام) الاجتماعي، فقد عشنا في السُّودان ترابُطاً اجتماعياً كبيراً، تَعَزَّز بالتزاوُج والمُصَاهرة وبعوامل الدراسة والجِوَار والعمل وغيرها، وما تزال جذوره قائمة وقويَّة حتَّى الآن، وهذا (يُكَذِّب) تبريرهم الخبيث بشأن (الانسجام)! أما قولهم بأنَّ الفكرة (وِجْهَة نظر شخصيَّة)، فهذا عُذْرٌ أقبح من الذنب، لأنَّ (حمدي) أحد قادتهم وكان يشغل وقتها منصباً حَسَّاساً (وزير الماليَّة)، بما ينفي اعتبار طَرْحَه (أمرٌ شخصي)، خاصَّةً وأنَّه تمَّ في (مُؤتمرٍ) محوري لجماعتهم المأفونة، ويستحيل طَرح موضوعٍ رئيسي فيه دون مُوافقتهم ومُباركتهم!
الحقيقة التي أثبتها و(صَدَّقها) الواقع، أنَّ مُثلَّث حمدي هدفٌ إسْلَاْمَوِيٌ بإيعاز إقليمي ودولي، لتدمير وتفكيك السُّودان ونهب وإهدار مُقدَّراته. ولإنجاح هذا المُخطَّط، اتَّبعَ المُتأسلمون سياسة (فَرِّقْ تَسُدْ)، باستبعاد المناطق ذات الثقافات واللُغات غير العربيَّة من السُّودان، لـ(فَصْلْ) الشعب السُّوداني (وجدانياً) عن بعضه البعض، حيث جرى استبعاد الشرق بقوميَّاته السُّودانيَّة الأصيلة كقبائل البني عامر والبجا والهدندوة وغيرهم، كما استبعدوا النيل الأزرق بقبائله الانقسنا والامبررو والبرتا وغيرهم، بجانب دارفور الكُبرى (قبل التقسيمات الإداريَّة الحاليَّة) وجنوب كردفان وأقصى شمال السُّودان حيث الحلفاويين والمحس، فضلاً عن جنوبنا الحبيب (قبل الانفصال)! أمَّا عن الإيعاز الدولي والإقليمي بهذه الرُؤية الخبيثة، فيعكسه إحْكَام ودِقَّة وتَنَوُّع سيناريوهات/تكتيكات تنفيذها، وانتقال المُتأسلمين المُتسارع و(المُتقَن) في ما بينها، وصَمْتُ العالمِ وتراخيه حِيَال الجرائم الإسْلَامَوِيَّة المُصاحبة لذلك الانتقال والتنفيذ، بما يُؤكِّد أنَّ المُثلَّث (رُؤية) دَوليَّة، والمُتأسلمين وتُجَّار الحرب والنِّضال هم (أدوات التنفيذ)، على نحو ما فعلوا في (انفصال) الجنوب!
عقب انتهاء المرحلة الأولى من المُثلَّث بفضل الجنوب، تَفَرَّغَ المُتأسلمون وتُجَّار الحرب – بدعمٍ إقليميٍ ودوليٍ فاضح – لبقيَّة المناطق، فتم تغذية الصراعات في دارفور والمنطقتين بصورةٍ كثيفة ومُتسارعة، وفُرِضَت التعيينات السياديَّة والتقسيمات الإداريَّة استناداً للجَهَوِيَّة، واستُهْدَفَ أبناء هذه الأقاليم في كل مكان، وارتُكِبَتْ ضدهم أبشع صور الإجرام. والواقع أنَّ أهالي دارفور والمنطقتين، يحيون تحت نيران كلٍ من المُتأسلمين والمُتدثرين بالنضال، وهم وحدهم يدفعون الثمن جوعاً ومرضاً وقتلاً واغتصاباً، في ما يتمتَّع الطرفان المُتقاتلان وأسرهم برَغَدِ العيش، ويتسلُّون بالمُفاوضاتٍ والتسويف والتضليل والمُتَاجَرَة بأرواح وأعراض المُواطنين، والحديث يطول ولا يسع المجال لتفصيله وسنُفرد له مساحة قادمة بحول الله. وبالنسبة لأقصى الشمال، حيث الحلفاويين والمحس، فقد ابتلعت مصر – بتواطُؤ ومُساعدة البشير وعصابته – جميع العُمُوديات النُّوبيَّة شمالي وادي حلفا، كجبل الصحابة واشكيت ودبيرة وسره (شرق وغرب) وجزيرة آرتي كرجو وفرص (شرق وغرب)، وأصبحت أرقين ميناءً بَرِّياً لمصر بجانب مليون فدَّان لمشروع الكنانة، وتمَّ بيع ما تبقَّى من أراضي للموصوفين بأشقَّاء كالسعودية والإمارات والصين.
أمَّا شرق السُّودان، فبجانب إهماله تنموياً وإنسانياً، فقد تواطأ المُتأسلمون – مع آخرين – لتعزيز احتلال المصريين لمُثلَّث حلايب، وأتاحوا مياهنا الإقليميَّة للجَرَّافات المصريَّة المُدمِّرة، وتَغَافَلوا تماماً عن احتلال الإثيوبيين لأراضينا الشرقيَّة، وقتلهم للمُواطنين السُّودانيين ونَهْبْ ممتلكاتهم وإجبارهم على مُغادرة أراضيهم! وتسريعاً لعمليَّة (التخَلُّص) مما تَبقَّى من شرقنا الحبيب، أضاف المُتأسلمون (تكتيكاً) آخر لإكمال مُخطَّطهم القذر، وذلك بسعيهم لتكرار سيناريو (الدَم) الذي طَبَّقوه بدارفور والمنطقتين، حيث (تَعَمَّدَ) البشير وعصابته نَشَرَ مليشياتهم الإجراميَّة بمدينة كسلا (الآمنة)، في الأُسبوع الثاني لهذا العام 2018 بزعم وجود (تهديدات) مصريَّة وأريتريَّة، والإيعاز لإعلامهم التافه والمأجور لتضخيم الموضوع وإلهاء الرأي العام! وما أنْ حَلَّ (مقاطيع) الدعم السريع بمدينة كسلا الوادِعَة، إلا وأشاعوا إجرامهم المعهود ضد الأهالي والمُواطنين العُزَّل، بدءاً بالتحرُّش اللفظي والبدني وانتهاءً بالنهب والسرقة بالإكراه والضرب بالرُصَّاص، دون أي مُسَاءَلَة أو مُحاسبةٍ وعقاب سواء على المُستوى الولائي أو الاتِّحادي، ولا تزال تجاُوزاتهم وتعدِّياتهم مُستمرَّة، بما يُعزِّز القناعة بمُباركة البشير وعصابته لتلك التجاوُزات، إنْ لم تكن بإيعازٍ مُباشرٍ منهم. ولتتأمَّلوا حديث غندور لقناة الشروق (برنامج لقاء خاص) في 24 فبراير 2018، لتُدركوا مدى (انحطاط) ووضَاعَة المُتأسلمين، إذ أكَّدَ غندور عن حِرصهم على العلاقات مع إريتريا، و(نَفَى) بشكلٍ قاطعٍ وواضح أي (تَوَتُّرات) مع مصر، بسبب الحديث عن وجود عسكري مصري في إريتريا يستهدف السُّودان! وقال بالنَّص: أنَّ الاستخبارات رَصَدَت (الوجود) و(تَحَسَّبَت) له بإغلاق الحدود، وهي تدابير احترازية إذا مَنَعَت شراً، الحمد لله، وإنْ لم تفعل فهو أنَّ السودان يحرص على سيادته! وهذه أكاذيب مفضوحة ولا يُمكن لعاقل تصديقها لغياب المنطق فيها، بخلاف أنَّ المُتأسلمين لو كانوا حريصين على البلاد فعلاً، لأوقفوا تعدِّيات وتَوَغُّلات إثيوبيا (الصَّارِخَة)، والتي بلغت حَد إقامة قرىً كاملة لمُواطنيها في (الدندر)، بعدما التهموا الفشقة وتُخُوم القضارف، وذلك وفقاً لإفادات مُمثِّل الدندر في البرلمان لصحيفة اليوم التالي يوم 2 يناير 2018!
وبالتوازي مع هذا، كَثَّفَ المُتأسلمون تضليلاتهم وإلهاءاتهم لاستكمال مُخطَّطهم المأفون، على نحو ما نشرته الشروق في 13 فبراير 2018، بشأن إنفاذ صندوق إعادة بناء وتنمية الشرق، لنحو 1.2 ألف مشروع تنموي وخدمي، وتغطيته لـ90% من الكهرباء وبناء 4 جسور على الأنهار بولايات الشرق الثلاث، دون توضيح أماكن هذه المشروعات ومن المُستفيدين منها ومتى أنجزوها أساساً؟! ومن بين الأكاذيب والتضليلات أيضاً، وفي إشارةٍ واضحةٍ بأنَّ الغزو التُركي لن يتوقَّف على سواكن وحدها، أعلن مُوفَد لحزب العدالة والتنمية التركي بحضور مَنْ وَصَفَهُم بـ(رجال أعمال)، عن اتفاقه مع مسؤولين (لم يُسمِّهم)، على إنشاء قرية سياحيَّة ببورتسودان تتسع لـ(10) آلاف شخص، بواسطة مُهندسين/معماريين (أتراك)! في ما رَحَّبَ والي البحر الأحمر، بمشروع القرية السياحيَّة (المزعومة)، وثَمَّنَ جهود تركيا في إعادة إعمار (سواكن)! والمُدهش، أنَّه في خِضَمِّ هذا الكم الهائل من (التضليل) و(الإلهاء)، يُفاجئنا مكتب الأُمم المُتَّحدة للشؤون الإنسانيَّة بالسُّودان، بتوقُّعاتٍ مُخيفة عن تَعَرُّض أجزاء من شمال دارفور وكسلا لنقصٍ في الغذاء، المعروف بالمرحلة 3 من التصنيف المُتكامل لمراحل الأمن الغذائي، في ظل (صَمْت) إسْلَامَوِي مُخجل، وكأنَّ هذه (التوقُّعات) الدوليَّة المُتخصَّصة تتعلَّق بمناطق خارج السُّودان!
المُحصِّلة، أنَّ مُثلَّث حمدي هو بوصلةُ البشير وعصابته، لتفكيك السُّودان ونهب وإهدار مُقدَّارته، وما يجري في كسلا خصوصاً والشرق عموماً، يأتي في إطار تنفيذ هذا المُخطَّط اللَّعين. والشرق كغيره من بقيَّة المناطق، لن يكون لأهله نصيبٌ من الخيرات التي يحتويها، بعدما باعها المُتأسلمون للطَّامعين الموصوفين بـ(أشقَّاء) كالسعوديَّة والإمارات والصين ومُؤخَّراً تركيا. ولنتأمَّل في الأرقام الفلكيَّة للاستثمارات (المزعومة)، وواقع اقتصادنا المُتراجع وأوضاعنا المعيشيَّة المُتأزِّمة، لنُدرك حجم النَّهب والتضليل والإلهاء الذي يَتَوَجَّب علينا – نحن السُّودانيُّون – إيقافه باقتلاع البشير وعصابته، والحيلولة (دون هروبهم) وإجبارهم على استرجاع ما نهبوه، وتلافي أخطاء بعض الشعوب التي انتفضت ضد طُغاتها، دون استرجاع الأموال التي نهبها أولئك الطُغاة، إمَّا لموتهم أو هروبهم بتلك الأموال، مع الأخذ في الاعتبار حالة السُّودان الاستثنائية و(حتمية) استرداد أمواله المنهوبة، لتسيير الدولة عقب اقتلاعهم!
الفرصة ما تزال مُواتية للحاق بما تبقَّى من بلادنا، إذا تَضَافرَتْ جَهُودنا واتَّحدنا، وكل ما نحتاجه هو الإرادة والثقة في أنفسنا وببعضنا، لأنَّ الخطر يَتَهَدَّدنا جميعاً، على اختلاف أعراقنا ومناطقنا الجُغرافيَّة، مما يُحَتِّم اتحادنا وترابطنا لمُواجهته، والتفرُّغ لإعادة بناء بلادنا على أُسُسٍ علميَّةٍ وإنسانيَّةٍ وقانونيَّةٍ سليمة.. وللحديث بقيَّة.