سيف الدولة حمدناالله
يُخطئ النظام إذا إعتقد بأن شعلة الثورة قد إنطفأت، فأسباب الثورة تزيد ولا تنقص، ويُوهِم النظام نفسه إذا إعتقد بأنه أصبح في مأمن بقفله للجامعات وجَمعِه لإطارت السيارات من محلات البنشر، فحجب الغمام عن رؤية الشمس لا يعني أنها غير موجودة، ومن الخطأ النظر لإنتفاضة الطلبة في كل مدن السودان إلى كونها ترجع لأسباب تتعلق بالنشاط الجامعي، وأنها سوف تنطفئ بإقفال الجامعات وتسريح الطلبة إلى بيوتهم، ففرق بين الأسباب التي تحمِل شعب للثورة على نظام مُستبِد وفاشل وبين عود الثقاب الذي يؤدي لإشتعالها، فالثورة التي فجّرتها الشعوب في مصر وليبيا واليمن أشعلها صاحب طبلية حرق جسده خارج حدود بلادهم لأن تلك الشعوب رأت نفسها في الظلم الذي وقع على المواطن “بوعزيزي” من عسكري بلدية تونسي، تماماً مثلما خطأ القول بأن الحرب العالمية الأولى (1914) التي راح ضحيتها (27) مليون إنسان قد إندلعت بسبب حادثة إغتيال ولي العهد النمساوي فرانز فرديناند وزوجته صوفي في صربيا (حادث سيراييفو).
ثم أن النظام هو الذي يُحرّض الشعب للثورة عليه، فهو يتمادى في أخطائه ويستهزئ بالشعب وكأنه غير موجود، ولا يسعى لتغيير منهجه الذي أوصل البلاد إلى حافة الهاوية، فقد خربوها وجلسوا على تلّها بأرجُل مخلوفة وكأنهم حققوا إنجاز، فهو لا يزال يُنكِر فساد جهاز الدولة ولا يتخّذ أي خطوات في مكافحته ومحاسبة الضالعين فيه، ويتحدث عن إنتهاء الحرب وهي لا تزال مُشتعِلة في أطراف البلاد، ويبشّر بالنعيم والهناء الذي ينتظر الشعب وخزينة البلاد خاوية من العملة الصعبة وليس بالميناء جوال بصل واحد للتصدير، ويردّد بأنه يعتبر الحكم عبادة لله ولدى أركانه إستعداد لأن يأكلوا مال النبي.
بيد أن هذا لا يمنع من مواجهة أنفسنا بوجود أخطاء تسبب في خفوت نبض الشارع مع إقتناع الشعب بأن هذا نظام تالِف وفاسد وتسبب في دمار البلد وأهله ومع توفر الظروف التي تقول بنهايته، وليس في هذا جلد للذات بقدرما مواجهة للنفس بغرض تصحيح الأخطاء.
لقد نجح النظام في إقناع عدد من الناس بأن المعارضة ليس لها برنامج وتصوّر للحكم، وأن بديل الحكومة الحالية هو الفوضى والإنفلات الأمني، وأن مُعارضي النظام بالخارِج هم طُلاّب سُلطة ينتظرون من الشعب أن يُنجِز الثورة بالداخل ثم يعودوا لأرض الوطن ليتقاسموا الوزارات فيما بينهم ثم لا يلبثوا أن يختلفوا عليها، حتى أن شخص مثل كمال عمر، الأمين السياسي للمؤتمر الشعبي قال: أن المعارضة غير متفقة على شيء سوى إسقاط النظام، ولو أن النظام خرج اليوم وترك السلطة لن تستطيع المعارضة أن تتفق على وزير رياضة (جريدة الصيحة 1 مايو 2016).
كما طالعت مقالاً لكاتب قال فيه (وهو يحكي عن أحداث الأيام الفائتة) أنه تابع الإندفاع الهستيري للتنظيمات المعارضة وهي تسعى لإستثمار الحدث سياسياً والتي سارع اصحابها يرجون ان ينالوا من ورائها مكاناً تحت شمس الحكومة الانتقالية الموعودة في ظل نظام جديد، فتدافعوا للوقوف فوق صناديق البيبسي كولا لمخاطبة أي حشد كيفما اتفق، بحيث يتمكن المعاونون من أخذ الصور الفوتوغرافية وتسجيلات الفيديو على عجل، حتى اذا بزغ فجر الانتفاضة، وأطل يوم الحساب الثوري جاء كل (زعيم) يحمل بيمينه الصور وأشرطة الفيديو التي يظهر فيها وتؤكد وجوده في الساحة وهو يقود الثورة”.
برغم قسوة هذا الحديث، فهو صحيح في جزء منه، فالمعارضة تُخطئ في مراهنتها على كراهية الشعب للنظام ونزوله للشارع لإسقاطه هكذا على المغطّى دون أن تُرسِل له إشارة بما يُطمئنه بأنها جاهزة كبديل لإستلام السلطة، وأن لديها خطة مدروسة للحفاظ على الأمن ومنع حدوث إنهيار في سيطرة الدولة على الأمن وسلامة الأفراد عند إنتهاء النظام، والدور الأكبر في ذلك كان يقع على الجبهة الثورية، التي كان عليها أن تستثمر هذه السانِحة لتأكيد أنها حركة قومية تؤمن بوحدة البلاد وليست عرقية ومناطقية كما يُشيع عليها النظام، وأنها سوف تقوم بوضع السلاح وإنهاء الحرب بمجرد سقوط النظام، وأنها سوف تكون عوناً في حفظ الأمن ومنع أي خروج عليه، وأنها سوف تلتزم بتعليمات المركز.
كما كان على المعارضة أن تستثمر هذه المناسبة أيضاً للتبشير ببرنامج الحكم البديل، وأن تُطمئن الشعب على أنها تمتلك رؤية جاهزة لمعالجة قضايا الحكم والسلام وإدارة الموارد وإعادة بناء أجهزة الدولة في القضاء والخدمة المدنية والجيش والشرطة ..الخ، ومعالجة قضايا الإقتصاد والتعليم والصناعة والزراعة والعلاقات الخارجية، وتعرِض للشعب ما لديها من خطة في شأن تطبيق العدالة الإنتقالية ومحاسبة الفاسدين وإسترداد الاموال المنهوبة والعزل السياسي وجبر الضرر عن الذين أضيروا من النظام.
آخِر ما كان يحتاج إليه الثوّار بالداخل أن تنهمِر عليهم البيانات من الكيانات التي تعمل بالخارج في أوروبا وأمريكا، فقد أحسن النظام إستغلالها بتصوير أنها تأتي إليهم من جماعات تضع يدها على الماء البارد، ومثل هذا الدرس وعى قيمته أبناء منصور العجب في الإنتخابات الديمقراطية في منطقة الدندر بعد ثورة أبريل 1985، فقد طلبوا من الأحزاب التقدمية واليسار أن ترفع يدها عنهم برغم ميولهم الإشتراكية، حتى لا يُستغَل ذلك في صرف كثير من أبناء عشيرتهم الذين لا يؤيدون ذلك الفكر.
كما أن على المُعارضة أن تنقّي نفسها من الذين تسببوا في وصمها بفِرية طلاّب السلطة، مثل الذين إستأمنهم الشعب وصدّق أفعالهم وأقوالهم وبنى عليهم الأمل في قيادة التغيير وكان ينظر إليهم كأيقونات للنضال، ثم إتضح أنهم كانوا يعرِضون أنفسهم في السوق للحصول على أعلى سعر بقدر الشراسة التي أظهروها في مُنازلة النظام برفع السلاح أو بحمل القلم، ويكفي أن هناك من بين الذين تقدّموا صفوف المُعارضة في إنتفاضة 2013 قبل عامين وإعتلى المنابر يمجّد الشهداء ويحرّض الشباب للخروج للشارع وهو يرتدي قميص بوبلين بنصف كُم، جاءت إنتفاضة هذا العام ووجدته ينظر إلى المُتظاهرين من وراء زجاج عربة لاندكروزر مُظلل وهو يرتدي بدلة “إسموكنج” بعد أن حصد – من موقفه السابق – منصب وزاري أتاح له ذلك وأصبح جزءاً من النظام.
لقد حان الوقت لأن تدرك المعارضة أن الطريق الذي تسير فيه لا يحقق لها مُبتغى الشعب في التغيير، فالشعب لا يلزمه من يحكي له عن سوء النظام وفساده، بقدرما يريد أن يطمئن إلى أنه سوف يسلّم رقبته لمن يأتمِنه عليها، لا من يقودها من جديد للمذبح، ويلزم لذلك أن تقوم المُعارضة بعرض برنامج الثورة، وأن تعرِض على الشعب تصورها للحكم عند نهاية النظام، ولا تلتفت إلى حديث الحكّام الذين يعايرونها بأنها تسعى للحكم والوزارة، فالذي يُعاير غيره بركضه على كرسي الحكم لا يربط جسده على نفس الكرسي بجنزير وطبلة لثلاثة عقود ولا يزال يطمح في المزيد.
نعم، سوف تنجح الثورة، وسوف تُشرِق شمس الشعب من جديد، إذا وعت المعاضة كيفية معالجة هذه الأخطاء، فإن خبأت الشعلة اليوم، فهي لم ولن تنطفئ،،
سيف الدولة حمدناالله
saifuldawlah@hotmail.com