بِقلم: ديفد وايتهاوس
في عام 1976، افتتح الطلاب السود حقبة جديدة من مقاومة نظام الأبارتهايد العنصري العرقي حين نهضوا متظاهرين ضد الاضطهاد في المدارس.
تجمع حوالي اثنا عشر ألف طالب وطالبة في السادس عشر من يونيو/حزيران في شوارع «ضاحية» سُوْيتو المقسّمة عنصريا للتظاهر ضد تعليمهم باللغة الأفريقانية، وهي لغة الأقلية البيضاء الحاكمة. وحين توجه المتظاهرون نحو مدرج رياضي قريب لعقد اجتماع جماهيري، حاولت الشرطة إيقافهم بالغاز المسيل للدموع وباستخدام الكلاب. وحين لم ينفع ذلك، أطلقت الشرطة النار على المتظاهرين، قاتلين ثلاثة وعشرين شخصا على الأقل.
قبل ستة عشر عاما من ذلك، علّمت مجزرة في شاربفيل بداية حقبة قمعٍ وحشي أدت إلى نفي وسجن قيادات الكفاح ضد الأبارتهايد، من ضمنهم نيلسون مانديلا. ولكن هذه المرة، وعلى العكس من سابقتها، أشعلت المجزرة تقدما في النضال.
خرج طلابٌ عزّل أكثر في اليوم التالي، وقتلت الشرطة مئة منهم. بدأت الحركة بالتوسع إلى كل ضاحية جنوب أفريقية، والسود الأكبر سنا، من ضمنهم العمال، انضموا إلى الحركة. بعد ستة أيام من أول مظاهرة، قام أكثر من ألف طالب في مصنع كرايزلر بإضراب تضامنا مع الطلاب.
خطط المنظمون الطلاب السويتيون القيام بمسيرة يوم الرابع من أغسطس/آب متجهة إلى جوهانسبرغ، وهي المدينة «البيضاء» المجاورة. واستعدادا للقيام بذلك، طرق الطلاب أبواب منازل مدينتهم وأقنعوا العمال السود بالقيام بإضراب عام سياسي استمر ثلاثة أيام.
استمرت الإضرابات حتى الخريف، ونوع الطلاب من تكتيكاتهم لتشمل اعتصامات ومقاطعة وهجمات ليلية دمرت مراكز الشرطة وغيرها من رموز قوة الأبارتهايد.
وفي الضواحي خارج كيب تاون، أقامت الحركة وحدة بين مجموعتين سعى الحكام البِيْض تقسيمها: الأفريقيون ذوو البشرة الداكنة ومختلطو الأعراق، أو ما يسمون بـ«الملوّنون». وكما حدث في غيرها من الأماكن، استخدم النشطاء في كيب تاون أفكار «الوعي الأسود» القومية، المرتبطة بالقائد الطلابي ستيف بيكو، قائلين إن الشعوب غير البيضاء يجب أن تتوحد لأن المنتمين لها كلهم «سُود» في عين العدو الأبارتهايدي.
استمرت المقاومة على المستوى الوطني مدة طولها ثمانية عشر شهرا، وكلفت حياة أكثر من ألف شخص، قبل أن تتمكن السلطات من استعادة سيطرتها. أثناء القمع، قُتِل ستيف بيكو ذاته بوساطة الشرطة في سبتمبر/أيلول لعام 1977.
ولكن الحركة حققت بعض الأرباح. أحدها كان إلغاء الأفريقانية كلغة تعليمية. وحققت انتصارا أكبر أيضا، وهو أن السود المدنيين، إذ عومِلوا حتى ذلك الوقت كـ«أجانب ذوي إقامة مؤقتة»، كسبوا حق السكن الدائم في المدن، رغم أنهم ظلوا مفصولين عنصريا.
ولكن أهم الانتصارات كان انبثاق جيل جديد من القيادات المتدربة في النضال الذي سيصل إلى مستويات جديدة خلال بضعة سنوات.
صورة تلك الأحداث التي تحضر على بال الناس اليوم حين تُذكر الانتفاضة هي صورة أطفال ذوي شجاعة مبهرة يسيرون مرارا وتكرارا تجاه مجرى الرصاص. ولكن لماذا؟
تكمن جذور الانتفاضة في وحشية نظام الأبارتهايد ذاته، وهو أكثر الأنظمة العنصرية العرقية المبتدعة في التاريخ شمولا، وتكمن أيضا في هبّات المقاومة التي نشأت في السنوات السابقة.
عومِل السود، في موطنهم، كأجانب، تحاصرهم قيودٌ تحدد مناطق عيشهم وترحالهم وعملهم. فرض النظام فصلا من خلال نظام جوازات داخلية، مكّنته شركات أمريكية شريكة في هذا الاضطهاد، إذ تضمن ذلك بطاقات هوية مصورة من شركة بولارويد وحواسيب من آي بي إم. كانت الحمامات والشواطئ ونوافير الشرب وعربات القطار والمدارس والخدمات الصحية، وحتى إمدادات الدم، كلها كان مفصولة عنصريا، وحصل السود على أسوء الأشياء.
كان الهدف هو توفير عمالة رخيصة يمكن التخلص منها للكدح في مزارع البِيْض الأغنياء ومصانعهم ومناجمهم. وكعمال زائرين دائمين، لم ينتمي السود، وفق سردية الطبقة الحاكمة إلا إلى «الأوطان القَبَلية»، تلك الأراضي القاحلة المعزولة المعروفة باسم البانتوستانات، حيث يمكن طردهم إليها حتى يأتي اليوم الذي يحتاجهم فيه أرباب العمل البِيْض. وفي الضواحي التي خدمت المدن «البيضاء»، كانت نسبة البطالة حوالي 25 بالمئة. وأما في البانتوستانات، كان الرقم أقرب إلى 50 بالمئة.
ولكن بعد نكسات الستينات، بدأت المقاومة باستعادة صحتها. من ناحية، ازداد حجم الطبقة العاملة السوداء بمقدار الضعف منذ مجزرة شاربفيل. عنى ذلك أنه رغم ارتفاع نسبة البطالة، لعبت نضالات مقرات العمل دورا أكبر من أي وقت مضى في الكفاح ضد الهيمنة البيضاء، وفي عامي 1973 و1974، أقام 100 ألف عامل وعاملة في مدينة ديربان الساحلية إضرابا من أجل أجور أعلى، وأُجبِرت الدولة نتيجة لذلك على منح حقوق جديدة للنقابات.
ولاحقا، في عام 1974، أعطت الثورة في البرتغال حياة جديدة للنضالات التحررية في أنغولا وموزمبيق، مستعمرتان برتغاليتان على حدود الأراضي الجنوب أفريقية. تجاور موزمبيق جنوب أفريقيا من شرقها، بينما تقع أنغولا شمال ناميبيا الحديثة، حيث كانت وقتها واقعة تحت الحكم الجنوب أفريقي. في عام 1980، ومع مطلع حكم الأغلبية السوداء في زيمبابوي (على الشمال الشرقي من جنوب أفريقيا) خُتِم الانبثاق الكامل لدول «الجبهة الأمامية» ذات الحكم الأسود، والتي مدّت يد العون ووفرت مأوىً للمحاربين ضد الأبارتهايد في جنوب أفريقيا.
في أوائل 1976، قبل عدة أشهر من انتفاضة سُوْيتو، اجتاح الجيش الجنوب أفريقي أنغولا في محاولة فاشلة لمنع الثوار اليساريين من الإمساك بالسلطة. استلهم الجنوب أفريقيون السود من ذلك في نضالهم حين رأوا جيش الأبارتهايد «المنيع» مهزوما في أنغولا.
عبّر الطلاب عن روح مقاومة جديدة من خلال حركة الوعي الأسود، والتي استلهمت جزئيا من حركات أمريكية مثل الفهود السود (Black Panthers). بُنيت تلك الحركة حول «رابطة الطلاب الجنوب أفريقيين» (ساسو) التي أسسها بيكو، حيث وصلت لأقصى نفوذها في حركة عامي 1976 و1977. ورُغم قتل بيكو والانحدار اللاحق لـ«ساسو»، حققت رسالة الحركة، المتمحورة حول الفخر الأسود والاعتماد على الذات، تأثيرا متينا على الوعي الشعبي.
وفي فبراير، خرج الطلاب في مسيرة داعمة لمدرِّسَين سُوْيتوييَن طُرِدا لرفضهما التدريس باللغة الأفريقانية. قام الطلاب بإضرابات مدرسةً تلو الأخرى، وانبثقت منظمة جديدة، مجلس نواب الطلاب السُوْيتويين. دعا المجلس لإقامة مظاهرة السادس عشر من يونيو/حزيران، والتي وحّدت طلابا من ثلاث مدارس.
نشأت بقية الحركة بشكل مماثل، مع تكوين الشباب والعمال تنظيمات جديدة من العدم. أتت المبادرة من الشعب، وليس من التنظيمات الجماهيرية القديمة، مثل المؤتمر الوطني الأفريقي والحزب الشيوعي، حيث تعرضا لنكسات بسبب القمع الأولي.
ومثل الانتفاضة الفلسطينية الأولى، مثّلت انتفاضة سُوْيتو عودة الناس العاديين إلى النضال الشعبي بعد فترة أجري فيها أغلب الكفاح بواسطة نشطاء مخضرمين شنّوه من منفاهم.
دفع النضال مئات القادة الشباب للذهاب إلى ما هو أبعد من الوعي الأسود، ونحو استراتيجية طبقية لمحاربة الأبارتهايد.
في بادئ الأمر، أدار الضواحي والبانتوستانات سود و«ملونون» من الطبقة الوسطى استفادوا من تعاونهم مع الأبارتهايد. استنتج المناضلون الشباب وجوب رسم خط فاصل ضد هؤلاء المتواطئين، رغم كون هؤلاء المتواطئين «سود».
وبدأ العديد يدركون أن أكبر نقاط قوة الحركة كمنت في قدرة العمال على التنظيم والإضراب، وبعض هؤلاء أصبحوا لاحقا الجناح اليساري لـ«مؤتمر النقابات الحرفية الجنوب أفريقية» (كوساتو) حين أُسِّس عام 1985.
وساعدت الحركة أيضا على الإبقاء على تقليد الأممية، حيث أن كل اندلاع جديد للنضال استدعى جولة جديدة من التضامن والتوجه للراديكالية في أوساط الشباب والعمال في أرجاء العالم، بما فيها دول الجبهة الأمامية في الجنوب الأفريقي.
ولكن، بصورة عامة، سُخِّرت قوة العمال السود الاجتماعية داخل البلاد لصالح الزعامة السياسية للمؤتمر الوطني والحزب الشيوعي. ساهم هذان التنظيمات في حركة عامي 1976 و1977 حيث تكمن، بسبب منظورهما الوطني وسُمعة أعضائهم كمحاربين، كلٌ من هذين التنظيمين من النمو نموا ضخما.
حتى أواخر الثمانينات، كافح العمال الأفريقيون ضد نظام الأبارتهايد حتى وصلوا طريقا مسدودا. وحين أخلى النظام الأبِيْض عن سبيل نيلسون مانديلا في عام 1990، كان أمله في جعل الانتقال إلى حكم سياسي أسود سيبقي على القوة والهيمنة الاقتصادية للأقلية البيضاء.
طلب مانديلا من العمال أن يبقوا الضغط على النظام لكي ليتنحى جانبا، ولكن المؤتمر الوطني سعى لثني العمال عن كفاح سينزع قوة الرأسماليين في نقطة الإنتاج من جذوره.
كان وصول مانديلا إلى الرئاسة في عام 1994 انتصارا كبيرا لكونه إشارة لانهيار الأبارتهايد، ولكن المؤتمر الوطني تبوّأ الحكم واعدا بحماية ملكية البِيْض للأراضي والمصانع والمناجم. ولهذا السبب ظلّت اللا مساواة في جنوب أفريقيا رغم أن العنصرية العرقية لم تعد مكتوبة في كتب التشريعات.
ومع ذلك، فمبادرة الشباب وقوة العمال لا تزال باقية، فانتفاضة سُوْيتو كشفت عن هذه الإمكانيات، وهي إمكانيات لا زال الجنوب أفريقيون السود بحاجة لاستخراجها لتحقيق تحرّرٍ كامل.
ترجمة ما العمل
المصدر: ووركس إن ثيوري