إنّ من مميزات هذا العصر العولمي أن تقنيات إنتاج وتوثيق ونشر المعلومة اصبحت سهلةً , وفي متناول يد الكبير و الصغير و الخفير و المدير والوزير , فجميعنا يملك الحواسيب الرقمية و الهواتف الذكية فائقة الدقة في التصوير و التسجيل و المونتاج , وأمست الأخبار تصل إلى مسامعنا و مشاهدنا قبل ان تمر بـ(فلتر) وكالة رويتر للأنباء , حتى يتم تصفيتها وتنقيتها و فرز الثمين فيها من الغث , فانهارت الجدر و الفواصل التي كانت تمثل حاجزاً في الماضي القريب , و مانعاً من وصول الحقائق و الأسرار بهذه الطريقة المجانية , التي نعاصرها هذه الأيام عبر الواتساب و الفيس بوك و التويتر , لقد كان الناس و إلى وقت ليس بالبعيد يتجمهرون و يتجمعون حول الراديو الترانسستور , لينصتوا خاضعين الى صوت المذيع الشهير باذاعة البي بي سي حينها أيوب صديق , ليخبرهم من لندن عاصمة الضباب ما يجري في عاصمتهم الخرطوم , أما الآن فالناس لا ينتظرون فرانس أربعة وعشرون ولا الأذاعة اللندنية , لكي تقوم بإعلامهم عن فضائح الفساد والإفساد لدى رموز نظامهم السياسي وحكامهم , فمع توفر خدمات الشبكة العنكبويتة المجانية و احتضان عامة الناس للأجهزة اللوحية , المزودة بالماسحات الضوئية ذات الجودة العالية (HD) , والقادرة على تصوير المستندات ليلاً و نهاراً و في أي وضعية كانت , و إرسال هذه الوثائق عبر الوسائط السايبرية في لحظات خاطفة , لاحظنا عدم مواكبة جيل الوزراء و الحكام و وكلاء الوزارات للتكنلوجيا الحديثة , وعدم إلمام أمناء ومدراء المؤسسات الحكومية الكبيرة , بأبجديات التعامل مع مخرجات هذه الطفرة التقنية الدقيقة و السريعة , وفي ذات الوقت بعدهم عن إستيعاب خطورة سوء استخدام وفائدة هذه البرمجيات الجديدة , فحدثت الإنزلاقات و التسرعات من قبل هؤلاء القيادات الديناصورات , الذين لم يحسنوا استخدام هذه الوسائط بالطريقة التي تراعي المكانة والوظيفة التي يشغلونها , فبالأمس فاضت مواعين الواتساب (الأخيضر) , بتسجيلات صوتية لأمين جهاز شؤون السودانيين العاملين بالخارج , وملأت فراغ الناس بالنقد و التحليل تارةً و بالتهكم و السخرية تارات أُخر , مثلما حدث مع رئيس حركة العدل و المساواة قبل أعوام مضت , عندما بهتته إحدى الناشطات المفارقات لصفوف الحركات المسلحة , فكالت عليه تهم الفساد و التغول على اموال الحركة , فانبرى للرد عليها متسرعاً بصفته الشخصية والفردية , بدلاً من أن يترك الأمر لاجهزة الحركة الأعلامية و القانونية , لتقوم بدورها في الدفاع عنه وتناول الامر باعتبار شخصيته الإعتبارية , كرئيس لمنظمة سياسية لها مؤيدين و أتباع يمسهم أي هجوم يشن عليه , قبل أن يمسه هو في شخصه.
لقد سقط الدكتور الشهير أيما سقوط عندما عاب على ناشر الوثائق التي تدينه عرفاً و قانوناً , وهو (أي الدكتور كرار) الذي أراد أن يمن على هذا الناشر بتفضله عليه , ومنحه الموقع الوظيفي في ذات الجهاز الذي يديره , بقوله انه وهبه الوظيفة دون أن يعرف قبيلته ومن أي جهة من جهات السودان جاء , في حديث إستعلائي وجهوي وقبلي ينضح عنصرية , أعماه عن النظر الى المؤسسة التي يقودها بعين الواقع و الحقيقة التي تقول : ان جهاز شؤون السودانيين العاملين بالخارج ما هو إلا جسم دستوري قومي , يحق لأي مواطنة أو مواطن سوداني أن يكون عاملاً أو موظفاً فيه , بصرف النظر عن اللون أو الجهة أو القبيلة , ومثل ردة فعل السيد مسؤول جهاز المغتربين الصوتية المسجلة هذه , تعيدنا إلى تلك الأيام الخوالي التي صدر فيها الكتاب الأسود , السفر الذي فضح مسلك الحكومات المركزية في تعميق المنهاجية الجهوية في مفاصل مؤسسات الدولة السودانية , فتصريحات الرجل الغاضبة فضحت مكنونات عقله الباطن , فسالت قيحاً وصديداً مثقلاً بالكراهية و البغضاء , المنطلقة من رفض الآخر المختلف لوناً و عرقاً و جهةَ , وعدم قبوله في المؤسسات المركزية , فبغض الطرف عن المخالفات المالية التي تجاوزت المليون دولار , والتي كشفها وفضحها ناشر الوثائق , نجد أن خطورة الأزمة تكمن في أفراد النخبة الحاكمة أنفسهم وليس في مقدار سمنة أو ضعف القطط الحكومية , وإنما الكارثة الكبرى هي إستمراء وإنتهاج مسلك الفصل القبلي , والفرز الجهوي من قبيل النخبة الحاكمة , و التي يمثل الدكتور كرار التهامي أحد أعمدتها و عينة إحصائية و ليست عشوائية , من العينات التي تمثل هذه النخبة الجهوية التي أزّمت الحالة الأقتصادية و السياسية و الإجتماعية في السودان , والتي اوقفت نبض الوطن فحدث الأنهيار الكامل في كل الأصعدة .
إنّ إنفلات تلك التسجيلات الصوتية لمسؤول الجهاز المنوط به خدمة المغتربين السودانيين في بلاد المهجر , بتلك الصورة الأنفعالية المتسرعة و المتشنجة توحي بأن حالة هذا المسؤول , يعكسها المثل السوداني القائل : (فلان ضنبه شايل حسكنيت) , وأن جميع السبل امام المدافعين عنه ستكون شائكة و ملغومة , و لن تتخطى مقال (سهير الرشيد) التي لم تجد حجة تدافع بها عن موكلها , غير التهكم على اسم ناشر الوثائق ذات الحجج الدامغة (ضحية سرير) , و إنبرائها إلى الإساءة الشخصية له في عنوان ذلك المقال الباهت المسمى (العناكب البشرية), وهو ذات الخط الذي سار عليه المسؤول الكبير موضوع المقال في الرد على الناشر , عندما تعرض لأنتماء (ضحية سرير) القبلي والجهوي ولأصله و فصله , في محاولته اليائسة لدحض الحقائق والأرقام , التي وردت في الاوراق الموثقة و المرسلة عبر وسيط الواتساب , فالأمر طفح كيله بتفاصيله الواضحة لعامة الناس , لو يعلم سعادة أمين جهاز شؤون السودانيين العاملين بالخارج , و لن توقفه إلا الحجة الدامغة التي لا أظن أن هذا المسؤول الرفيع المستوى يمتلك ناصيتها , فالعقول الجبارة ذات الثقافة الواسعة يا (سهير) لن تتاتى لها القوة الجبارة و الحكيمة , إذا فقدت وازع الضمير و الخلق النبيل الذي يعاف صاحبه الولوغ في إناء المال العام , وما أقعد بلادنا عن اللحاق بركب الحضارة الأنسانية إلا هذه المحسوبية و العرقية الصارخة و هؤلاء المدافعون عن الباطل.
هكذا أضاعوا ألدولة السودانية و نحروها في شمس رابعة النهار , نفوس لا تعرف للوطنية و الوطن إلا الإمعان في إزدرائه و إذلال مواطنه وألأستيلاء على أمواله نهباً و تغولاً , وذلك بتطويع القانون و الموقع الوظيفي و الحقيبة الدستورية , لتعمل على تخريب الإقتصاد الوطني عبر مثل هذه السلوكيات المنحرفة , التي جعلت من أمانة التكليف خيانة فاضحة وعارية , تسعى بين الناس دون خجل ولا تجد من يسترها او يتستر عليها , فقد تم استغلال النفوذ في نشر المكروه و محاربة المعروف بإعدام المباديء الانسانية و شنقها , فذهب الحياء و ماتت المروءة وسادت مظاهر التبجح و التطاول و الغطرسة و الأعتزاز بالإثم.
اسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com