أغلقت الطرق و شوارع العاصمة أمس احتفاءا وتأمينا لزيارة أردوغان الرئيس التركي، وهي تعتبر زيارة نادرة من نوعها لقيادة تركية من هذا المستوى للسودان. والرجل الذي أصبح معروف بديكتاتور تركيا خاصة بعد انتخابه رئيسا وقمعه لمعارضيه بعد محاولة الانقلاب الأخيرة عليه، فهو يرى في نفسه مجدد روح تركيا وامبراطور الدولة العثمانية الجديدة التي يسعى إلى انشائها. لكن الرجل أيضا هو في الأساس رجل أعمال ناجح نقل تركيا نقلات اقتصادية نوعية في فترة قصيرة جدا مما ضمن له مكانة خاصة لدى الأتراك، وبالتالي فإن مشروعه التوسعي له جانب اقتصادي بالدرجة الأولى إضافة إلى الجانب السياسي.
من المعروف أن السودان وتركيا لهما تاريخ مشترك مرير، وقد انتشرت كثير من التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي من كثير من السودانيين الذين طالبوا أردوغان بالاعتذار عن قسوة جرائم الحكم التركي، حيث عرف الأتراك ببطشهم وفسادهم. واصبح الفلكلور والثقافة الشعبية تعبر عن الحكم الباطش بوصف (التركية) وكل حاكم ظالم يوصف بأنه وكأنه يعيد البلاد لعهد التركية السابقة كما يقول أهلنا. الآن في عهد التركية الجديدة يضع نظام البشير السودان مجددا في حضن التركية العصرية ذات التوجه الإسلامي وتحديدا التي ترعى التنظيم الدولي للاخوان المسلمين.
ان زيارة أردوغان للسودان في هذه المرحلة تحديدا لها عدة أبعاد سياسية أولها مرتبط بإعادة تموضع نظام البشير في الإطار الإقليمي المضطرب عربيا وإسلاميا. فبعد فشل جميع مشروعات محمد بن سلمان وتراجع مخططاته في المنطقة وعدم وفاء السعودية بوعود دعم السودان اقتصاديا كما يحتاج رغم دعمه سابقا في مسألة رفع العقوبات، الا ان النظام يعيش ضائقة اقتصادية يحتاج فيها إلى دعم خليجي لن يحصل عليه بعد انتهاء الحرب في اليمن بشكل عملي. وعليه فإن النظام الان يتجه نحو الحليف الاقوي في المعسكر السني في الشرق الأوسط وهو تركيا.
هذا التقارب سيعني بالضرورة إعادة النظر في علاقة البشير بالتنطيم الدولي للإخوان المسلمين، حيث أن التنظيم أصبح يفقد الكثير من أراضيه من مصر إلى تونس إلى المغرب الي ليبيا وحتى سوريا واليمن. وبالتالي فإن السودان الذي بدأ مؤخرا أيضا بالتوجه نحو الجيش لاستبدال الإخوان المسلمين في راس السلطة، يبدو أنه تحت ضغوط أردوغان وشي من دعمه المالي سيراوغ ويقوم بالحفاظ على بقاء بعض قوة الإخوان المسلميين في الدولة، كما أن السودان يبدو أنه يمكن أن يكون منفى إجباري لا اختياري للكثير من الاخوان المسلمين الذين لم تعد تركيا قادرة على استيعابهم خاصة بعد انتهاء حرب سوريا والتضييق عليهم في ليبيا واليمن.
من جانب أكثر استراتيجية فإن تركيا تسعى إلى التضييق أيضا على مصر من خلال السودان الذي تبني مؤخرا نهج أكثر مواجهة مع القاهرة وهو يقترب مرة أخرى مع الاخوان المسلمين وإيران أيضا. ان تصريحات البشير الأخيرة من روسيا وطلبه للحماية ليست أيضا بعيدة عن هذه الزيارة. فتركيا رغم دعمها للإخوان المسلمين من أجل تغيير الديكتاتوريات ما بعد الربيع العربي، الا انها مضطرة لدعم ديكتاتور السودان لأنه لازال رمزا لنجاح تنظيم الإخوان المسلمين في الحكم في إحدى دول المنطقة. فإن حماية الدولة التركية لنظام البشير بعد حديثه عن خطر امريكي يهدد بانتزاعه من السلطة هو كرت آخر لكسب الوقت يلعب به النظام الان لعبة دولية وإقليمية جديدة تزيد من عمره على حساب مصالح الوطن وحقوق الشعب السوداني.
فالحماية والاحتلال التركي لن يكون مجانيا بالتأكيد فحسب وزارة الاستثمار هناك استثمارات تركية تفوق 2 مليار دولار والان تم رفع التبادل التجاري إلى مليار دولار. إذن هناك المزيد من أراضي السودان وثرواته التي سيتم تسليمها إلى تركيا في مشهد احتلال جديد لكن على المستوى الاقتصادي. في جانب آخر من الزيارة فإن جدول الرئيس التركي سيشمل زيارة لسواكن التي توجد بها آثار قديمة للاحتلال العثماني للبلاد. وهي الجزء من الزيارة الذي يحمل إشارات سالبة تذكر ألشعب السوداني بتلك الحقب الاستعمارية. ولكن من أجل توطيد البشير ونظام العصابات الذي يحكم البلد فتاريخ السودان وحاضره ومستقبله رهينة لمصالح هذه الفئة المجرمة التي تلعب بألسودان أرضا وشعبا وتاريخا لاجل استمرار سيطرتها على البلاد.
أن هذه الزيارة لأردوغان ربما يكون لها دور في إطالة عمر النظام، خاصة وأن الدولة الان تقف أمام أزمة اقتصادية قد تفجر غضب شعبي وشيك إذا لم يتم احتواء سريع للأزمات اليومية للوقود والخبز وغيرها. ليس بالضرورة أن يقدم أردوغان الدعم المالي المباشر لكنه بالتأكيد يقدم بهذه الزيارة دفعة معنوية للنظام ويضع له صورة إقليمية ودولية قد تمكنه من الحصول على ما يعينه على الخروج من هذه الأزمة الاقتصادية الراهنة . خاصة أن النظام الحاكم قد أجاد دوما لعبة الزمن التي ظل يلعبها منذ وصوله. ومع دعم التنظيم الدولي الحريص على أن لا يفقد السودان كارضية انطلاق فإن النظام للأسف مازال قادرا على المناورة مما يجعل العمل على إزالته يتطلب جهودا أكثر جدية من مجرد الدعوات الي التغيير دون عمل حقيقي موازي ومساوي لما يقوم به النظام للحفاظ على استمراريته في الحكم .