بقلم عثمان نواى
بعد ثورة شعبية مزلزلة مثل ثورة ديسمبر التى تمر ذكراها هذه الأيام، يجد المرء صعوبة فى تفسير مواقف الحكومة الانتقالية واحزاب قحت من مطالب جزء من شعوب السودان خاصة مطلب العلمانية. فحسب ما يعلم كل طفل خرج فى ثورة ديسمبر المجيدة ان مطلب الشعب كان إسقاط دولة تجار الدين والدولة التى تحكم باستخدام الإسلام كذريعة للغش والفساد والاجرام. وبالتالى فإن خيار الشعب السوداني الواضح كان أبعاد اوهام الحكم بالدين من العمل السياسي وايجاد دولة مدنية ،وهذه المدنية ليست فقط المقابل المعاكس للعسكرية ولكنها أيضا تعنى دولة القانون التى تاخذ شرعيتها من الشعب وليس من المقدسات الدينية.
ومن هنا تبدأ التساؤلات حول ما إذا كانت حكومة الثورة واحزاب قحت جادة فعليا فى احداث تغيير حقيقي فى السودان. وأهم تغيير يجب ان يحدث فى أرض الواقع هو فصل السياسة عن القداسة او عن كل ما هو مقدس. “وليست العلمانية سوى فصل المقدس عن السياسة”. بما فى ذلك الدين. فإن السياسة هى فن إدارة الممكن والممكن لا يكون مقدس ابدا. لكن استخدام الدين في السياسة السودانية ظل دوما وسيلة لتقديس الحاكمين وتمكين مجموعات معينة عبر ربط أنفسهم بالمقدسات وبالتالى إخراج أنفسهم من دوائر المحاسبة وأيضا من اى احتمالات للتغيير، وعلى هذا النهج حكم السودان المهدى ومن بعده اتى السادة وتحت عبائتهم تخفت النخب منذ الاستقلال حتى تحكم بالقدسية الدينية وليس بالاحقية السياسية واختيار الشعب الحر الواعى، فعندما كان ينتخب السودانيون كانوا ينتخبون قدسية الإمام او الشيخ ولم يكونوا ينتخبون موظف لدي الشعب يخدم مصالحه، ومن هنا بدأت الأزمة منذ الاستقلال الذى تمر ذكراه هذه الأيام . “لذلك فإن التمكين لم يبدأ فى عهد الكيزان ،التمكين هو آلية حكم النخبة المهيمنة منذ السودنة فى ١٩٥٦، ومن هناك يجب ان يبدأ التغيير وتفكيك التمكين.”
فإن كانت نخب المركز المهيمنة وخاصة قحت جادة في احداث تغيير حقيقي ،فكان فى يدها تسويق التعريف الحقيقي لعلمانية الدولة مثلما سوقت تعريف الدولة المدنية المطعمة بالعسكر والجنجويد ،وابرزت تلك الدولة المدنية بالشراكة مع العسكر على أنها انتصار الثورة. فإن كانت القوى النخبوية المهيمنة على المركز جادة فى عملية التغيير الجذرى ،فانها كان من الممكن ان تتبنى مطالب أجزاء كبيرة من شعب السودان واحزابه السياسية وحركاته المسلحة بما فيها احزاب داخل قحت نفسها، بالترويج لمبادئ العلمانية فى الدولة كوسيلة حماية من عودة نظام دينى مثل الكيزان مرة أخرى وأيضا كوسيلة لجمع شتات الوطن وتوحيده.
لكن الرفض والتعنت من النخب المهيمنة على السلطة يبدو أنه لم يخرج ابدا من كل المبررات الواهية التى يسوقونها، مثل مبررات تتعلق بتدين السودانيين او بحساسية مصطلح العلمانية لدي عامة الشعب. بل ان هذا التعنت فى هذه اللحظة التاريخية الحاسمة من تاريخ السودان يبدو أنه مرتبط بسببين أساسيين. السبب الأول هو عدم رغبة هذه النخب فى الاعتراف بفشل مشروع أسلمة الدولة السودانية والذى لم يبدأ مع الكيزان، بل هو مشروع النخبة المهيمنة منذ الاستقلال ، حيث لم يتوقف جدل الشريعة الإسلامية منذ برلمان الاستقلال الأول مما اجل إقامة دستور دائم فى السودان منذ ذلك الوقت، وتكرر الأمر فى برلمان ثورة اكتوبر وطرد الحزب الشيوعي أيضا كان ضمن التكتيك السياسي لازاحة حزب تقدمى ربما كان سيسحب البساط تدريجيا من احزاب الائمة وسادة الطرق الصوفية الحاكمة وقتها والتى لازالت تحكم من خلف المقود الى الان. وبالتالى فإن فشل أسلمة الدولة عبر سقوط اكثر مشاريع الأسلمة تطرفا اى سقوط الكيزان وعلى يد الشعب السوداني المتدين نفسه أصبح إعلان حقيقي لرفض النموذج الدينى للدولة. لذلك فإن فشل مشروع حكم السودان بواسطة السلطات الدينية المقدسة سواء على أيدى الكيزان او من تحت عباءات الطائفية، أصبح جليا الان. ولم يعد سلاح السيطرة على جموع الشعب السوداني بالدين ممكنا. لذلك تقف الان نخبة المركز المهيمنة خائفة من سقوط اهم أدوات سيطرتها على ارادة الشعب السودانى منذ بداية الدولة الحديثة،لذلك فانها تخشى من ان إعلان علمانية الدولة سوف يدفن تماما كل فرصها فى استمرار هيمنتها التاريخية على الشعب عبر أدوات تغييب العقول والارادة الواعية الحرة لكل مواطن سودانى.
اما السبب الثانى لتعنت النخبة المهيمنة تجاه مسألة علمنة الدولة ،فإنه نابع من السبب الأول، ” فالمشكلة لا يبدو أنها فى طرح العلمانية ولكن فى من الذى يطرح العلمانية كخيار لحكم السودان.” فإن طرح مسألة العلمانية من قبل الحركة الشعبية لتحرير السودان والحركات المسلحة من مناطق النزاعات هو طرح لبديل ومشروع وطنى بديل لم يخرج من تلك النخب، وإذا وافقت عليه فإنها تعترف اولا بفشل مشروعها الأحادي القمعى المنتج للازمات التاريخية فى السودان ،وثانيا تعترف بان هناك اخر فى هذا السودان لديه طرح يقدمه ليس فقط لبعض اجزاء السودان بل لإنقاذ السودان ككل من كارثة التجربة التاريخية لحكم النخب المركزية منذ الاستقلال. يضاف الى ذلك ان المشروع الوطنى البديل بما فيه العلمانية ربما يجد فعليا أرضية قبول لدى كل السودانين ،خاصة الاجيال الجديدة ، فى حال اتيحت له منابر التواصل السياسي الحر وبشكل متساوي مقارنة ببقية القوى المركزية، فان تواصلت القوى الثورية من مناطق النزاعات مع الشعب السوداني الذى كره كل هذا التاريخ الملئ بالاخطاء التى قسمت البلاد وابعدت الشعب السوداني عن حكم نفسه ،ربما يكون هناك تنافس سياسي على مستوى اخر لا ينحصر فقط حول مناطق النزاعات بل فى كل السودان.
ان المطلوب الان من نخب المركز المهيمنة ان تترجل عن عرش عنجهيتها وتعترف بفشل مشروعها الوطنى الذى قسم ودمر السودان واسلمها للكيزان وعليها ان تعطى الشعب السوداني فرصة فى تجربة مشروع جديد مختلف بديل عن مشروع الفشل والأخطاء الكارثية التى حكمت السودان ل ٦٤ عاما . فهل تحتكر هذه النخب حتى حق الآخرين فى ارتكاب الأخطاء! ان اول خطوات المساواة والشراكة فى الوطن تبدأ من هنا، من ضمان حق الآخرين فى طرح بديل لفشل دولة انهارت من كثرة أخطاء النخب المهيمنة، وكما جربت تلك النخب أسلمة الدولة السودانية ٦٠ عاما فلماذا يخشون تجربة علمنتها لعدة سنوات ؟ هل هو حرص على الوطن ام خوف على فقد هيمنتهم؟
[email protected]