صلاح شعيب
نلاحظ هذه الأيام نقاشا موسعا، ومحتدما، حول راهن السودان، وقضاياه المعقدة. يستعر جدلنا الديموقراطي في الميديا الاحترافية، ووسائط التواصل الاجتماعي، والندوات، والصالونات، وكذلك في مواقع ملمات الأهل في الداخل، والخارج. يتلبس النقاش بأبعاد فكرية، وجهوية، وايديولوجية، وشخصانية. ولكنها على كل حال هي نوايا الرأي العام التي يصعب ردها لجذور النفس العمارة بالحسنى والسوء. ومهما انغمس هذا النقاش – وتشخصن في الباطن – في هذه الخلفيات الجدلية فإنه في خاتم المطاف هو نقاش الديموقراطية الذي يتبلور في الظاهر. إذ تتنوع في ساحة النقاش أجندات الكاتبين، والمتحدثين، لتدعيم وجهات نظرهم. ولكن المشكلة الأساسية أن الديموقراطية التي نريد تأسيسها الآن تأتي عقب صراع نخبوي كثيف لحيازة الثروة، وجلب السلطة، وتعميق النفوذ.
تنظيماتنا الثورية في اليمين، واليسار، والوسط، وحركاتنا المسلحة، وهناك يقودها التكنوقراط، والمستقلون، معنية بترسيخ هذه الديموقراطية بالوعي أكثر من أي جهات أخرى. لكن لحظنا في كثير من الأحيان أن الصوت، أو الموقف الذي يتعالى هنا وهناك لا يخلو من انحياز للتنظيم الحزبي – أو العسكري – أكثر من الانحياز لدعم الفترة الانتقالية لتوطين الديمقراطية. بل لا تفوت على فطنة المرء أن هناك نذر تصفيات لخلافات تاريخية على حساب مصالح وطنية.
نخبتنا – نتيجة للاستقطاب الحاد حول مواقفها، ورغم وعيها الأكيد بالمخاطر التي تحيط بالبلاد – لا تمارس الخشية من إعادة إنتاج خلافاتها الضيقة التي بدأت منذ عشية الاستقلال، واستمرت حتى أوصلتنا هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا.
الملاحظة الثانية أن الخصومات الحزبية التاريخية بين مكوناتنا الفاعلة مركزيا، وعسكريا، وخصومات الأفراد الرموز من جهة، وخصومات أبناء المهنة الواحدة الناشئة بسبب الغيرة، والحسد، من الجهة الأخرى، تتمظهر بوضوح في بنية الفعل السياسي. وبالتالي تبدو كثير من مواقف تنظيماتنا، والرموز، والناشطين، آخذة في شكل التعقلن، أي عقلنة مواقف ذاتية الدافع ثم ضخها في الساحة السياسية لتبدو مواقف موضوعية بناءة.
المؤسف أن كثيرا من المواقف الماثلة أمامنا في البنية السياسية تجافي الموضوعية، وتغرق في التحشيد لهزيمة هذا الخصم التنظيم، أو ذاك الفرد، وذلك بصورة تغيب عنها الرسالية في المساهمة القومية.
التفاصيل كثيرة، ومملة، في هذا الجانب، وهي ليست صعبة من حيث الرصد. وإنما المهم هو كيفية إعادة الاعتبار للعقل السياسي الرشيد، والذي يُعلي من سقوف الوطنية، والتجرد في هذا الظرف الدقيق. ذات التجرد الذي مارسه الشباب الثائر في وقت كان فيه كثير من الأفراد المتصارعين الآن حول السلطة، والثروة، والنفوذ، يتفرجون من على الرصيف على تاتشرات تدهس شبابا لم يتجاوز السابعة عشر. بل كان بعض المتصارعين حول السلطة يضعون الثقة في البشير بحسبه راعي الإصلاح السوداني.
كيف يمكننا تذكير الفاعلين في تنظيماتنا أن الجيل الجديد تجاوز الاختلافات الثانوية التي ورثناها لهم حتى يكونوا على مستوى تحديات المرحلة ما دامت مسؤولية تحقيق الثورة قد آلت إلى إخوانهم، وآبائهم الكبار، أو أجدادهم في بعض الحالات؟ من ذا الذي يقنع الأجيال التي نشأت قبل الجيل الثوري الشاب أن الوطن مقدم على الكسب الحزبي، أو الشخصي أو الشللي، وبالتالي ينبغي أن يُفعل صواب العقل بدلا من حفر عقل ضد آخر لتجريده من التأثير، وذلك بأدوات صدئة. لا أخشى أن يصبها الشباب مرة ثانية لتذكير كبار القوى الرئيسية في مشهدنا السياسي بأخذ أمر الانتقال بمنتهى الجدية، والحكمة، والوطنية.