بواسطة: جوليوس نايريري (1922 – 1999)
ترجمة: أبكر آدم إسماعيل
الاشتراكية – مثل الديمقراطية – هي موقف عقلي. والمطلوب في المجتمع الاشتراكي، لضمان أن يهتم الناس برفاهية بعضهم البعض، هو الموقف العقلي الاشتراكي، وليس التقيد الصارم بنمط سياسي معياري. الغرض من هذه الورقة هو دراسة هذا الموقف. وليس المقصود تعريف المؤسسات التي قد تكون مطلوبة لتجسيد هذا الموقف العقلي في مجتمع حديث.
في الفرد، كما في المجتمع، الموقف العقلاني هو ما يميز الاشتراكي عن غير الاشتراكي. لا علاقة للأمر بامتلاك أو عدم امتلاك الثروة. يمكن للناس المعدمين أن يكونوا رأسماليين محتملين – مستغلين لأخوانهم من البشر. ويمكن للمليونير أن يكون اشتراكيًا؛ قد يعطي قيمة لثروته فقط لأنها يمكن استخدامها لخدمة إخوانه البشر. لكن الإنسان الذي يستخدم الثروة لغرض السيطرة على أيٍ من زملائه هو رأسمالي. وكذلك الإنسان الذي سيفعل ذلك إذا كان باستطاعته أن يفعل!
لقد قلت أن المليونير يمكن أن يكون اشتراكيًا جيدًا. لكن المليونير الاشتراكي هو ظاهرة نادرة. إنه في الواقع تناقض في المصطلحات تقريبا. ظهور المليونيرات في أي مجتمع ليس دليلا على ثراء ذلك المجتمع. يمكن للدول الفقيرة جدا مثل تنجانيقا أن تنتج مليونيرات تماما كما تفعل البلدان الغنية مثل الولايات المتحدة الأمريكية. لأنه ليس كفاءة الإنتاج، ولا مقدار الثروة في البلد، هو ما يصنع المليونيرات. إنه التوزيع غير المتكافئ لما يتم إنتاجه. والفارق الأساسي بين المجتمع الاشتراكي والمجتمع الرأسمالي لا يكمن في أساليب إنتاج الثروة، بل في الطريقة التي يتم بها توزيع الثروة. وبالتالي، في حين أنه يمكن أن يكون المليونير اشتراكيًا جيدًا، فإنه بالكاد يمكن أن يكون نتاجًا لمجتمع اشتراكي.
وبما أن ظهور أصحاب الملايين في مجتمع ما لا يعتمد على ثراء هذا المجتمع من عدمه، فقد يجد علماء الاجتماع أنه من المثير للاهتمام أن يحاولوا معرفة السبب في أن مجتمعاتنا في أفريقيا لم تنتج، في الواقع، أي مليونيرات – لأن لدينا بالتأكيد ما يكفي من الثروة لخلق القليل منهم. أعتقد أنه كان بإمكانهم أن يكتشفوا أن ذلك بسبب تنظيم المجتمع الأفريقي التقليدي – توزيعه للثروة التي أنتجها – الشيء الذي يجعل من الصعوبة بمكان افساح أي مجال للتطفل.
بالطبع، قد يقولون أيضاً، أنه نتيجةً لذلك، لم تستطع إفريقيا أن تنتج طبقة مرفهة من أصحاب الأراضي، وبالتالي لم يكن هناك أحد لإنتاج الأعمال الفنية أو العلمية التي يمكن أن تتباهى بها المجتمعات الرأسمالية. لكن الأعمال الفنية والإنجازات العلمية هي نتاج الفكر – الذي، مثل الأرض، هو هبة إلهية للإنسان. ولا أستطيع أن أؤمن بأن الله مهمل للغاية بحيث جعل استخدام إحدى هباته يعتمد على سوء استخدام الأخرى!
يدعي المدافعون عن الرأسمالية أن ثروة المليونير هي المكافأة العادلة لقدرته أو مغامرته. لكن هذا الادعاء لا تؤكده الحقائق. إن ثروة المليونير لا تعتمد على مغامرة أو على قدرات المليونير نفسه إلا بالقدر القليل الذي تعتمد فيه قوة المالك الاقطاعي على جهوده أو مغامرته أو مخه. كل منهما مستخدِم ومستغِل لقدرات ومغامرات الناس الآخرين. وحتى عندما يكون لديك مليونير ذكي بشكل استثنائي ودؤوب ومثابر في عمله، فإن الفرق بين ذكائه ومغامرته وعمله الشاق وأعمال الأعضاء الآخرين في المجتمع، لا يمكن أن يكون متناسبًا مع الفرق بين “مكافآتهم.” لابد أن يكون هناك شيء خاطئ في المجتمع حيث يمكن لرجل واحد، مهما كان دؤوباً أو ذكياً، أن يكتسب “مكافأة” أكبر مما يستطيع الآلاف من رفاقه اكتسابها مجتمعين.
إن الاستحواذ لغرض اكتساب السلطة والهيبة هو غير اشتراكي. في مجتمع الاستحواذ، تميل الثروة إلى إفساد أولئك الذين يمتلكونها. تميل إلى أن تولد فيهم الرغبة في العيش بشكل أكثر راحة من زملائهم، في ارتداء لبس أفضل منهم، وفي كل وسيلة للتفوق عليهم. يبدأون الشعور بأنهم يجب أن يصعدوا إلى أبعد من جيرانهم بقدر ما يستطيعون. ويصبح التناقض المرئي بين الراحة الخاصة بهم وعدم الارتياح النسبي لبقية المجتمع أمرًا أساسيًا للتمتع بثروتهم، وهذا يؤدي إلى دوامة المنافسة الشخصية – التي تكون حينها غير اجتماعية.
بصرف النظر عن الآثار غير الاجتماعية لتراكم الثروة الشخصية، يجب تفسير الرغبة في تراكمها على أنها تصويت على “عدم الثقة” في النظام الاجتماعي. لأنه عندما يكون المجتمع منظمًا إلى درجة أنه يهتم بأفراده، فعندئذ، لا فرد في ذلك المجتمع يجب أن يقلق بشأن ما سيحدث له غدًا إذا لم يخزِّن الثروة اليوم بشرط أن يكون ذلك الفرد راغباً في العمل. المجتمع نفسه يجب أن يعتني به، أو بأرملته ، أو بأيتامه. هذا هو بالضبط ما نجح المجتمع الافريقي التقليدي في القيام به.
كل الأفراد “الأغنياء” و”الفقراء” آمنين تماماً في المجتمع الأفريقي. جلبت الكارثة الطبيعية المجاعة، لكنها جلبتها للجميع – “فقراء” أو “أغنياء.” لا أحد جاع، سواء للطعام أو للكرامة الإنسانية، لأنه كان يفتقر إلى الثروة الشخصية. كان بإمكانه أن يعتمد على الثروة التي يمتلكها المجتمع الذي هو عضو فيه. كانت تلك هي الاشتراكية. هذه هي الاشتراكية. لا يمكن أن يكون هناك شيء اسمه اشتراكية استحواذ، لأن ذلك سيكون تناقضًا آخر في المصطلحات. الاشتراكية في الأساس توزيعية. همها أن ترى أولئك الذين يزرعون ينالون حصصًا عادلة من ما يزرعون.
يتطلب إنتاج الثروة، سواء بالطرق البدائية أو الحديثة، ثلاثة أمور. أولا، الأرض. لقد أعطانا الله الأرض، ومن الأرض نحصل على المواد الخام التي نعيد تشكيلها لتلبية احتياجاتنا. ثانيا، الأدوات. لقد وجدنا من خلال التجربة البسيطة أن الأدوات تساعد! لذلك صنعنا الحشاشة والفأس أو المصنع الحديث أو الجرارات الحديثة، لتساعدنا على إنتاج الثروة – البضائع التي نحتاج إليها. وثالثا، الجهد البشري – أو العمل.
لا نحتاج إلى قراءة كارل ماركس أو آدم سميث لمعرفة أن الأرض أو الحشاشة لا تنتج الثروة. ولا نحتاج إلى الحصول على درجات علمية في الاقتصاد لنعرف أنه لا العامل ولا المالك ينتج الأرض. الأرض هي هبة الله للإنسان – إنها دائماً موجودة. لكننا نعرف، بدون علم في الاقتصاد، أن الفأس والمحراث أنتجهما العامل. يبدو أن بعض أصدقاءنا الأكثر تطوراً كان عليهم أن يخضعوا لتدريبات فكرية أكثر صرامة من أجل اكتشاف أن الفؤوس الحجرية أنتجها الانسان القديم “الإنسان الباكر” لتسهيل أمر سلخ الإمبالا التي اصطادها قبل قليل بالهراوة التي صنعها لنفسه!
في المجتمع الأفريقي التقليدي كان كل فرد عاملًا. لم يكن هناك طريقة أخرى لكسب العيش للمجتمع. حتى العجوز، الذي يبدو أنه يمتع نفسه دون القيام بأي عمل في حين يبدو أن كل شخص آخر يعمل، كان قد عمل في الواقع في كل أيام شبابه. والثروة التي يظهر الآن أنه امتلكها لم تكن ملكه، شخصيا؛ لقد كانت فقط “له” كخبير للمجموعة التي أنتجتها. إنه الوصي عليها. لم تعطه الثروة بذاتها السلطة ولا الهيبة. الاحترام الذي يعطيه له الشاب سببه كونه أكبر منهم سنا، وقد خدم مجتمعه لفترة أطول؛ والمسن “الفقير” يتمتع بقدر كبير من الاحترام في مجتمعنا مثله مثل المسن “الغني.”
عندما أقول إن كل فرد في المجتمع الأفريقي التقليدي كان عاملا، فأنا لا أستخدم كلمة “عامل” ببساطة في مقابل “صاحب العمل،” ولكن أيضا كمعارض لـ”متعطل” أو “متبطل.” واحد من أكثر الإنجازات اشتراكيةً في مجتمعنا هو الإحساس بالأمن الذي أعطاه هذا المجتمع لأعضائه، والضيافة العامة التي يمكن الاعتماد عليها. لكن في كثير من الأحيان قد تم نسيان ذلك، في أيامنا هذه، أن أساس هذا الإنجاز الاشتراكي الكبير هو: أنه من المسلم به أن كل عضو في المجتمع – باستثناء الأطفال والمرضى – كان يساهم بنصيبه العادل من الجهد في إنتاج ثروة هذا المجتمع. ليس فقط أن الرأسمالي، أو المستغل، لم يكن معروفًا في المجتمع الأفريقي التقليدي، بل لم يكن لدينا ذلك الشكل الآخر من الطفيليات الحديثة، أي المتعطل، أو المتبطل، الذي يقبل ضيافة المجتمع باعتبارها “حقه” في الوقت الذي لا يعطي شيئًا للمجتمع! لم يكن الاستغلال الرأسمالي ممكناً. والتبطل كان وصمة لا يمكن تصورها.
ومَنْ هم منا أولئك الذين يتحدثون عن طريقة الحياة الأفريقية، وبكل حق، يفخرون بالحفاظ على تقاليد الضيافة التي تعتبر جزءًا كبيرًا من طريقة الحياة هذه، قد يكون من الجيد أن يتذكروا المثل السواحيلي: “أمجيني سيكو أمبيلي؛ سيكو يا تاتو أمبي جامبيلي،” بمعنى: “عامل ضيفك كضيف لمدة يومين؛ وفي اليوم الثالث أعطيه الحشاشة!” في الحقيقة الواقعة، كان من المرجح أن يطلب الضيف حشاشة حتى قبل أن يضطر مُضيفه إلى إعطائه واحدة – لأنه كان يعرف ما هو متوقع منه، وكان من الممكن أن يخجل من البقاء لفترة أطول من ذلك. وهكذا، كان العمل جزءًا لا يتجزأ من هذا الإنجاز الإشتراكي الذي نفخر به حقاً، وكان في الواقع أساسًا ومبررا له.
لا يوجد شيء اسمه الاشتراكية بدون عمل. فالمجتمع الذي يفشل في توفير وسائل العمل لأفراده، أو، بعد أن أعطاهم وسائل العمل، يمنعهم من الحصول على حصة عادلة من منتجات عرقهم وجهدهم، يحتاج إلى تصحيح. وبالمثل، فإن الشخص الذي يستطيع أن يعمل – ويمده المجتمع بوسائل للعمل – ولكنه لا يفعل ذلك، هو مخطئ على حد سواء. لا يحق له أن يتوقع أي شيء من المجتمع لأنه لا يقدم أي مساهمة للمجتمع.
الاستخدام الآخر لكلمة “عامل” بمعناه الخاص كـ”مُستخدَم؛” في مقابل “المُخدِّم،” يعكس الموقف الرأسمالي للعقل الذي تم إدخاله إلى أفريقيا مع مجيء الاستعمار وهو غريب تماما عن طريقة تفكيرنا. في الأزمنة القديمة لم يتطلع الأفريقي أبدا إلى امتلاك ثروة شخصية لغرض السيطرة على أي من زملائه.
لم يكن لديه أبداً عُمال أو “أيادي عاملة” للقيام بعمله من أجله. ولكن بعد ذلك جاء الرأسماليون الأجانب. كانوا أثرياء. كانوا أقوياء. وبدأ الأفريقي بطبيعة الحال في الرغبة في أن يكون غنياً أيضًا. لا حرج في رغبتنا في أن نكون أثرياء. وليس من السيئ بالنسبة لنا أن نرغب في الحصول على السلطة التي تجلبها الثروة. لكن من المؤكد أنه من الخطأ إذا أردنا الثروة والسلطة لكيما نتمكن من السيطرة على شخص آخر. لسوء الحظ، هناك البعض منا الذين تعلموا بالفعل اشتهاء امتلاك الثروة لهذا الغرض – والذين يرغبون في استخدام الأساليب التي يستخدمها الرأسمالي في الحصول على الثروة. بمعنى أن البعض منا يود أن يستخدم أو يستغل إخواننا لغرض بناء سلطته الشخصية وهيبته الشخصية. هذا أمر غريب بالنسبة لنا، وهو يتعارض مع المجتمع الاشتراكي الذي نرغب في بنائه هنا.
لذا يجب أن تكون خطوتنا الأولى هي إعادة تثقيف أنفسنا؛ لاستعادة موقفنا العقلي السابق. في مجتمعنا الأفريقي التقليدي كنا أفراداً في جماعة. لقد اعتنينا بالجماعة، واعتنت الجماعة بنا. نحن لم نك نحتاج أو نرغب في استغلال إخواننا.
وفي رفضنا للموقف العقلي الرأسمالي الذي جلبه الاستعمار إلى أفريقيا، علينا أن نرفض أيضًا الأساليب الرأسمالية التي تتوافق معه. أحد هذه الأساليب هو الملكية الفردية للأرض. بالنسبة لنا في إفريقيا، كان يتم الاعتراف بالأرض دائما باعتبارها ملك للجماعة. لكل فرد في مجتمعنا الحق في استخدام الأرض، لأنه بخلاف ذلك لن يتمكن من كسب رزقه ولا يمكن أن يكون للمرء الحق في الحياة دون أن يكون له الحق في بعض وسائل المحافظة على الحياة. لكن حق الأفريقي في الأرض هو ببساطة الحق في استخدامها؛ لم يكن لديه أي حق آخر فيها، ولم يحدث له أن حاول المطالبة بأي حق آخر.
قدَّم الأجنبي مفهومًا مختلفًا تمامًا – مفهوم الأرض كسلعة قابلة للتسويق. وفقا لهذا النظام، يمكن للشخص أن يدعي ملكية قطعة من الأرض كممتلكات خاصة به سواء كان ينوي استخدامها أم لا. يمكنني أخذ بضعة أميال مربعة من الأرض، وأسميها “ملكي،” ثم اذهب إلى القمر. كل ما كان عليّ فعله لكسب العيش من “أرضي” هو أن أتقاضى أجرًا من الأشخاص الذين يريدون استخدامها. إذا كانت هذه القطعة من الأرض في منطقة حضرية لن أكون بحاجة إلى تطويرها على الإطلاق؛ يمكن أن أتركها للأغبياء الذين كانوا مستعدين لتطوير كل قطع الأرض الأخرى المحيطة “بقطعتي،” في القيام بذلك تلقائيًا لرفع القيمة السوقية لملكي.
ثم يمكنني أن أهبط من القمر وأطلب من هؤلاء الحمقى أن يدفعوا لي القيمة العالية لأرضي – وهي القيمة التي خلقوها هم أنفسهم بالنسبة لي بينما كنت أمتع نفسي على القمر! مثل هذا النظام ليس غريبًا بالنسبة لنا فحسب، بل إنه خاطئ تمامًا. الملاك، في مجتمع يعترف بالملكية الفردية للأرض، يمكن أن يكونوا، وعادة ما يكونون، في نفس طبقة المتبطلين التي كُنتُ أتحدث عنها: طبقة الطفيليات.
يجب ألا نسمح لنمو الطفيليات هنا في تنجانيقا. يجب على حكومة حزب تانو (TANU) العودة إلى العرف الأفريقي التقليدي المتمثل في امتلاك الأراضي. أي أن عضو المجتمع يحق له الحصول على قطعة أرض بشرط أن يستخدمها. يجب إلغاء الملكية غير المشروطة، أو “التملك الحر،” ملكية الأرض (التي تؤدي إلى المضاربة والتطفل). يجب علينا، كما قلت، استعادة موقفنا العقلي السابق – اشتراكيتنا الأفريقية التقليدية – وتطبيقها على المجتمعات الجديدة التي نبنيها اليوم. قطع تانو (TANU) العهد على نفسه بجعل الاشتراكية أساس سياسته في كل مجال. لقد أعطانا شعب تنجانيقا تفويضهم لتنفيذ تلك السياسة، من خلال انتخاب حكومة من تانو (TANU) لقيادته. لذا يمكن الاعتماد على الحكومة لتقديم تشريعات تتوافق مع المبادئ الاشتراكية.
ولكن كما قلت في البداية، فإن الاشتراكية الحقيقية هي موقف ذهني. وبالتالي فإن الأمر متروك لشعب تنجانيقا – الفلاحين، والمستأجَرين، والطلاب، والقادة، وجميعنا – للتأكد من أن هذا الموقف الاشتراكي للعقل لا يضيع من خلال إغراءات الربح الشخصي (أو إساءة استخدام مناصب السلطة) التي قد تأتي في طريقنا كأفراد، أو من خلال الإغراء للنظر في مصلحة المجتمع ككل باعتبارها ذات أهمية ثانوية بالنسبة لمصالح مجموعتنا الخاصة.
وكما تم احترام الكبير، في مجتمعنا السابق، لعمره وخدمته للمجتمع، لذلك، في مجتمعنا الحديث، سيتم الحفاظ على هذا الاحترام للعمر والخدمة. وبنفس الطريقة التي كانت تؤخذ بها الثروة الظاهرة للكبير “الغني” باعتبارها مملوكة له فقط كإئتمان لشعبه، لذلك، اليوم، يمكن للثروة الإضافية الواضحة التي قد تجلبها بعض مواقع القيادة للأفراد الذين يشغلونها، أن تكون ملكًا لهم فقط بقدر ما هي هدف ضروري لهم للقيام بواجباتهم. إنها “أداة” يُعهد بها إليهم لصالح الناس الذين يخدمونهم. إنها ليست “لهم” شخصيا. ولا يجوز لهم استخدام أي جزء منها كوسيلة لزيادة التراكم لمصلحتهم الخاصة، ولا كـ”تأمين” ضد اليوم الذي لا يعود لديهم نفس الموقع. من شأن ذلك أن يكون خيانة للناس الذين أوكلوا إليهم تلك المواقع. إذا كانوا يخدمون المجتمع في حينها، فيجب على المجتمع أن يعتني بهم عندما لا يكونوا قادرين على القيام بذلك.
في المجتمع القبلي، كان الأفراد أو العائلات داخل القبيلة “أثرياء” أو “فقراء” وفقًا لما إذا كانت القبيلة بكاملها غنية أم فقيرة. إذا ازدهرت القبيلة فإن جميع أفراد القبيلة يشتركون في ازدهارها. تنجانيقا، اليوم، بلد فقير. مستوى معيشة جماهير شعبنا منخفض بشكل مخجل. ولكن إذا كان كل رجل وامرأة في البلد قد قاما بالتحدي ويعملان بأقصى قدرتهما على تحقيق مصلحة المجتمع ككل، فإن تنجانيقا ستزدهر؛ وسيتم تقاسم هذا الرخاء بين جميع أفراد شعبها.
ولكن يجب أن تتم المشاركة. قد لا يستغل الاشتراكي الحقيقي زملائه. حتى إذا ما جادل بعض أعضاء مجموعة داخل مجتمعنا بأنهم يساهمون بشكل أكبر في الدخل القومي أكثر من بعض المجموعات الأخرى، وبالتالي يجب أن يأخذوا لأنفسهم حصة أكبر من أرباح صناعتهم الخاصة أكثر مما هم محتاجون إليه في الواقع؛ وإذا أصروا على ذلك على الرغم من حقيقة أنه يعني تخفيض مساهمة مجموعتهم في الدخل العام وبالتالي إبطاء المعدل الذي يمكن أن يستفيد منه المجتمع بأكمله، فإن هذه المجموعة تستغل (أو تحاول استغلال) زملائهم من الناس. وهذا يعرض موقفا عقلياً رأسمالياً.
ومن المحتم أن تكون هناك مجموعات معينة تساهم، بحكم “القيمة السوقية” لمنتجاتها الصناعية، بشكل أكبر في دخل الأمة من غيرها. لكن الآخرين قد ينتجون في الواقع سلع أو خدمات ذات قيمة حقيقية متساوية أو أكبر، على الرغم من أنهم لا يحصلون على مثل هذه القيمة الاصطناعية العالية. على سبيل المثال، الغذاء الذي ينتجه المزارعون ذو قيمة اجتماعية أكبر من الماس المستخرج في مناجم موادوي. لكن عمال المناجم في موادوي يمكن أن يزعموا، بشكل صحيح، أن عملهم كان يحقق أرباحاً مالية أكبر للمجتمع من أرباح المزارعين. ولكن، إذا استمروا في المطالبة بضرورة منحهم معظم هذا الربح الإضافي لأنفسهم، وأنه لا ينبغي إنفاق أي جزء منه على مساعدة المزارعين، فإنهم سيكونون رأسماليين محتملين!
هذا هو بالضبط المكان الذي يدخل فيه موقف العقل. وهو أحد أغراض النقابات العمالية لضمان حصول العمال على حصة عادلة من أرباح عملهم. ولكن يجب أن تكون المشاركة “العادلة” عادلة بالنسبة للمجتمع ككل. إذا كانت أكبر من قدرة البلاد على تحمل تكاليفها دون الاضطرار إلى معاقبة جزء آخر من المجتمع، فإنها ليست حصة عادلة. إن قادة النقابات العمالية وأتباعهم، طالما أنهم اشتراكيون حقيقيون، لن يحتاجوا إلى إكراه الحكومة على الإبقاء على مطالبهم ضمن الحدود التي تفرضها احتياجات المجتمع ككل. فقط إذا كان هناك رأسماليون محتملون بينهم، فسيتعين على الحكومة الاشتراكية التدخل ومنعهم من وضع أفكارهم الرأسمالية موضع التنفيذ!
كما هو الحال مع المجموعات، كذلك مع الأفراد. هناك مهارات معينة، وبعض المؤهلات، التي، لأسباب وجيهة، تجلب لأصحابها معدلا للرواتب أعلى من الآخرين. ولكن، هنا مرة أخرى، سيطلب الاشتراكي الحقيقي فقط ذلك العائد على عمله الماهر الذي يُدرك أنه عادل بما يتناسب مع ثروة أو فقر المجتمع الذي ينتمي إليه كله. فهو، ما لم يكن رأسمالياً، لن يحاول ابتزاز المجتمع بمطالبته براتب يعادل أجر نظيره في مجتمع أكثر ثراءً.
ولدت الاشتراكية الأوروبية من الثورة الزراعية والثورة الصناعية التي أعقبتها. الأولى خلقت طبقات “ملاك الأرض” و”غير ملاك الأرض” في المجتمع؛ وأنتجت الأخيرة الرأسمالية الحديثة والبروليتاريا الصناعية.
زرعت هاتان الثورتان بذور الصراع داخل المجتمع، ولم تكن الاشتراكية الأوروبية قد ولدت لوحدها من ذلك الصراع، ولكن رسلها كرّسوا الصراع نفسه في فلسفة. والحرب الأهلية لم يعد يُنظر إليها على أنها شيء شرير، أو شيء مؤسف، ولكن كشيء جيد وضروري.
مثلما تكون الصلاة بالنسبة للمسيحية أو بالنسبة للإسلام، فإن الحرب الأهلية (التي يسمونها “الحرب الطبقية”) هي بالنسبة للنسخة الأوروبية من الاشتراكية – وسيلة لا يمكن فصلها عن الهدف. كل يصبح الأساس لطريقة حياة كاملة. لا يمكن للاشتراكي الأوروبي أن يفكر في اشتراكيته بدون والدتها – الرأسمالية!
لقد تربيتُ في الاشتراكية القبلية، ويجب عليّ أن أقول إنني أجد هذا التناقض لا يطاق. إنه يعطي الرأسمالية مكانة فلسفية لا تطالب بها الرأسمالية ولا تستحقها. لأن القول يصبح، “بدون الرأسمالية، والصراع الذي تخلقه الرأسمالية داخل المجتمع، لا يمكن أن تكون هناك اشتراكية!” هذا التمجيد للرأسمالية من قبل الاشتراكيين الأوروبيين العقائديين، أكرر، أجد أنه لا يطاق.
الاشتراكية الأفريقية، من ناحية أخرى، لم “تستفد” من الثورة الزراعية أو الثورة الصناعية. لم تبدأ من وجود “طبقات” متصارعة في المجتمع. في الواقع أشك في وجود مرادف لكلمة “طبقة” في أي لغة أفريقية أصيلة. فاللغة تصف أفكار أولئك الذين يتحدثونها، وكانت فكرة “الطبقة” أو “الكاست” غير موجودة في المجتمع الأفريقي.
إن أساس الاشتراكية الأفريقية وهدفها هو الأسرة الممتدة. لا ينظر الاشتراكي الأفريقي الحقيقي إلى فئة واحدة من البشر كإخوته وفئة أخرى كأعداءه الطبيعيين. وهو لا يشكل تحالفاً مع “الإخوة” من أجل إبادة “غير الأخوة.”
هو بالأحرى ينظر إلى كل الناس كإخوته – كأعضاء في عائلته الممتدة أبدا. وهذا هو السبب في أن أول مقولة في عقيدة حزب تانو هي: “بينادامو ووتي ني أندوقو زانقو، نا أفريكا ني موجا.” والتي تعني: “أنني أؤمن بالأخوة الإنسانية ووحدة إفريقيا.”
تصف “أوجاما،” أو “الأُسرية” اشتراكيتنا. إنها تعارض الرأسمالية، التي تسعى إلى بناء مجتمع سعيد على أساس استغلال الإنسان للإنسان. وتعارض بنفس القدر الاشتراكية العقائدية التي تسعى إلى بناء مجتمعها السعيد على فلسفة صراع محتوم بين الإنسان والإنسان.
نحن، في أفريقيا، لا نحتاج إلى أن “نُحوَّل” إلى الاشتراكية أكثر من كوننا “نُعلَّم” الديمقراطية. كلاهما متجذرتين في ماضينا – في المجتمع التقليدي الذي أنتجنا. يمكن للاشتراكية الأفريقية الحديثة أن تستمد من تراثها التقليدي اعترافا بـ”المجتمع” لا كامتداد للأسرة الأساسية في حدود القبيلة، ولا، في حدود الأمة، في الحقيقة. لأنه لا يوجد اشتراكي أفريقي حقيقي يمكن أن ينظر إلى خط رسم على الخريطة ويقول. “إن الأشخاص الموجودين على هذا الجانب من هذا الخط هم إخواني، غير أن أولئك الذين يعيشون في الجانب الآخر من ذلك الخط لا يمكن أن يكون لهم دعوى بشأني؛” كل فرد في هذه القارة هو أخ.
ضمن الصراع لكسر قبضة الاستعمار، تعلَّمنا الحاجة إلى الوحدة. لقد أدركنا أن نفس الموقف الاشتراكي للعقل، الذي أعطى، في الأيام القبلية، لكل فرد الأمن الذي يأتي من الانتماء إلى عائلة واسعة النطاق، يجب الحفاظ عليه في مجتمع الأمة الأوسع. لكن يجب ألا نتوقف عند هذا الحد. إن اعترافنا بالأسرة التي ننتمي إليها جميعا يجب أن يمتد إلى أبعد من ذلك – بما يتجاوز القبيلة، الجماعة، الأمة، أو حتى القارة – لاحتضان مجتمع البشرية بأسره. هذا هو الاستنتاج المنطقي الوحيد للاشتراكية الحقيقية.