موليفي كيتي أسانتي
ترجمة: أبكر آدم إسماعيل
أنا سعيد لوجودي هنا في غوادالوب. لدينا كفاح مشترك لخلق انسجام العالم. لا شيء هنا نقوله أو نفعله سيُحدث فرقًا كبيرًا إذا لم يؤثر على الطريقة التي ننظر بها إلى هويتنا. أنا ممتن لأنكم دعوتموني إلى هذه الأرض الجميلة، وهي أرض جميلة كناسها. لأكثر من خمسة وعشرين عامًا وفي أكثر من خمسة وثلاثين كتابًا حاولتُ التعامل مع مسألة الهوية الأفريقية من منظور الشعوب الأفريقية كتمركزين، متموضعين، واعين ومؤسَّسين.
هذه الفكرة التي أطلق عليها اسم المركزية الأفريقية هي للتعبير عن الحاجة العميقة إلى إعادة توطين الشعوب الأفريقية تاريخيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا وفلسفيًا. لقد ظللنا، لفترة طويلة جدا، هوامش لعالم الأروبيين، وقد وقعنا ضحية الوهم بأننا نعمل لمصلحتنا الخاصة عندما أصبحنا، في الواقع، المدافعين الرئيسيين عن أوروبا.
تسعى المركزية الأفريقية إلى إعادة توطين الشخص الإفريقي كفاعل في تاريخ البشرية في محاولة للقضاء على وهم الحواف (fringes). على مدى الخمسمائة عام الماضية، تم استبعاد الأفارقة من الناحية الثقافية والاقتصادية والدينية والسياسية والاجتماعية، ليوجدوا في المقام الأول على أطراف أوروبا. بسبب هذا الوجود، غالبًا ما شاركنا في عنصرية معادية لأفريقيا وُلدت من نفس روح الانتصار الغربي الذي أسر عقولنا في الغرب. نحن لا نعرف سوى القليل عن تراثنا الكلاسيكي ولا نعرف أي شيء يتعلق بمساهماتنا في المعرفة العالمية. القول بأننا مبعدين عن المركز (decentered) يعني في الأساس أننا فقدنا مواطئنا الثقافية وأننا أصبحنا شيئا آخر غير أصولنا الثقافية والسياسية، مُنزَّحين ثقافيا ومشوشين.
نحن في الأساس نفتقر إلى سلامة العقل، بمعنى أنا نعيش عبثية لن نتمكن أبداً من تحرير عقولنا منها حتى نعود إلى المصدر. إن المركزية الأفريقية كنظرية للتغيير تهدف إلى إعادة تحديد موقع الشخص الإفريقي كذات، وبالتالي تدمير فكرة كونه موضوعاً في المشروع الغربي للهيمنة. وبوصفها فكرة عموم أفريقية، بان آفريكان، تصبح المركزية الأفريقية مفتاح التعليم الملائم للأطفال وجوهر الإحياء الثقافي الإفريقي، وفي الواقع، البقاء.
وبالتالي، فإن المركزية الأفريقية هي منظور فلسفي ونظري، متميز كنظام محدد، ترجع أصوله إلى أعمالي: المركزية الأفريقية، فكرة المركزية الأفريقية، كيميت: المركزية الأفريقية والمعرفة. تشكل هذه الكتب اللبنة الأساسية لفكرة أن التفسير والتوضيح المبني على دور الأفارقة كذوات هو أكثر تماشيًا مع الواقع. لقد أصبحت المركزية الأفريقية تصورا فكريا متناميا في عقد الثمانينات مع تبني العشرات من الباحثين الأفارقة الأمريكيين والأفارقة اتجاه المركزية الأفريقية نحو معاينة البيانات. تعارض المركزية الأفريقية عمومًا النظريات التي تقوم بـ”التنزيح الثقافي” للأفارقة إلى أطراف الفكر والخبرة البشرية. مثل هذه النظريات ترى الأفارقة في الشتات كإبداعات لأوروبا فحسب، ترانا منتجات أطلنطية غير مركزية بالقليل من أو بدون قدرة تخصنا على الفعل.
أنا أجادل كآفروسنتريست، منتمي للمركزية الأفريقية، أن الدوغما/العقيدة الغربية التي تدعي أن الإغريق أعطوا العالم النزعة العقلانية تُهمِّش فعليا أولئك الذين ليسوا أوروبيين وتصبح السبب الرئيسي لعدم التصديق بأن هناك إنجازات أفريقية. يؤكد الآفروسنتريست، المنتمون إلى المركزية الأفريقية، على أن الدوغما التي تقول بأن الإغريق قدموا الفكر العقلاني للعالم غير دقيقة تاريخياً وأن بناء المفاهيم الغربية للمعرفة القائمة على النموذج اليوناني هي بداية حديثة نسبياً جاءت مع النهضة الأوروبية عندما طلب كوزيمو دي ميديشي الفلورنسي من مارسيليو فيتشينو ترجمة كتاب الحكمة الهرمسية Corpus Hermeticum وجمهورية أفلاطون بهذا الترتيب.
في وجهة النظر الغربية المعيارية، لم يكن لدى الأفارقة ولا الصينيين تفكير عقلاني. كان لدى الأوروبيين فقط القدرة على بناء التفكير العقلاني. وبالتالي، يؤكد الآفروسنتريست، المنتمون إلى المركزية الأفريقية، أن وجهة نظر المركزية الأوروبية أصبحت وجهة نظر مركزية إثنية، ترفع من مستوى الخبرة الأوروبية وتخفض من مستوى خبرة الآخرين جميعا.
المركزية الأفريقية لا تمثل معكوس المركزية الأوروبية، بل هي منظور محدد للتحليل لا يسعى إلى احتلال كل الزمان وكل المكان كما فعلت المركزية الأوروبية في كثير من الأحيان. على سبيل المثال، عندما تقول الموسيقى الكلاسيكية أو المسرح أو الرقص الكلاسيكي عادة ما يكون ذلك إشارة إلى الموسيقى الأوروبية والمسرح والرقص الأروبي. مع ذلك، فإن هذا يعني أن الأوروبيين يشغلون جميع المقاعد الفكرية والفنية ولا يتركون مجالًا للآخرين. يناقش الأفروفنسيستس، المنتمون إلى المركزية الأفريقية، التعددية في وجهات النظر الفلسفية دون تراتب هرمي. يجب احترام جميع المركزيات الثقافية؛ هذا هو الهدف الأساسي من المركزية الأفريقية.
في وجهة نظر المركزية الأفريقية فإن مشكلة الموقع الثقافي له الأسبقية على الموضوع أو البيانات قيد النظر. الحجة هي أن الأفارقة قد تم استبعادهم من الشروط الاجتماعية والسياسية والفلسفية والاقتصادية لمدة نصف ألفية من السنين. وبالتالي، يصبح من الضروري فحص جميع البيانات من وجهة نظر الأفارقة كذوات، وكعناصر بشرية قادرة على الفعل، بدلاً من أن يكونوا موضوعات في إطار مرجعي أوروبي. وبالطبع، فإن هذا يعني أن المركزية الأفريقية لها تبعات على المجالات الفكرية والاجتماعية والفنية المختلفة مثل الرقص، والعمارة، والعمل الاجتماعي، والأدب، والسياسة، وعلم النفس. هنا، فإن موتيفات المواقع ومكونات التمركز أو عدم التمركز تصبح مهمة.
المهندس المعماري هو الذي يفهم مغزى حيازة مباني أو منازل تم بناؤها على أساس الثقافة الأفريقية والسلوك الأفريقي. نحن نعتقد أن البشر لا يستطيعون فصم أنفسهم عن الثقافة؛ هم إما يشاركون في ثقافتهم التاريخية الخاصة بهم أو في ثقافة مجموعة أخرى. قد يختارون، بالطبع، الانسحاب من تراثهم الثقافي واتخاذ ثقافة ناس آخرين.
ونادرا ما يكون هذا هو الحال مع الأوروبيين. هم لا يختارون أن يصبحوا هنود أو صينيين أو أفارقة. في الواقع، الأشخاص الوحيدون الذين نأوا بأنفسهم تماماً عن أصولهم الثقافية هم الأفارقة في الشتات. لقد وقعنا ضحية للصورة السلبية لأفريقيا وخلصنا بالتالي إلى أننا لا نرغب في إقامة أية علاقة مع أفريقيا. إنه صوت الشخص الذي يقول: “أنا لست أفريقيًا. لم أترك خلفي أبداً أي شيء يخصني في إفريقيا.” وقد رد مالكوم إكس على مثل هذا السؤال في في الستينات بالقول: “لقد تركت عقلك في أفريقيا.”
التناقض بين التاريخ والمنظور يُنتج نوعًا من التنافر يسمى اللاتمركز. وهكذا، عندما يكتب أمريكي من أصل أفريقي من وجهة نظر الأوروبيين الذين جاءوا إلى الأمريكتين على ماي فلاور، أو عندما يكتب نقاد الأدب عن الأفارقة على أنهم الآخر، يدعي الآفروسنتريست أن الأفارقة يجري تطريفهم (دفعهم نحو الأطراف). وبما أن المركزية الأفريقية ليست وعي لون، فالقضية بالنسبة لها ليست مسألة اللون بل المهم بالنسبة لها هي الثقافة في موقعها من التمركز. يقول شعب الولوف في السنغال: “قد يبقى الخشب في الماء لمدة عشر سنوات ولكنه لن يصبح تمساحًا أبدًا.”
إن الاستعارات عن الموقع والتنزيح الثقافي هي أدوات التحليل الأساسية حيث الأحداث والوضعيات والنصوص والمباني والأحلام والمؤلفين يُنظر إليهم على أنهم يعرضون أشكالًا مختلفة للتمركز. أن تتمركز يعني أن تتموضع كعامل بدلاً من “الآخر.” ويعني هذا التحول النقدي في التفكير أن منظور المركزية الأفريقي يقدم رؤى وأبعادًا جديدة لفهم الظواهر.
تضمنت القضايا المعاصرة في تفكير المركزية الأفريقية تفسيرا لسوء الفهم النفسي والتشويش، والمواقف التي تؤثر على الأفارقة الذين يعتبرون أنفسهم أوروبيين أو الذين يعتقدون أنه من المستحيل أن تكون أفريقيا وإنسانا في نفس الوقت. وقد وُصفت الأشكال المتطرفة من هذه المواقف من قبل بعض الآفروسنتريست بالتشوُّش الأقصى. كانت القضايا الإضافية هي تأثير مدخل التمركز في التعليم، لا سيما أنه يتعلق بتنقيح المناهج التعليمية. ما هو المهم كمعرفة إذا كنا نسعى إلى التنشئة الاجتماعية للأطفال للعيش ثقافيا في العالم؟ لقد أنشأت مجموعة متزايدة من الكتاب المنتمين إلى المركزية الأفريقية في الجامعات الكبرى في أمريكا الشمالية وأفريقيا العديد من الروابط المهنية والمجلات.
المركز الرئيسي لحركة المركزية الأفريقية هو مدرسة جامعة تمبل للباحثين، والتي يشار إليها في كثير من الأحيان باسم دائرة تمبل (Temple Circle). من بين المنتمين إلى المركزية الأفريقية في دائرة تمبل (سي تسهلوان كيتو، وكريامو ويلش أسانتي، وأبو آباري، وآما مازاما، وثيوفايل أوبينغا وتيري كيرشو). هناك تركيز قوي على الذائقة، والسلوك، والأخلاق مع موقع المركزية الأفريقية كعنصر رئيسي للتفسير. لكن هذا الاهتمام بالمكان، وبالمنظور، يزعج الكثير من والبيض الدارسين والعاديين. إنهم لا يعتقدون أن الإصرار على الجودة والفكر العقلاني والسيطرة على الزمان والمكان أمر مشروع، وهم يعتقدون أن هدف الحركة هو إزالة الهيمنة الغربية. ربما هذا هو التقييم الصحيح. لماذا لا يكون لدى الغوادالوبي والغوادالوبية أصوات خاصة بهم؟ لماذا يجب أن يُنظر إلينا على أننا انعكاس لأوروبا؟
هذا لا يعني أننا لا نتأثر أو أننا لا نشارك في الثقافات الأخرى، بل يعني ببساطة أننا لا نشعر بالخجل من المطالبة بالتراث الثقافي الخاص بنا. أعتقد أن العلماء الأوروبيين الذين يسجلون رد فعل سلبي تجاه المركزية الأفريقية يفعلون ذلك بدافع الخوف. ينكشف الخوف على مستويين. في المقام الأول، المركزية الأفريقية لا تزودهم بأي سبب للسلطة ما لم يصبحوا طلابًا للأفارقة. وينتج عن ذلك خوف وجودي: قد يكون لدى الباحثين الأفارقة شيئًا يعلمونه للبيض. تعتبر مدرسة المركزية الأفريقية للفكر أول حركة فكرية معاصرة بدأها الباحثين الأفارقة ولديها عُملة ذات نطاق واسع للتجديد والنهضة. وهي لم تظهر داخل المراكز الأكاديمية البيضاء التقليدية ولكن في السياق الثقافي للمجتمع الأفريقي الذي يسعى إلى تأكيد نفسه. الخوف الثاني ليس وجوديا لحد كبير. بل هو الخوف من الآثار المترتبة على نقد الركزية الأفريقية للمركزية الأوروبية باعتبارها مركزية إثنية تتظاهر بأنها وجهة نظر عالمية.
وهكذا، فقد فتحنا كل شيء للمناقشة من نظرية العرق، والحضارات القديمة، والشخصية الأفريقية والشخصية الأوروبية، وتأثير الأنهار الجليدية على السلوك البشري، والتنزيح الثقافي في كتابة المؤلفين الأميركيين الأفارقة. نعاين هذه المواضيع بعين الأفارقة كذوات للتجارب التاريخية. وهي ليست وجهة النظر البشرية الوحيدة. إذا كان هناك أي شيء، فإن المركزية الأفريقية تقول دائمًا إن وجهة نظرنا حول البيانات ليست سوى واحدة من بين العديد من وجهات النظر الأخرى، وبالتالي فإن وجهة النظر هذه لا تبحث عن أي ميزة، لا تضخم في الذات، ولا هيمنة.
لا يمكن قول الشيء نفسه عن المركزية الأوروبية. إن الأفارقة الكاريبيين أو الأمريكيين والأفارقة الذين يتبنون المركزية الأوروبية يمثلون مشكلة خاصة. انهم يمثلون حالتين. الحالة الأولى من قبل أولئك الذين تم تدريبهم جيدا في منظور المركزية الأوروبية. أنهم يرون أنفسهم كنُسخ من الأوروبيين. هؤلاء هم الأفارقة الذين يعتقدون أنهم جاؤوا إلى أمريكا الشمالية في ماي فلاور (السفينة الإنجليزية التي نقلت أوائل البيوريتانيين الإنجليز إلى أمريكا في القرن السابع عشر = المترجم) أو إلى الكاريبي كملاك مزارع أو والأدهى من ذلك، أنهم يعتقدون أن الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية هي الموسيقى الكلاسيكية الوحيدة في العالم.
يرتبط رفضهم للمركزية الأفريقية برفضهم لأنفسهم. وهكذا، فإن عدم القدرة على الرؤية من مراكزهم الخاصة أو وضع نظرهم على الظواهر من جهة ظروفهم التاريخية والثقافية الخاصة يرتبط بما يسميه مالكولم إكس بـ”عقلية العبد،” أي الاعتقاد بأن وجهات نظرهم الخاصة لا يمكن أبداً أن تنفصل من وجهة نظر سيد العبيد. هؤلاء الأفارقة هم إلى درجة كبيرة اقرب إلى الافتقار إلى الوعي التاريخي ويجدون مصدر ارتياحهم الفكري الخاص في استحسان البيض، وليس في البحث عن المفتاح التفسيري لتاريخهم الخاص بهم. أنا لا أقترح خنق هذا النوع من التقليد بأي طريقة صحيحة سياسياً (politically correct)، بل أريد أن أشرح رد الفعل على المركزية الأفريقية بطريقة تاريخية.
الحالة الثانية هي أيضًا تاريخية، أي أن الآفروسنتريست يجدون أدلة على المركزية الأفريقية في تجاربنا التاريخية. وذلك عند أولئك الأفارقة الذين يسعون إلى أن يتم تعيينهم مشرفين على المزارع. انهم لا يعتقدون بالضرورة أنهم هم البيض أنفسهم. وهم يدركون أنهم لم يأتوا إلى هنا كمزارعين وملاك، لكنهم يتطلعون إلى العمومية دون الإشارة إلى تجارب معينة. بالنسبة لهم، فإن أي تركيز على وجهات نظر وخبرات معينة يوحي بالنزعة الانفصالية والنزعة الانفصالية تشير إلى العداء. هذه مغالطة لأن لا الانفصالية ولا الاختلاف يشير إلى العداء إلا في أذهان أولئك الذين يتملكهم الخوف.
بالمعنى الفكري، يشعر هؤلاء الأفارقة الذي ينتمون إلى المركزية الأوروبية بأنهم يميلون إلى الاختلاف مع أي فكرة حظيت بموافقة شعبية بين جماهير الأفارقة الأمريكيين. إلى حد كبير كأولئك المشرفين خلال فترة ما قبل الحرب، أنهم حريصون على إثبات أنهم ليسوا جزءًا من التمرد وأنهم لا يثقون بالأفكار المستمدة من الجماهير الإفريقية. بل حتى يعتبرون أنفسهم جزءًا من النخبة، بيض تقريباً، منفصلين عن بقيتنا. ويُنظر إلى تطور تنزيحهم الثقافي بمقدار المسافة التي يسعون إلى وضعها فيما بينهم وبيننا. بل إنهم قد يشاركون في ما وصفه لويس لوماكس ذات مرة بـ”خداع الناس البيض” بإخبار المشاهدين البيض بأن الآفروسنتريست يمثلون موضة جديدة وعابرة.
النقطة هي أن المركزية الأفريقية ليست أكثر مما هو متطابق مع الحياة التفسيرية للشخص الأفريقي. لماذا يجب على الأمريكيين الأفارقة أن يروا أنفسهم من منظور الصيني؟ أو من منظور الأمريكي الأبيض؟ لا يرى الصينيون ولا الأمريكيون الأوروبيون الظواهر من وجهة نظر الأمريكيين الأفارقة، ولا ينبغي لهم ذلك. تختلف التجارب والتقاليد التاريخية والثقافية، ومن أجل فهم تجربة الأميركيين الأفارقة في الرقص، أو الهندسة المعمارية، أو العمل الاجتماعي، أو الفن، أو العلوم، أو علم النفس، أو الاتصال، يجب على المرء أن يفيد نفسه من المكانة الغنية التي يقف عليها الأمريكيين الأفارقة. في النهاية ، يجب أن تسأل نفسك، لماذا يهدد هذا الموقف العقلاني البسيط الكثير من الناس؟
في أواخر القرن الثامن عشر، في جامعة جوتنجن، بدأ فيلهلم فون هومبولت والكسندر فون هومبولت في تطوير نظريات التراتبية العرقية التي ملأت فكر الأروبيين في القرون التالية وجعلتهم مصدرا لإرباك للحقيقة والتتسبب في أن يُسائل الأفارقة أنفسهم. جعلتهم عدوانيين جدا في الترويج لإيديولوجياتهم لا ليربطوها بالرأسمالية فحسب بل لينشروها إلى أجزاء أخرى من العالم ويقنعون العديد من الأفارقة والآسيويين بأن وجهات نظرهم العنصرية كانت صحيحة. فالعلماء البيض، والباحثين، والرجال والنساء المتعلمين، سينشرون الهراء الأكثر إثارة للاشمئزاز حول العرق. ولا نخطئ إن قلنا، إن ما لدينا اليوم في كل قطاع: التعليم، الاقتصاد، القانون، والطب – هو تراث خمسمائة عام من الهجمات البيضاء على الأفارقة.
في هولندا، قام بيتر كامبييه، وهو عنصري شهير (1722-1789)، بمقارنة قياسات الوجه والجمجمة للسود والقرود وقام بتطوير تراتب هرمي قال فيه إن التمثال اليوناني كان أرفع الأشكال وكان أدناها الزنجي. شكلت الإيديولوجية العنصرية مجموعة ضيقة من رجال الدين والفلاسفة والأطباء والأساتذة الذين عاشوا على رواتب الكنيسة والجامعة. هؤلاء كانوا الموزعين والمبشرين بالتفوق الأبيض.
أفريقيا تقف على باب المعرفة في الغرب. علَّمت إفريقيا أوروبا في الهندسة والطب والفلك والفلسفة والأدب. كانت إفريقيا في كثير من الأحيان هي المصدر والطريقة التي حصلت بها أوروبا على معلوماتها. ورق البردي الذي نحصل منه على ورق الكتابة موطنه في أفريقيا. حتى الكتابة كما نعرفها هي في المقام الأول اختراع أفريقي. لم يخترع الأوروبيون الورق. ومع ذلك فقد أخذوا حتى هذه الفكرة لتكون لهم. كان تساي لون، المخترع الصيني قد صنع ورق التوت، والخيزران، وورق أشجار أخرى عن طريق نقع الخشب وضربه حتى أصبح كتابا، بعده انتشرت الفكرة من خلال الأفارقة المسلمين إلى أوروبا، بعد ألف سنة من اختراعها.
في الأمريكتين، كان السياسيون والمثقفون وملاك العبيد هم الذين أتقنوا نظريات التفوق الأبيض. وهكذا يمكن لجيفرسون أن يكتب: “هذا الاختلاف المؤسف في اللون وربما في القدرات الذهنية هو عقبة قوية أمام تحرير هؤلاء الناس … أنا أدفع بذلك فقط كشك في أن السود سواء كانوا في الأصل جنسًا مميزًا أو تم تمييزهم حسب الوقت والظروف هم أقل شأنا من البيض في هبات العقل والجسم.”
أخذ العلم العنصري على عاتقه مهمة تعميم الاختلافات العرقية. وهكذا، كتب جورج كورفييه، عالم الأحياء الفرنسي، مؤسس علم الأحافير، علم النبات، وعلم التشريح المقارن عملا من 16 مجلدا بعنوان “مملكة الحيوان” (1827-1835)، حيث قال: “يقترب الأفارقة بشكل واضح من قبيلة القرود. وقد بقيت هذه الجحافل المكونة لهذه التشكيلة دائما في حالة كاملة من الهمجية.
ومضى يقول عن الأوروبيين: إنهم يتميزون “بالشكل الجميل للرأس … أيضًا يتميزون بظلال البشرة ولون الشعر. من هذا التنوع نشأت أكثر الدول تحضراً، ومثلها مارست الهيمنة بشكل عام على بقية البشر.” لقد نظم كومت غوبينو وهوستون شامبرلين تدرجًا عرقيًا أوروبيًا يتضمن الأنواع الآرية والألبية والبحر أبيض-متوسطية.
كان يُشك في وجود دم أسود في الأوروبيين داكني الجلد في جنوب أوروبا. في الواقع، قال لوثروب ستودارد أن تدني البرتغال نتج عندما تم استيعاب العبودية الأفريقية في الجزء الجنوبي من البلاد وتم خلط الدم مع الأفارقة. قام ستودارد بالترويج لأفكار غوبينو. ويحمل الشوفينيون والأهليون (nativists) الأروبيون وجهة نظر جوهرانية (essentialist) لأوروبا بشكل عام، ولليونانيين بالتحديد. يرون أنها معجزة من العرق الأبيض.
وقد صرّح بارتولد نيبور، مؤرخ روما القديمة، بالبيان العنصري في التاريخ في هذه الكلمات: “العرق هو واحد من أهم عناصر التاريخ التي لا يزال يتعين فحصها والتي هي، في الحقيقة، الأساس الأول الذي يرتكز عليه كل التاريخ. والمبدأ الأول الذي يجب عليه المضي فيه.”
ولم يتشمل ذلك على الظروف المادية أو التفاعلات البشرية للطبقات والأمم وإنما اشتمل على الهبات الوراثية، والنقاء العنصري، وخصائص الأمة الثابتة وغير الثابتة، وأصبح التاريخ في هذه الرومانسية العرقية الأولى، سيرة ذاتية للعرق. يعني هذا التجسيد أنه يمكنك البحث عن أصل العرق، طفولته، تمامًا كما لو كنت تنظر الإنسان.
كان هناك بحث عن أصول أوروبا القوية. نُشرت قصص بطولية، وساهمت اسكتلندا وألمانيا بالعديد من الحكايات الشعبية، لكنهم في النهاية اكتشفوا الطفولة الأوروبية في اليونان. لم تكن قصص القرون الوسطى والآلهة والإلهات الاسكندنافية القديمة بطولية بما فيه الكفاية لتنسجم مع الأفكار الجديدة للعظمة الأوروبية. لم تكن ووتان Wotan وثور Thor متطابقتين مع بتاح Ptah وآمون Amen وآتوم Atum ورع Ra.
في عام 1820 عندما قاتل اليونانيون الأتراك من أجل الاستقلال، وصلت فكرة الأصول اليونانية للأوروبيين إلى درجة الحمى، في الحقيقة أن شيللي، الشاعر، كان قد أعلن: “نحن جميعًا يونانيون، قوانيننا، أدبنا، ديننا، فنوننا كلها جذورها في اليونان.” ويُنظر إلى الحكم التركي لليونان على أنه حكم السلالة الأدنى للسلالة الأعلى. يقول فيلهلم فون همبولت في هذا النحو: “… في اليونان وحدها نجد المثل الأعلى لما نود أن نحققه وننتجه … من اليونانيين، نأخذ شيئًا أكثر من أرضي، شيء شبه إلهي.”
وباعتبارهم أحفاد هذه الكائنات شبه الإلهية، فقد اعتبر الأوروبيون أنفسهم الحكام الطبيعيين للعالم. ثم قاموا بتعليم الأفارقة التفكير في هذا الأمر بهذه الطريقة. لقد جندلوا الآلاف من الإخوة والأخوات. بدأ كارل اوتفريد مولر في جوتنجن في العشرينات من القرن التاسع عشر، وبالتزامن مع صعود الاستقلال اليوناني، هذا البناء الجديد للعصور القديمة. قدم خصائص غير قابلة للتغيير لمجموعات مختلفة لشرح أن اليونان ليس لديها أي تأثيرات من أفريقيا أو آسيا. وقال إن المصريين لم يكونوا قادرين على إقامة المستعمرات في اليونان لأنهم يخشون السفر عبر البحر. وقال إن الفينيقيين لم يكونوا قادرين على الاستقرار لأنهم كانوا بحارة ولا يمكنهم تأسيس مستعمرات على الأرض.
فضّل العنصريون في أوروبا المفاهيم الألمانية والإنجليزية للحريات المتجذرة في التربة المحلية على الحريات المجردة لفرنسا: الحرية والمساواة والأخوة. لقد كانوا يخشون من أن تهدد الثورة الفرنسية الامتيازات. إنها نفس اللغة الإنجلو-الإنجليزية في الهند، وطبقات الكريول في العديد من المجتمعات الكاريبية التي تخشى صعود الجماهير بسبب الأفكار القائمة على قبول أفريقيا كمفهوم صالح للتاريخ، والشعوب الأفريقية كعوامل في التاريخ.
لذلك استخدموا الإغريق لخدمة أغراضهم، أغراض الطبقات المالكة. إصلاح ديمقراطي بطيء، عدم تحرير المرأة، فئة الخدم الذين يعملون في المزارع، إلخ. كان منهج التربية (Bildung) هو نموذج الألمان والأوروبيين الآخرين. لقد أظهر توماس ماكاولي ما يمكن أن ينتجه هذا المنهج للتعليم. مثله مثل شيللي أو شيلر في ألمانيا كان مقتنعًا بمعجزة اليونانيين، الطبيعة الإلهية ومكانة اليونانيين. وقال إنه “أراد أن ينسى دقة القاضي في تبجيل العابد” عندما نظر إلى اليونانيين.
يمكن أن يعترف ماكولي Macaulay بعدم معرفة اللغة العربية أو اللغة السنسكريتية ويعلن في دفاتره عن التعليم أنه ليس من المستغرب أن يفكر البيض في هذه الشروط باعتبار المعلومات التي يتم نقلها لهم بشكل منتظم. وإلاما الشيء الآخر الذي يمكنه أن يكتبه؟
في الواقع في أيام ماكولي كان واضحا ما هو الغرض من منهج اللغة الإنجليزية: “لتشكيل طبقة من المتعلمين ليكونوا مترجمين بيننا وبين الملايين الذين نحكمهم؛ فئة من الأشخاص، هنود في الدم واللون ولكن إنجليز في الذوق، الآراء، في الأخلاق، والفكر.” (مذكرات عن التعليم). هذا يمكن تطبيقه على الأفارقة كذلك. كان الأوروبيون الذين تشكلت شخصياتهم بهذه النظرة عنصريون بقدر كبير وكان قد طُلب من كثيرين منهم أن يحكموا الأراضي الاستعمارية. لقد جلبوا معهم مواقفهم لتؤثر على المؤسسات الأوروبية الجديدة التي نشأت مع احتلالهم. ظلت التقاليد القديمة، غير متأثرة ومتجذرة في بنية عقل الناس، مزروعة كما كانت في دمائهم وجلدهم.
لكن الأوروبيين كانوا حريصين على إصدار فكرة الإغريق بصفتهم أسياد الحضارة الإنسانية المبكرة. وكما تربى الإغريق ليكونوا آلهة، كان على الأفارقة والآسيويين أن يصبحوا شياطين وكان الهجوم لا هوادة فيه من القرن الخامس عشر فصاعدا. في 1715 في كان أوغست هيومان، حتمي مناخي وأحد مؤسسي جامعة جوتنجن، قد وضع التمييز بين الدراسات المصرية والفلسفة اليونانية في الدورية الفلسفية (Acta Philosophorum ).
لا يبدو أن هناك اختلاف كبير بين الاثنين عندما تقرأ التعريف الذي يعطيه للفلسفة على أنها “بحث ودراسة للحقائق المفيدة على أساس العقل،” ليوحي، كما يريد أن يفعل ذلك، أن الأفارقة، المصريين في هذه الحالة، لا ينخرطون في الفلسفة بافتراض أن العقل غير معروف لأفريقيا. هذه حجة غير عادية تم فيها تحويل 5000 عام من الإنجاز الأفريقي إلى مجرد خلفية ضرورية لليونان. أما النوبة، أم مصر، فهي في الخلفية حتى الآن تتلاشى في الليل.
كان خط التفكير العنصري لا هوادة فيه. في الواقع، في حين أن القرن الخامس عشر هو البداية العظيمة للتأثير الشرير الذي يبدو، فقد شهد كل قرن منذ ذلك الحين نصيبه من المركزية الأوروبية الآرية في طريقة الخدمة الذاتية في تفسير التاريخ.
منذ أن أظهرت الدراسات الحديثة بشكل قاطع أن مصر وكيمت كانت أفريقية، يحاول الآن بعض الحراس الخلفيين التقليل من أهمية كمت. وهكذا، ظهرت بلاد ما بين النهرين في المقدمة في أذهانهم في أواخر القرن التاسع عشر، على الرغم من عدم وجود أي شيء في بلاد ما بين النهرين، بابل وسومر، يعادل جلال أو تأثير الإنجاز الأفريقي. هذا لا يعني أن آن (An) وآنيل (Enlil) ليسا مهمين، ولكن لوضعهما في نفس الفئة في تاريخ البشرية مع Amen-Ra و Ptah أو Atum هو أن يُحوّل التاريخ إلى الجانب الخطأ.
إن البارانويا، جنون الارتياب، التي تعني حرفيا، في معناها الاصلي في اللغة اليونانية، أن يكون للمرء عقل آخر إلى جانب عقله، بدلا من المعنى الحديث لضلالات الإضطهاد، تصف هؤلاء الأفارقة الذين فقدوا عقولهم والذين وضعوا عقلا آخر جنبا إلى جنب مع العقل الخاص بهم. لكننا نعرف أن تباعدنا عن الذات وعن التاريخ وعن المجتمع كان طويلًا.
أظن أنه من المهم أنني أشرح كيف تم تكتيف إفريقيا مفاهيميا منذ بداية تدخل أوروبا.