احمد حسين آدم
علينا جميعا، بادئ ذي بدء، رصد الأحداث والفظائع التي ترتكب في دارفور هذه الأيام، والربط بينها لقراءة سياقاتها الكلية ومآلاتها، حتى يتسنى لنا اجتراح فعل وطني جمعي ينتزع القضية السودانية في دارفور من العصبة الحاكمة التي تنوي بها شرا مستطيرا يتجاوز حدودها، بل أن أحداث الراهن المأساوية في الإقليم مخططة ومدبرة بواسطة النظام لغايات محددة، خاصة في هذا التوقيت المفصلي من تاريخ السودان ودارفور، حيث تحل الذكرى الستين لاستقلال السودان في الأول من يناير 2016 واستشراف الذكرى المئة لضم دارفور للسودان الحديث.
الذكرى المئة لضم دارفور إلى ما يسمى آنذاك «السودان البريطاني المصري» الدولتين اللتين استعمرتا السودان آنذاك، وهو السودان الحالي الذي ورثه السودانيون في الاول من يناير 1956، بما في ذلك جنوب السودان قبل انفصاله عام 2011. هذه الذكرى ربما لا يتذكرها البعض أو يعيرونها اهتماما، غير أنها ذِكرِى ذات مغزي استراتيجي في تاريخ نشأة وتكوين السودان المعاصر، خاصة بعد ستين عاما من فشل الدولة الوطنية وغياب مشروع وطني يحول وينقل السودان إلى دولة لكل مواطنيها.
وينبغي ألا يظنن ظان اننا قصدنا بعبارة «ضم» دارفور إلى السودان أنها لم تكن جزءا من السودان أو أنها غريبة عن نسيجه وتكوينه التاريخي. من المعروف أن الإطار الجغرافي للسودان الحديث كان قد تأسس على إرث سلطنتي الفونج (1504-1821) والفور (1650 ـ 1916)، بكلمة اخري، يمكن القول إن سلطنة الفونج وسلطنة دارفور كانتا تحكمان وتمارسان سيادتيهما على نطاق جغرافي كبير داخل ما يعرف بسودان اليوم، حتى مجيء الحكم التركي المصري الذي أسقط سلطنة الفونج عام 1821. بيد أن الأتراك لم يتمكنوا من إخضاع سلطنة دارفور إلا عام 1874. والجدير بالذكر أيضا أن السلطان محمد تيراب الذي حكم سلطنة دارفور في الحقبة من 1752 وحتى 1787 كانت جيوشه قد توغلت حتى مدينة أمدرمان. كما أن دارفور لعبت دورا طليعيا مع بقية أقاليم السودان في انجاح الثورة المهدية، ولاحقا في مقاومة الاستعمار البريطاني حتى نال السودان استقلاله عام 1956. هذه التواريخ والاحداث المفصلية من تاريخ دارفور يؤكد على عمق ومساهمة دارفور في تأسيس السودان الحالي، على مستوييه التاريخي والمجتمعي، منذ بدايات عهود التكوين القديم والحديث. لكن على الرغم من كل ذلك لا يجد أهل دارفور من العصبة الحاكمة إلا النكران والقتل والحرمان من حقوق المواطنة.
لا شك أن هنالك انفصاليين وأصحاب أجندات أمنية عنصرية داخل النظام يسعون جاهدين لتيئيس ودفع سكان دارفور للسير في اتجاه الانفصال. ومن المفارقات المحزنة أن هذا النظام يتعامل مع دارفور كخطر ومهدد أمني، كما كان يفعل المستعمرون والغزاة الأوائل الذين حكموا السودان.
ونحن نحاول سبر غور خطط وممارسات النظام في دارفور، من المهم أن نربط الأحداث التالية: مذبحة الجنينة التي ارتكبتها قوات أمن النظام ومليشيات الجنجويد في العاشر من الشهر الجاري، التي تجاوز ضحاياها الخمسين ما بين قتيل وجريح من المدنيين العزل؛ نائب الرئيس السوداني حسبو عبدالرحمن وفي خطاب علني هدد وأصدر تعليماته للنازحين في دارفور بإخلاء معسكراتهم بغية إزالتها خلال أسابيع معدودة، في مخالفة صارخة للقوانين والمعاهدات الدولية ذات الصِّلة، وهو أمر رفضه النازحون بالإجماع. ولعله من سخرية القدر أن يأمرهم باخلاء المعسكرات في ظل القتل المستمر والتشــريد والاحتلال والحصار المطبق على الاراضي والمناطق الأصلية لهؤلاء النازحين بواسطة المجموعات الوافدة من دول الجوار التي يستقدمها النظام لتنفيذ استراتيجيته الامنية والعسكرية بهدف التغيير الديمغرافي لدارفور.
كذلك أعلن النظام انه سينظم استفتاء حول الوضع الاداري لدارفور في شهر ابريل المقبل (الإبقاء على الخمس ولايات الحالية أو العودة إلى نظام الإقليم الواحد)، ضمن التحولات الحالية ايضاً تمكين النظام للجنجويد (مليشيا الدعم السريع ) من السيطرة الكاملة على دارفور لتقتل بدم بارد ولتنهب ولتغتصب ليل نهار، إذ تمثلت آخر جرائمها في حملة الارض المحروقة الحالية التي تشنها على جبل مرة في دارفور.
والسؤال هو: لماذا يرتكب النظام كل هذه الجرائم على اعتاب مرور قرن على ضم دارفور الى السودان؟ أي رسالة يريد أن يرسلها؟ ماذا يريد النظام بمحاولاته المستمرة لتيئيس واحباط أهل دارفور؟ لماذا اختار النظام هذا التوقيت لينظم ما يسمي باستفتاء دارفور؟ فضلا عما ذكرت عن ضرورة الربط بين سياسات وممارسات النظام على الارض، فالواجب يحتم علينا الا ننشغل فقط بالاحداث المتفرقة التي يصنعها لتشتيت أفكارنا وطاقاتنا وفعلنا الاستراتيجي الجمعي. إن استفتاء دارفور، مذبحة الجنينة الاخيرة، سيطرة المليشيات على دارفور التي أصبحت مستعمرة تحت سلطتها، الاستهداف العنصري الدموي لطلاب دارفور في الجامعات السودانية، فرض واقع التغيير الديمغرافي، خطة طرد قوات حفظ السلام الافريقية والاممية «اليوناميد» من دارفور في ابريل المقبل، ومحاولات تفكيك المعسكرات، هذه كلها أحداث وعناوين وحلقات متصلة ومرتبطة عضويا بالمرحلة الجديدة لاستراتيجية النظام في دارفور وهي قطعا ستكون لها تداعيات خطيرة على السودان بأسره.
فالثابت أنه لا يرتجى من استفتاء دارفور المزمع تنظيمه في أبريل أي مصلحة لدارفور او السودان، كما أن غرض الاستفتاء ليس تنفيذا لبند اتفاق سلام مبرم، كما أنه قطعا لا يمثل إشارة لمنحى او اتجاه ديمقراطي جديد للنظام الديكتاتوري في الخرطوم، فالنظام اثبت قطيعته الكاملة مع كل هذه الاستحقاقات والمعاني. الواقع أن هنالك أهدافا محددة يريد النظام تحقيقها من فرض ما يسمى الاستفتاء حول الوضع الإدراي لدارفور: النظام يريد إكمال خطته في تدمير وضرب النسيج الاجتماعي والإثني في الإقليم بإشعال مزيد من الفتن والحروب بين أهل الاقليم. نظام البشير يخشى وحدة أهل دارفور، لذلك لا يريد عودة دارفور لوضعها القديم ككيان اداري وسياسي يجسد وحدة الهوية والوجدان والتاريخ والتعايش المشترك بين كافة مكوناته.
البشير يريد اضفاء شرعية زائفة لواقع السيطرة والتقسيم الاثني الحالي الذي فتت وقسم به دارفور إلى خمس ولايات إيغالا في سياسة «فرق تسد». كما أن النظام يعمل على قطع الطريق أمام اتجاهات التصالح والتفاهمات الجارية بين سكان الإقليم بعد المراجعات الجادة التي اجرتها بعض المجموعات الاثنية التي كانت حليفة للنظام، حيث اكتشفت استغلال النظام لها ودوره القذر في صراعاتها وحروبها البينية العبثية.
دارفور تشهد مرحلة جديدة من الإبادة الجماعية، وأن أولوية الإقليم ليست في اجراء استفتاء مهرجاني مزيف مفروض من سلطة الامر الواقع، يضاف إلى سجلها في تزوير الاستحقاقات الديمقراطية السابقة. حقا أن أولويات دارفور القصوى هي إيقاف الإبادة وتحقيق العدالة والسلام الشامل العادل الذي يمكن أهل الإقليم من المساهمة مع بني وطنهم في الاقاليم الاخرى من تشكيل مستقبل السودان الجديد. إن حلقات المؤامرة متصلة ببعضها، ولذلك ليس غريباً أن يربط نائب الرئيس حسبو عبدالرحمن «ممثل الجنجويد» في رئاسة البشير بين استيفاء شروط الاستفتاء وتفكيك معسكرات النزوح، نائب البشير ابتز النازحين بصلف فأمرهم بمغادرة معسكرات النزوح والذهاب إلى مناطقهم الأصلية قبل شهر من الاستفتاء، إن هم أرادوا المشاركة فيه. محاولات تفكيك المعسكرات تجري بشكل منظم، فالنظام يمارس الاغتصاب، التجويع، الإعتقال والقتل لإجبار النازحين على إخلاء المعسكرات. البشير وعصبته يرتعدون من معسكرات النزوح فهم يَرَوْن فيها شواهد حية لجريمة الابادة الجماعية التي ظلوا يرتكبونها منذ عام 2003. ولا شك أن بعبع المحكمة الجنائية الدولية تمكن من رأس النظام، ولذلك أمر نائبه حسبو عبدالرحمن بتولي مهمة تفكيك معسكرات النازحين بكافة الوسائل لطمس ادلة الابادة الجماعية. لا شك أن دارفور الان تبدو سجنا كبيرا، بل مستعمرة تحكمها كتائب الامن ومليشيات الجنجويد بالحديد والنار. فمذبحة الجنينة ليست حدثا استثنائياً اوعابراً، فالإقليم في حالة احتقان غير مسبوقة، إذ أن اجزاء كبيرة من أراضي السكان الأصليين انتزعتها المليشيات التي جلبها النظام من دول الجوار لدعم مليشياته وإحداث التغيير الديمغرافي في الاقليم، إنه من المخزي أن تُمارس المليشيات جريمة «السخرة» و« الاستعباد» في دارفور في القرن الواحد والعشرين – بعض المواطنين من أهل الإقليم يجبرون وبقوة السلاح على اقتسام حصاد زرعهم مع قادة المليشيات مقابل الامن والحماية!
ما يحدث في دارفور الآن ينذر بخطر عظيم ليس عليها وحدها، بل على السودان كله. يعتقد النظام أن الظروف مؤاتية لتنفيذ وفرض مخططاته الشريرة في دارفور وغيرها، انطلاقا من تقديراته بان موازين القوى على الارض لصالحه، وإحساسا من قادته بان المجتمع الدولي كذلك مشغول بأزمات وأولويات إقليمية ودولية اخرى.
وحتى لا تتحقق أجندات النظام الكارثية فإن السودانين جميعا مطالبون بالتقاط زمام المبادرة بالتصدي لأزمة السودان في دارفور قبل فوات الأوان، إذ يجب أن يكون التصدي للازمة السودانية في دارفور هما و»بنداً» وطنياً قومياً، ولا بد من حملة وحراك وطني جمعي ضد الاستفتاء ومخطط تفكيك معسكرات النازحين. دارفور ستكون على موعد جديد مع التاريخ لتصنع التاريخ الجديد للسودان جنباً إلى جنب مع بقية السودانيين كما فعلت على مر حقب التأريخ السوداني.
٭ كاتب سوداني
أحمد حسين آدم
القدس العربي