عقب قرار تمديد العُقُوبات الأمريكية الأخير، شَرَعَ المُتأسلمون في إلهاءاتهم وتمويهاتهم، وكأنَّهم على علمٍ مُسبقٍ بالقرار وينتظرون فقط إعلانه، حيث سَارَعَ البشير بإصدار قراره (الصُوري) بتجميد أعمال لجنة التفاوُض مع أمريكا، والذي فضحه الأمريكان بنفي إبلاغهم (رسمياً) بذلك، وانتهت المسرحية بتراجُع البشير المُخجِل وتَحَجُّجه بالسعودية حسب زعمه! كما أصْدَرَ المُتأسلمون بياناً ارتجالياً بلا مضمونٍ أو هدف، مع تصريحاتٍ مُرتبكةٍ لمُسْتَوْزِر خارجيتهم، أقَرَّ في بدايتها بتنفيذ جميع مَطَالِب الأمريكان، ولاحقاً كَشَفَ لسونا في 20 يوليو 2017، عن اتصاله بنائب وزير الخارجية الأمريكية، وأكَّد على رفع العقوبات في أكتوبر 2017، إذا استمرَّ التعاوُن في الملفَّات الخمسة (بنفس الطريقة)!
بغض النظر عن انبطاحات وتناقُضات البشير وعصابته، يُعدُّ الحصار الأمريكي إحدى أخطر خيانات المُتأسلمين للسُّودان، ويعكس مُمارساتهم الإلهائية لتدمير البلاد وتمزيقها تنفيذاً لمُخطَّطات أمريكا. وبعبارةٍ أُخرى، خَانَ المُتأسلمون السُّودان لصالح الأمريكان، واتَّخذوا الحصار حُجَّة لتبرير خياناتهم، وسَعُوا لصَرْفِ الأنظار عن المُتسبِّب الحقيقي فيه ومُساءَلَته ومُعاقبته! ولو تأمَّلنا ما جرى، سنُدرك وجود أسباب (خَفِيَّة) للحصار غير المُعلَنَة، وذلك قياساً بما عايشناه من أحداثٍ ونتائجها، التي أثبتت استهداف نهب مُقدَّرات السُّودان وتمزيقه. وفي كلتا الحالتين، سواء الأهداف المُعْلَنَة أو الخَفِيَّة، شَكَّل البشير وعصابته أداة أمريكا الرئيسية، وعَكَسُوا أسوأ مظاهر الخيانة الوطنية في العصر الحديث، والأمريكان أنفسهم كانوا سيفشلون في ما فعله هؤلاء.
وبالعودة لتاريخ العداء الأمريكي، نجده بدأ عقب (سَطْوْ) البشير وعصابته على السُلطة عام 1989، نتيجة لخطابهم العدائي كما أشاعوا آنذاك، وتَصَاعَدَ عقب غزو العراق للكُويت وتأييد المُتأسلمين لذلك الغزو، وتَطَوَّر العداءُ أكثر باحتضان العصابة للجماعات المنبوذة ورعايتها، مما أدخل السُّودان في قائمة الدول الرَّاعية للإرهاب عام 1993. ثُمَّ قامت أمريكا بتشديد حصارها الاقتصادي عام 1997، رغم تراجُع الخطاب العدائي للمُتأسلمين وطردهم لأسامة بن لادن عام 1996، تلا ذلك قصف مصنع الشفاء عام 1998 وتخفيض التمثيل الديبلوماسي، ثمَّ تصنيف السُّودان ضمن الدول التي يُمكن مُحاصرتها اقتصادياً عقب أحداث 11 سبتمبر 2001. وتأسيساً على ذلك، فإنَّ البشير وجماعته هم سبب الحصار على السُّودان، وبنحوٍ أكثر دِقَّة صنعوه عَمْداَ بتصريحاتهم ومُمارساتهم دون أن تَطَالهم انعكاساته التي اقتصرت على السُّودان (أرضاً وشعب)!
فالواقع يُؤكِّد عدم تأثُّر المُتأسلمين (جماعة/أفراد) بالحصار، وإنَّما العكس تماماً، فقد تَوَاصَلَ تعاوُنهم مع الأمريكان، وفي أخطر الجوانب وهي الأمنية طِبقاً لإقرارات الطرفين، وآخرها مُسْتَوْزِر خارجيتهم عقب إعلان تمديد العقوبات! وقبل ذلك، تصريحات سفيرهم لصحيفة واشنطن تايمز في مايو 2016، وإقرار مدير أمنهم السابق (قوش) في يناير 2014، وتأكيداته بأنَّ تعاوُنهم الأمني الوثيق مع أمريكا بإشراف البشير شخصياً. هذا بخلاف احتضان الخرطوم لأكبر سفارة أمريكية بأفريقيا والشرق الأوسط، واستحواذ رؤوس الفجور الإسلاموي وأُسرهم على جوازاتٍ أمريكية، وأسفارهم المُتلاحقة واستقرار العديدين منهم بأمريكا، وهذه مُعطياتٌ تُؤكِّد تآمر المُتأسلمين ضد السُّودان وأهله!
وتتأكَّد خيانة البشير وعصابته أكثر، بالنظر في انعكاسات الحصار على مُقدَّراتنا/مواردنا الوطنية، وهو الهدف الخَفِيُّ الأوَّل، وتتجسَّد سلبياته بوضوح في مُؤسَّساتنا الرئيسية و(الناجحة) حصراً، كالخطوط الجوية والبحرية والسكك الحديدية والنقل النهري، ومشروع الجزيرة وقطاع الخدمات كالسياحة والاتصالات التي بِيْعَتْ بثمنٍ بَخْسْ، لدولٍ وجماعاتٍ وأفراد ذوي صِلة بالمُتأسلمين وسادتهم. وتَرَاجَعَت الزراعة نتيجة لغياب مُدخلات الإنتاج وتقاناته واستبدالها بأُخرى كارثية (حالة القطن المُحوَّر)، مع رَهْنْ وبيع أنجح المشاريع والأراضي الزراعية لعددٍ من أزلام أمريكا وأذرعها، وذلك كُلَّه بحِجَّة الحصار! كما تَعَثَّرَتْ البعثات والمِنَحْ الدراسية، وتَعَطَّلَ استيراد أدوات المعامل والمُختبرات ومُتطلَّبات العملية التعليمية، وضَعُفَ العمل المصرفي تبعاً لسيطرة أمريكا على مُؤسَّسات المال العالمية، كصندوق النقد والبنك الدوليين وغيرهما، من مُؤسَّسات التمويل والتنمية التي تَضَاءَلَت برامجها في السُّودان.
وبالنسبة لهدفه الخَفَيِّ الثاني المُتمثَّل في تمزيق البلاد، شَكَّلَ الحصارُ أحد العوامل الرئيسية لانفصال الجنوب، وفقاً لإقرار المُتأسلمين والأمريكان والمُغامرين أيضاً، حيث أتت اتفاقية نيفاشا برعاية وضغط الأمريكان، الذين استخدموا (جَزَرَة) رفع العُقوبات للتوقيع على الاتفاقية الكارثية، وهذا ما يجري تنفيذه الآن للمنطقتين ودارفور بصفةٍ خاصة! وأجزم بأنَّ قرار تأجيل رفع العقوبات الأخير، جاء لتهيئة ظروف فَصل دارفور ورُبَّما المنطقتين، بتوجيهٍ ورعايةٍ أمريكية، وتنفيذ البشير وعصابته وبعض المُتاجرين بقضايانا. وذلك استناداً لأكثر من مُؤشِّر، أوَّلها (إقرار) غندور المُوثَّق بأنَّهم نَفَّذوا كل مطالب الأمريكان ولم يعد لديهم المزيد، ثُمَّ (تأكيداته) برفع العُقوبات في أكتوبر لو تمَّ تنفيذ الملفَّات الخمسة بنفس الطريقة، وهذا يتقاطع مع سِجِلِّ المُتأسلمين الإنساني والقانوني داخلياً وخارجياً، ويكفي أنَّ البشير مُلَاحَق دولياً في جرائمٍ خطيرةٍ أقَرَّ بارتكابها، وبدأ مُؤخَّراً بنقل تجربته الإجرامية لليمن، بما يدحض حِجَّة الملفَّات الخمسة! والمُؤشِّر الثاني – وهو الأخطر – التصعيد الأخير المُتعمَّد، وغير المُبرَّر، ضد أبنائنا طُلَّاب دارفور بجامعة الرضا بصورةٍ مُتسارعةٍ ومُستفزَّة، مع تصعيد الصراعات مُجَّدداً بإقليم دارفور، وهي مُمارساتٌ تهدف – بوضوح – لاستثارة أهل الإقليم، ودَفْعِهِم بإصرار نحو الانفصال الذي تأباه أنفسهم الأبِيَّة والطَّاهرة، وسيُواصل المُتأسلمون أذاهم على البُسطاء والعُزَّل، قبل انتهاء أو مع اكتمال فترة تمديد العقوبات، وهو ذات السيناريو الذي تمَّ مع الجنوب، حيث مَارَسَ المُتأسلمون ضغوطاً كبيرة على الأخوة الجنوبيين عقب نيفاشا، ووجدها المُتاجرون فُرصةً مُناسبة لتحقيق الانفصال!
المُؤلم، أنَّ الفتنة الإسلامَوِيَّة الحالية سندفع ثمنها جميعاً، ومن السذاجة بمكان الاعتقاد بتوقَّف مشاكلنا وأزماتنا بانفصال دارفور أو المنطقتين. فمُمارسة البشير وعصابته للعُنصُريَّة، وسعيهم لزيادة الهُوَّة بين أهل السُّودان عموماً، وإبعادنا عن أهلنا بدارفور خصوصاً، ستُلقي بظلالها الكارثية على كل البلاد، وستتزايد مخاطرها وستطالنا جميعاً، كلما تَقَلَّصَت مساحات الوطن. فلنتعلَّم من تجربة الجنوب، الذي سَعَى المُتأسلمون لفصله ووعدوا بحياةٍ مُتناسقةٍ اجتماعياً وعقائدياً وأغرقونا بأباطيلهم، وبعدما فصلوه استمرَّ نهجهم القبيح بدارفور والمنطقتين، ولن يتوقَّفوا حَتَّى يُنفِّذوا رغبات سادتهم. علينا كسُّودانيين إدراك أنَّ دارفور، هي (الدَرَقَة) الحقيقية لوحدة ما تبقَّى من السُّودان عقب انفصال الجنوب، وتَحَمَّل أهلها إجرام إسلامَوِيَّاً يفوق الخيال، وإذا انهارت (لا قَدَّرَ الله) فلن لن يصمُد باقي السُّودان، لأنَّه إمَّا مُبَاعَ أو مرهون أو مُحتل! وبالنسبة لأهلنا بدارفور، فسيقعون في مأزقٍ يفوق بكثير مآسي أهلنا الجنوبيين، فقد أَسَّسَ المُتأسلمون للفتنة واستمرار القتال بدارفور، بتقسيماتهم الإدارية استناداً للجَهَوِيَّة/القَبَلِيَّة، وسَعُوا لتغيير تركيبة الإقليم السُكَّانية، وسَمَحُوا بالتوغُّلات المصرية وغيرها من التجاوُزات، مما يجعل اتِّحادنا – كسُّودانيين – لاقتلاع البشير وعصابته هو الخيار الأقلَّ تكلفة!
إنَّ قرار تمديد العُقُوبات الأمريكية استهدف مُساعدة البشير وعصابته لاستكمال المُخطَّط المرسوم، عقب نجاحهم الكبير في نهب وتدمير مُقدَّرات السُّودان، ويسعون الآن لاستكمال الهدف الخَفِيِّ الآخر المُتعلِّق بتمزيق ما تبقَّى من بلادنا، وعَثَرَتهم الوحيدة هي دارفور، والمُتوقَّع تزايُد التعديات على أهلنا هناك، وما فضيحة جامعة بخت الرضا إلا بداية للتصعيد الإسلامَوي الذي يتسارع إيقاعه، مما يُحتِّم تلاحُم جميع أهل السُّودان مع أهلنا بدارفور، ومُواجهة الإجرام المُتراكم والمُتزايد والمُتوقَّع. ومن جهة ثانيةٍ، ورغم أنَّ رفع العُقُوبات أمرٌ جيد، لكنَّ الأمريكان هم المُستفيد الأكبر من ذلك، لأنَّهم سيطروا على مُقدَّراتنا، سواء بنحوٍ مُباشر أو عبر أذرعهم. وبعبارةٍ أُخرى، لن ينال السُّودانيُّون خيراً من رفع الحصار طَالَما بقي المُتأسلمون في السُلطة، لأنَّهم باعوا ورَهَنُوا ونَهَبوا كل مُقدَّرات البلد وهو واقعٌ لا يحتاج استدلال.
المُحصِّلة، أنَّنا كسُّودانيّين، مسئولون عن إفشالُ هذا المُخطَّط الكارثي، عبر الإسراع بالاتحاد والتضامُن الحقيقي و(العملي/الميداني)، ولنقتدي بالموقف الإنساني والأخلاقي والتاريخي والوطني، للشيخ الياقوت وأهله الكرام مع أبنائنا الطُلَّاب الأماجد، الذين فعلوا ما عليهم وفق قدراتهم المُتاحة، وعلينا استكمال هذا النهج الكريم كسبيلٍ أوحد، لإيقاف العبث الإسلامَوي قبل انفراط واستفحال الأمور واستحالة مُعالجتها، وهذا لا يتأتَّى إلا بنبز العُنصُرية – قولاً وعملاً – التي لا تخدم إلا مصالح البشير وعصابته!
بياناتُ الشَجْبِ والتضامُنِ (الجماعية والفردية) لا تكفي لتجاوُز المرحلة المفصلية والحَرِجَة الماثلة، فهي مرحلةٌ لا تحتمل التسويف والتلكُّؤ والانصرافية أو الصراعات الجَهَوِيَّة/القَبَلِيَّة، وإنَّما تحتاج اتِّحاداً وتلاحُماً حقيقياً لاقتلاع المُتأسلمين، ومُحاسبتهم ومُعاقبتهم على جرائمهم المُتراكمة بما فيها الحصار، وإسقاط العالم الخارجي وكل من يسعى للالتفاف وشق الصفوف من حساباتنا، وهذه مسئولية كل سُّوداني شريف وعاقل.