احمد محمود كانم
الشعب السوداني كعادته صبور و طيب إلي أبعد الحدود ، بجانب تمتعه بسعة صدر كبيرة جعلته مغرماً بمتابعة المسلسلات الهنديه والتركية الطويلة جداً ، وهو ما دفعه إلى مشاهدة مسرحية (محاكمة الرئيس المخلوع ) بلا كلل أو ملل منذ بدايتها قبل بضعة أشهر و حتي آخر حلقاتها التي أسدل آخر ستار لها نهار يوم السبت 14 ديسمبر كانون الأول ، حيث تمخضت عنها إدانة المخلوع عمر حسن أحمد البشير بتهم الثراء الحرام تحت المادة 6و7 وحيازة النقد الاجنبي بطرق غير مشروعة .
و علي ضوء ذلك أمرت المحكمة بسجنه في اصلاحية لسنتين ، تطبيقا لما نصت عليه المادة 48 (التدابير المقررة للشيوخ ) .
وكأن المواطن السوداني المكلوم الثائر منذ أكثر من عقد ونصف ، ما ثار إلا لإقتلاع ما بحوزة البشير من مبالغ نقدية بعملات مختلفة كان قد اكتسبها من كد عرقه عبر الشحدة و التسول علي أرصفة مطارات وأبواب المحسنين من دول الخليج ..
أو لكأن هذه الوريقات من النقود الأجنبية التي كان يحتفظ بها المخلوع لنفسه لليوم الأسود ، تمثل أكبر جرائمه التي ارتكبها خلال فترة حكمه الممتدة لثلاثة عقود متتاليات..
أو كأن تلك الملايين _التي لا علم للشعب بها_ وحدها هي التي أشعلت جذوة ثورة ديسمبر التي أدت في نهاية المطاف إلى إسقاط نظامه !
* في محاولة لإسكات الأصوات التي ارتفعت مستنكرة قرار المحكمة و(استهبالها ) ، أصدرت النيابة العامة بيانا جاء فيه ” أن البشير تنتظره قضايا عديدة من بينها قضايا الجرائم ضد الانسانية وتقويض النظام الدستوري وتصل العقوبة في كل منها في حالة الإدانة الي عقوبة الإعدام ” ، فيما أوضحت أنها “تباشر التحقيق في الجرائم التي إرتكبها البشير ورموز نظامه السابق منذ العام 1989م وحتى تاريخ سقوط نظامه في أبريل 2019م (جرائم قتل المتظاهرين وإنتهاكات حقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق ، جرائم الإغتصاب ، جرائم التعذيب ، جرائم الإختفاء القسري ، وجرائم الفساد الآخرى التي تصل المبالغ الواردة فيها الي مليارات الدولارات الخ)حسبما تناقلتها الصحف ووكالات الأنباء المختلفة .
إذن ، لماذا لم تؤخر المحكمة هذه القضية إلي ما بعد الفصل في قضايا جرائم قتل المتظاهرين وإنتهاكات حقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق ، وجرائم الإغتصاب والتعذيب والاختفاء القسري ؟
أم أن من أبجديات العمل القضائي والعدلي أن تقدم الجرائم الصغري علي الكبري ، والأموال علي الأرواح؟
وهل سيكون الأمر مختلف إذا لم يعثر على تلك المبالغ النقدية بحوزته ؟
وما المانع من تسليم البشير إلي المحكمة الجنائية الدولية طالما أن القانون السوداني عاجز عن تحقيق العدالة بسبب القيود التي تفرضها المواد المتعلقة بعامل السن ؟
* إن ما يجري الآن في الساحة القضائية والعدلية من خلط لأوراق الأولويات في ملفات جرائم المخلوع عمر البشير وتقديم توافه القضايا علي أمهات الجرائم ، لأمر ليس مخيب للآمال فحسب ، بل يؤكد لضحايا النظام المتواري و المجتمع الدولي بأن المحاكم الوطنية الداخلية ما هي إلا خشبة مسارح لعرض مشاهد استفزازية ساخرة للتلاعب علي خيوط الزمن ريثما يعاود النظام البائد ترتيب صفوفه وإلتقاط أنفاسه ليقوم بنسف كل ما تم التوصل إليه من بشائر وتطلعات الشعب السوداني -علي قلتها – عبر انقلاب عسكري مغطي بزحف الزواحف من منتسبي أجهزة أمن وكتائب مليشيات نظام البشير التي لم تمسسها أيادي التفكيك بعد .
ومع يقيني_ عزيزي القارئ_ بأن المحاكم السودانية غير مؤهلة البتة للقيام بمحاكمات جادة تروي غليل الوطن والمواطن ، يبقي علي النيابة العامة المباشرة الفورية في إعادة ترتيب أوراق الأولويات وتسليمها برفقة المخلوع السفاح عمر البشير إلي المحكمة الجنائية الدولية لينال محاكمات تتناسب وجرائمه الكبيرة الكثيرة والخطيرة ، و في مقدمتها تلك الأرواح البريئة التي أقر البشير بعظمة لسانه بسلب عشرة آلاف منها في دارفور..
وإلا سيصبح الأمر برمته مجرد مسخرة تبعث برسائل خطيرة ، مفادها أن النظام السابق ما عتم يتحكم في مقاليد الحكم في البلاد ، وهي ما ستقشر بدورها جراحات الأزمة السودانية الملتهبة مجدداً .
المملكة المتحدة_ مانشستر
15 ديسمبر كانون الأول 2019i