يمر السودان حاليا بمرحلة حاسمة من تاريخه, فمنذ بداية الحرب والانفصال قبل خمسة سنوات والبلاد تعيش حالة من الميوعة السياسية. فالواقع مشحون بالحروب والازمات الاقتصادية والسياسية, فى مواجهة لفشل اتفاقية السلام الشامل فى الانتقال بالسودان ككل الى نقطة جديدة. ووجد السودانيون انفسهم فى ظل عواصف الربيع العربى فى تحدى مع انفسهم اولا ومع النظام , فى ظل معارضة تقاصرت عن قيادة الشعب الى التخلص من النظام الجاثم على صدر البلاد منذ 27 عاما. وفى ظل تغير كبير فى التحالفات السياسية الاقليمية والدولية فى الخمسة سنوات الماضية بين معسكرات تكاد تكون متضادة بعد فوضى ما بعد الربيع العربى, اصبح النظام اكثر قوة من بعد ضعف. ووجدت المعارضة نفسها فى مهب رياح التغيير فى مصالح القوى الدولية التى كانت تسندها. فى النهاية اصبح المشهد السياسيى فى السودان اكثر تعقيدا مما كان عليه الامر قبل خمس سنوات مضت , والحلول اصبحت اكثر صعوبة. فى الورقة التالية محاولة لقراءة الراهن السياسى والتحديات التى فرضتها المستجدات الحالية واهمها خارطة الطريق, فى ضوء المتطلبات التى تفرضها حالة الوطن الكارثية وامال الشعب فى واقع افضل.
المعارضة تحت الضغط:
منذ التوقيع الاحادى لخارطة الطريق بين امبيكى والحكومة , والمعارضة ترزح تحت ضغوط دولية غير مسبوقة(1. وما كان خرق امبيكى للاعراف التفاوضية المعهودة عبر التوقيع الاحادى مع الحكومة , الا تنفيذا لفرض سياسة الامر الواقع على المعارضة(2). وما اعطى امبيكى والمجتمع الدولى تلك الثقة فى القدرة على وضع المعارضة فى هذا الموقف هو ثلاثة اسباب رئيسية:
1- ضعف المعارضة : عدم قدرة المعارضة على احداث اختراقات حقيقية فى ما يتعلق بالواقع على الارض, فرغم الصمود والقدرة على التمسك بالمواقع العسكرية على جبهات الحرب, الا ان الاوضاع الانسانية للمواطنين كارثية . وهذا نتيجة للحصار المفروض من الحكومة ورفضها دخول المساعدات , مما يشكل ضغطا اخلاقيا على الحركات المسلحة فى داخل مناطق سيطرتها. اما الوضع فى الداخل فهو الاكثر هشاشة على الاطلاق , فالفشل المتوالى للمعارضة ( السلمية ) فى تحريك الشارع من اجل الاحتجاج على النظام , خلاف مظاهرات الطلاب , جعل موقف الاحزاب السياسية باهتا ومهتزا . كما اكد على ضعف تواصلها مع الشارع , وربما رفضه لها , مما جعل المجتمع الدولى يقلل من حجمها السياسى الحقيقى , على عكس ما تدعيه.
2- لعبة حوار الوثبة: و التى اجاد النظام تسويقها للمجتمع الدولى . يبدو للوهلة الاولى ان الحوار مؤشر لضعف النظام ومحاولة لادماج قوى اخرى لمساعدته على البقاء . لكن فى الحقيقية ان الحوار هو محاولة ايضا لابتلاع فكرة الحل الشامل(3 التى ظلت تسوق لها المعارضة وبعض المنظمات الدولية منذ 2012 ونجحت فى تمريرها وموافقة الالية الافريقية عليها جزئيا فى 2014, بضم ملف دارفور لملف المنطقتين فى التفاوض. فمن المعروف ان المفاوضات عبر الالية فى اديس كانت معنية بالمنطقتين فقط , ولكن مع انشاء الجبهة الثورية وتوحد الحركات المسلحة فى نهاية 2011, بدات الدعوة لفتح مسار لقضية دارفور . والاخيرة كان لها منبر فى الدوحة ولكنه كان شبه معطل بعد توقيع اتفاقية الدوحة التى رفضتها معظم الحركات المسلحة الدارفورية. ثم كان طرح الحل الشامل بدعوة لحل الازمة السودانية السياسية من جذورها, وضم بقية المعارضة السياسية للتفاوض لايجاد حلول نهائية لمشاكل السودان عبر مؤتمر دستورى , يسبقه اجتماع تحضيرى فى الخارج يضم كافة فصائل المعارضة المسلحة والسلمية اضافة للحكومة. وكان موقف الحكومة رافضا للحل الشامل منذ البداية وطرحت حملة شعواء ضده. كما ان هذا الطرح الحكومى الرافض للحل الشامل وجد بعض التاييد من بعض الفئات من مناطق الحرب واثار الجدل بين القوى المعارضة , حول اولويات العمل المعارض واهمية وضع اولوية وقف الحرب قبل قضية التحول الديمقراطى والتغيير التى يطرحها الحل الشامل. وعبر الوثبة وتحويلها الى الحوار ( الشامل) (4, تمكن النظام من هضم فكرة الحل الشامل داخل حوار قاعة الصداقة وقسم المعارضة عبر اعادة تقسيم المشهد وانسلاخ المؤتمر الشعبى من صفوف قوى الاجماع وتحالفات المعارضة وانضمامه للحوار اضافة الى حركة غازى والتى تخلت لاحقا عن دعمها لحوار الوثبة. بالمجمل فان سياسة الحكومة قامت باعادة شك الاوراق ووضعت المعارضة فى موقف الممانع للحوار, وبالتالى نجحت فى اضعاف المعارضة وتشويه موقفها امام المجتمع الدولى, مما ساعد على ان يتم الضغط عليها.
3- المشهد الاقليمى والدولى: مما زاد من قوة النظام هو طرحه لنفسه ( كمرتزق ) اقليمى ودولى يحارب تارة نيابة عن الخليجيين فى اليمن , ويحارب الارهاب تارة اخرى , ويمنع الهجرة الى اوروبا ويحصل على اموال طائلة فى هذا العمل الجديد كمرتزق ). بالتالى اصبح النظام فجاة الحليف الدولى المفضل لدى الغرب من امريكا الى دول اوروبا , وفى الشرق من الخليج وحتى روسيا والصين. كما ان الحرب فى جنوب السودان , اعطت النظام السودانى مشهد النظام المتماسك والقادر على فرض سيادة على ارضه وادارة دولته رغم التحديات. ومن المعروف ان الجنوب اصبح نقطة احراج كبيرة لامريكا والدول التى دعمت الانفصال, بعد الانهيار السياسى الشامل للدولة الوليدة. وبالتالى اصبح لدى النظام دور اقليمى جديد (5)فى محاولة الدول الغربية لايجاد حل لازمة الجنوب, واصبح النظام ايضا حليفا بدا متوازنا فى مواقفه تجاه الازمة. وهذا اضافة الى المشهد الكبير المتعلق بسوريا واليمن وليبيا , حيث انتجت التغييرات الثورية هناك هزات ضخمة , لايبدو ان المجتمع الدولى على استعداد لدعم اى هزة سياسية ثورية مماثلة فى الوقت الحالى . وهذا ما بات جليا من الموقف الدولى من الصراع السورى , والذى يتجه الى وضع مشابه لما يجرى فى السودان من تسوية غالبا ما ستشمل مكونات من نظام الاسد.
4- ضعف ورقة المحكمة الجنائية الدولية(6: كانت ادانة البشير والمطالبة بالقبض عليه تشكل ضغطا مهما ضد النظام وخاصة البشير . ولكن ما ال اليه الوضع من تجاهل دولى , وتمرد افريقى وعربى شامل على قرارات المحكمة ومطالباتها, ادى فى النهاية الى ان تصبح المحكمة مجرد كرت قديم تجاوزه الزمن . كما ان الجانب الاخلاقى المتعلق بالعدالة اتضح انه لا يصلح سوى لبيانات منظمات حقوق الانسان ولكنه لا يتحول قط الى جزء من اللعبة السياسية الا عند الحاجة. وبالتالى فان القوى الدولية اختارت وبدون الحاجة حتى لتقديم مبررات لتجاهل الجنائية , وتجميد اى قدرة لها على تعكير صفقات النظام المرتزق , وبل ويتم تسويق البشير الان كصانع للسلام . وبالتالى انتزع من يد المعارضة ورقة ضغط مهمة , قللت من انعدام اخلاقية وشرعية النظام التى كانت المعارضة تدافع بها عن مواقفها المناهضة لخطوات النظام .
المواقف المبدئية :
هنالك مواقف مبدئية اساسية للمعارضة فى التوجه نحو طاولات التفاوض , وايضا فى مجمل العملية السياسية فى البلاد. السؤال هو مدى ثبات او تغير تلك المواقف المبدئية وفقا للواقع الراهن وما فرضته خارطة الطريق وما سينتج عنها . وتتلخص تلك المواقف المبدئية فى النقاط التالية :
1- مبدا الحوار والتفاوض: فى حالة الحروب الاهلية فى السودان , من الصعب الوصول الى حلول عسكرية , وكان الحل التفاوضى هو المبدا الاساسى لكافة الحركات المسلحة منذ سنوات. وجولات التفاوض المطولة والقصيرة منها فى السنوات الخمس الماضية هى مؤشر على ذلك خاصة بالنسبة للمنطقتين . اما دارفور فمنابر التفاوض ظلت تتوالى من ابوجا الى الدوحة الى اديس مؤخرا , دون توقف منذ اكثر من عشر سنوات. عليه فان الوضع السياسي السودان لا يحتمل سوى التفاوض للوصول للحلول , خاصة فى الجانب العسكرى. اما فيما يخص الجانب السلمى من المعارضة , فان الحوار مع النظام كان موضوعا مثيرا للجدل , فقد اعتبره البعض وخاصة اليسار بانه نكوصا عن التوجه نحو الانتفاضة والعمل عليها. لكن هذا لا ينفى الموقف المبدئى لدى كل الاحزاب السياسية وهو ان اى حوار سياسي يجب ان تسبقه متطلبات وشروط , مثل اشاعة الحريات واطلاق المعتقلين وما الى ذلك من بوادر حسن النوايا من قبل النظام. اذن خارطة الطريق هى مبنية على مبدا استمرار الحوار والتفاوض لحل الازمات السودانية. وكما يقول امبيكى ان النظام لاول مرة يوافق فعليا على ( الحل الشامل) ولكن فى اطار الحوار الوطنى (7) او بالشراكة مع الية الحوار الوطنى وهذا ما سنوضحه لاحقا. لكن ما يهم فى هذه النقطة ان الخارطة تؤكد مبدا الحوار وتضع ضمانات اساسية لتسريع العملية السياسية الى جانب التفاوض الامنى والعسكرى والانسانى .
2- مبدا وقف الحرب: نصت خارطة الطريق فى بندها الاول على ان يتم وقف اطلاق نار مؤقت يتبعه وقف اطلاق نار شامل بين الاطراف المتحاربة. وعليه فان الخارطة تضع وقف الحرب كاولوية, الامر الذى دفع البعض الى الدفاع عن الخارطة , و اولهم القوى الدولية من الاتحاد الاوروبى الى الولايات المتحدة والامم والمتحدة () . كما ان الوقف المؤقت سيستمر اثناء عملية التفاوض السياسى كشرط ايضا فى خارطة الطريق. يدعى امبيكى ايضا ان الحكومة فى خارطة الطريق قد اقرت تزامنا لمفاوضات وقف اطلاق النار الشامل والمشكلات الامنية تزامنا مع التفاوض السياسى وهذه نقطة ايضا سنفصلها لاحقا. من جانب الحركات المسلحة والقوى المعارضة , فان مبدا وقف الحرب هو المطلب الاساسى حسب جميع القوى المعارضة, ويتحدث الاغلبية عن انه الاولوية الاساسية لكافة القوى السياسية بما فيها الموالية للنظام. اذن هو مبدا اساسى متفق عليه, وامنت عليه خارطة الطريق. وهو المبدا الاساسى الذى يكاد يتفق عليه الجميع, وبالفعل اعلنت الحركات وقفا لاطلاق النار لاربعة اشهر واعلن النظام وقفا لمدة ستة اشهر فى الفترة الماضية ولا زال ساريا رغم بعض الخروقات. لكن الوقف الكلى والنهائى للحرب والانتقال الى عملية سياسية انتقالية نحو السلام هو اختصاص المسار السياسي من التفاوض وهنا تكمن معظم العقبات والتفاصيل الشيطانية.
3- مبدا اولوية حل الازمة الانسانى: مترافقا مع وقف الحرب تبقى الازمة الانسانية دافعا اساسيا لوقف الحرب وانهاء معاناة الملايين من المتاثرين بها فى اطراف السودان المختلفة. وكانت الدعوات مستمرة دوما من قبل الحركة الشعبية الى الدخول فى مفاوضات انسانية بطابع عاجل لانقاذ المدنيين (8), وتاجيل الحل السياسيى والعسكرى , لكن النظام كان متعنتا دوما فى مسالة فتح المسارات الانسانية واعطاء التصاريح للمنظمات الدولية. كما ان الخلاف كان ولا زال قائما حول مسالة المسار الى مناطق الحركة الشعبية من خارج او داخل السودان. لم تضع خارطة الطريق حلا للمسالة الانسانية , فقط اكدت على ان التفاوض سيجرى حولها متزامنا مع التفاوض لوقف اطلاق النار, ووضعته كاولوية تفاوضية, ولكن ايضا بشكل مفتوح دون اى خارطة زمنية محددة. اذن الازمة الانسانية كمبدا اساسى من مبادى الوصول لحل سياسيى فى السودان تظل معلقة وغير واضحة المعالم فى خارطة الطريق.
4- مبدا التحول الديمقراطى ( الحلول الجذرية): ان التحول من نظام اسلامى عسكرى الى نظام ديمقرطى هو مطلب المعارضة منذ قيام النظام الحالى. وهو فى الحقيقة حلم السودانيين الذى تعرض للتحطيم عبر ستين سنة من استقلاله عبر الانقلابات والحكومات “الديمقراطية الهشة” . والتحول الديمقراطى هو عملية تطرح فى ثناياها ما سمى لاحقا “ بالحل الشامل” . ولكن قبل الحل الشامل حملت الحركة الشعبية والقوى المسلحة فى دارفور مبدا البحث عن (الحلول الجذرية) , وذلك تجنبا للعودة للحرب مرة اخرى. وقد كانت الحركة الشعبية هى المدافع الاكبر عن فكرة الحل الجذرى منذ البدايات الاولى للمفاوضات فى اديس فى 2011, والهدف كان ايجاد حلول سياسية تضمن الخروج من الحلول والاتفاقيات الثنائية الى اطار يضمن انتهاءا لاسباب قيام الحرب. وذلك نابع من تجربة الحركة فى اتفاقية نيفاشا التى ادت لانفصال الجنوب . ولكن القصور فى حل جذور الازمة السودانية ادى لان تنفجر الحرب فى المنطقتين قبل انتهاء امد اتفاق نيفاشا. وكان الخلاف الاساسى فى طاولة التفاوض بين الحكومة والحركة ولاحقا بقية اطراف المعارضة , هو مدى شمولية او ثنائية التفاوض . وموقف الحكومة الرافض للتفاوض مع القوى السياسيى السلمية الموجوة داخل السودان , فى منابر خارج السودان من اجل الوصول لحل سياسيى شامل ادى الى انفضاض عدد من جلسات التفاوض, بسبب عدم الاتفاق على بنود التفاوض فى حد ذاته. جاء قرار الاتحاد الافريقى 456 ليعتمد الحل الشامل (9), ويمهد لوجود منابر متعددة للتفاوض فى اديس برعاية الالية الافريقية مع دخول حزب الامة فى صف المعارضة ( الخارجية) وتكوين نداء السودان (10) فى 2014. رفض النظام الحل الشامل كما ذكرنا انفا وما قامت به خارطة الطريق هو ان يقوم النظام بالموافقة على مفاوضات سياسية متوازية مع تلك العسكرية والانسانية , شاملة للحركات المسلحة وحزب الامة , اضافة لنداء السودان واعضاءه , ولكن سيمثل النظام فى المسار السياسى اليه الحوار 7+7. وهنا كان السبب الرئيس فى رفض المعارضة للخارطة. كما ان المقابل فى النهاية حسب الخارطة ان تنضم بقية الاحزاب فى نداء السودان للحوار الداخلى بعد التعديلات على مطالب ومنهجية الحوار , اضافة الى الحركات المسلحة بعد الاتفاق على الترتيبات الامنية. وبالتالى اعتبر الكثيرين ومنهم المعارضة فى رفضها لخارطة الطريق انها مجرد شرعنة لحوار النظام الداخلى وفرضه على المعارضة. وهذه هى حقيقة لا جدال حولها. لذا طلبت المعارضة تعديلات على الخارطة تضمن استمرار الحوار فى الخارج حتى الوصول لنقاط اتفاق تسمح بالانتقال للداخل. هذا ما قالت قوى المعارضة انها وصلت اليه فى ملتقاها الاخير فى باريس (11) والتزمت بضمانه الالية الافريقية.
5- مبدا اسقاط النظام: بعد انتهاء الفترة الانتقالية 2005-2011 بالتصويت على الانفصال توقع العديدون اضطراب الوضع السياسى فى السودان. ولكن بعد فترة من الهدوء النسبى فى الفترة الانتقالية , والمشاركة مع النظام لم يكن شعار اسقاط النظام على راس اجندة الاحزاب السياسية. رفع شعار ( اسقاط النظام) على ايدى شباب متاثرين بثورات الربيع العربى, وبدات بدعوات لاسقاط النظام بناءا على فساده وطول عمره , وفشله فى توحيد البلاد. وكانت الكثير من الاحزاب فى تردد من تبنى هذا الشعار فى بدايات 2011. لكن مع نهاية العام وتجدد القتال فى المنطقتين وزيادة وتيرة الحرب فى دارفور , اصبح شعار اسقاط النظام الذى بداه شباب ينتمى بعضهم لاحزاب وكثير منهم مستقلون , اصبح شعار اساسى للحراك السياسى فى الخمسة اعوام الماضية. وقد وصل الشعار ذروته فى هبة سبتمبر2013 التى قتل فيها العشرات فى مظاهرات سلمية. وبما ان الشارع لم ينتفض فعليا فى استجابة لدعوات الاحزاب او الشباب , وبسبب القمع العنيف لهبة سبتمبر , اصبح الشعار راتبا فى اجندة العمل المعارض , لكنه جند غير مفعل. وبالطبع ليست خارطة الطريق بمحل لنقاش اسقاط النظام. فالنظام لم ينهار او يتساقط حتى يجلس للتفاوض لشروط تسليم السلطة, وبالتالى فهو يفاوض على اشراك او عدم اشراك الاخرين معه فى السلطة التى لا يزال على راسها. اذن خارطة الطريق لا تمت لمبدا اسقاط النظام بصلة , بيد انها من المفترض ان تؤدى الى عملية سلمية يتم من خلالها اجراء تغييرات جوهرية على المشهد السياسى. لكن لن يكون اسقاط النظام من ضمنها , بل تعديله الى درجة تجعل اسقاطه غير ضرورى. لكن الى ذلك الحين تابى القوى المعارضة وخاصة قوى نداء السودان التخلى عن خيار اسقاط النظام “ كخطة بديلة “ فى حال فشل التفاوض او ما يصطلح عليه “ بالهبوط الناعم”. وهذا المبدا اصبح سببا رئيسيا فى انقسام حاد بين قوى المعارضة خاصة اليسارية منها ( الجزب الشيوعى, الناصرى , البعث, وغيرها), والتى رفضت بشكل قاطع اتجاه بعض قوى نداء السودان للتوقيع على خارطة الطريق, واعتبروا التوقيع على الخارطة هو اسقاط لمبدا ( الانتفاضة) واسقاط النظام. موقفهم من الخارطة فى عدم شمولها على مبدا اسقاط النظام هو حقيقى, فهى ليست موضعا له كما ذكرنا , وبالتالى لا معنى لرفض خارطة الطريق لانه ليس من شأنها فى الاساس (اسقاط النظام) , بل التحاور ( مع النظام) وفق اسس معينة يفترض ان تحقق المبادىء الاخرى المتفق عليها , وهى وقف الحرب اولا , وحل الازمة الانسانية, وايجاد تفاهمات حول الوضع السياسى. وفى ظل الوضع الضعيف للمعارضة بشكل عام والضغوط الممارسة عليها , ففن الممكن ( السياسة ) تتعامل مع الواقع وليس الامنيات. وفى ظل حرب مشتعلة ووضع انسانى كارثى , يجب التساؤل حول جدوى التمترس حول (شعارات) لا يمتلك رافعوها اليات لتنفيذها على ارض الواقع, خاصة وان كانت فى ايديهم فرصة خمسة سنوات لم يتم فيها انجاز تلك الشعارات.
خارطة الطريق : سلبياتها وايجابياتها
ان خارطة الطريق (12) لديها جوانب هامة تضعها موضع الاهمية فى اتجاه تحقيق بعض المبادىء المذكورة اعلاه, وهناك نقاط تجعلها مثار خلاف وجدل وشكوك. تتلخص اهم ما تقدمه خارطة الطريق من سلبيات وايجابيات فى ثلاثة مسارات اساسية للخارطة كالاتى:
1- المسار الانسانى ووقف الحرب: تحدد الخارطة حسب البند الاول وقف اطلاق النار الجزئى والذى بعد التفاوض المباشر سيؤدى لوقف شامل لاطلاق النار . سيتم الاتفاق على فتح المسارات الانسانية فى ذات الوقت اى ستكون هنالك مفاوضات متزامنة حول كل القضايا فى نفس الوقت وهذا يعد جانبا ايجيابيا للخارطة. والتزامن يعد تنازلا من الحكومة عن شروطها السابقة التى كانت تفرض ان توقف الحركة الشعبية تحديدا الحرب وتسلم سلاحها ومن بعدها يتم الاتفاق على المسارات الانسانية والسياسية, ولكن ما سيتم الان هو ان تحتفظ الحركة بسلاحها ويتم التفاوض فى ظل الوقف الموقت لاطلاق النار للوصول لاتفاق امنى وانسانى وعسكرى وربما سياسى بشكل متوازى. السلبية الاساسية فى الخارطة ان الوضع الانسانى لم يعطى اولوية خاص بوضع خارطة زمنية مصاحبة , حيث ان التفاوض الامنى والعسكرى قد ياخذ فترة طويلة , لكن يجب ان يكون الاتفاق على الترتيبات الانسانية عاجلا , لذا هناك ثغرة كبيرة فيما يخص الاطار الزمنى للخارطة ككل وفيما يخص الوضع الانسانى بشكل خاص.
2- المسار السياسى: تعد الموافقة من قبل الحكومة على اجراء التفاوض السياسى عبر الالية متزامنا كما ذكرنا مع المسارات العسكرية والانسانية اختراقا هاما فى الخارطة. لكن لايزال التحفظ الذى ابرزته المعارضة هو ان التفاوض سيتم فى الجانب السياسى مع الية الحوار 7+7. الامر الذى يضع مخرجات التفاوض فى موضع لا يلزم النظام بمخرجاته, وهذا ما حاولت الحكومة تمريره حتى لا تبدو وكانها تنازلت عن موقفها الرافض للتفاوض على حلول سياسية خارج السودان. فالحكومة تولى اليه الحوار التفاوض بالنيابة عنها, كما ان النظام يحاول ايضا التهرب من مسالة المؤتمر التحضيرى فى الخارج والذى طالبت به المعارضة واقره القرار رقم 456, عبر حيلة الحوار بين المعارضة والية الحوار فقط. وهذه هى بالتحديد نقطة خلاف اساسية بالنسبة للمعارضة. وهى نقطة مهمة, لان اى تفاوض دون التزام للنظام بنتائجه لا جدوى منه. وعليه فان المعارضة طالبت بوجود الحكومة والتفاوض معها مباشرة اضافة لالية الحوار. النقطة الثانية هنا هى مسالة الاعتراف بالحوار الداخلى حسب البند32, والبند 3 واللذان ينصان على ان تعترف الاطراف المعارضة بالحوار الداخلى , بان تكون القضايا القومية السياسية التى سيتم نقاشها فى الاطار المرتبط بالحوار الداخلى. ان الاعتراف فى حد ذاته رفضته المعارضة , واشترطت احداث تغييرات هامة فى عمل الحوار الداخلى , لكن عمليا فالمعارضة ملزمة بالاعتراف بالحوار الداخلى لانها فعليا التقت باليه 7+7 عدة مرات, كما انها بتوقيعها على الخارطة تعترف بالحوار ايضا. الخارطة تورد ان الاعتراف يشمل التحفظ على الحوار الداخلى باعتباره غير شامل حسب البد13 , ولكن هذا لا يشمل جميع تحفظات المعارضة. فى المجمل فان المسار السياسى هو الاكثر تعقيدا , والخارطة تحاول الدمج بين الحوار الداخلى والخارجى, على امل ان ينتهى الامر الى المؤتمر الدستورى الشامل الذى يجب ان يحدد شكل النظام السياسى القادم للسودان حسب البند 14. اذا تم الاخذ بتحفظات المعارضة حول الية الحوار 7+7, سيبدو ان الالية الافريقية قد نجحت فى مساعيها, ولكن سيظل السؤال حول كيفية تحقيق هذا الدمج عمليا فى اجراءات التفاوض وكيفية تنفيذ المخرجات.
3- المسار الزمنى: ان العيب الرئيس الاضافى فى خارطة الطريق انها خارطة مفتوحة زمنيا . فالخارطة فى بندها الخامس تنص على ان يتم التفاوض على الجداول الزمنية التى تلزم الاطراف بتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه, لكن هذا البند بهذا الشكل المفتوح يعد نقصا اساسيا فى مدى قدرة الخارطة فعليا على تحقيق تقدم على الارض. الامر المقلق هو انعدام وجو اطار زمنى فى القضية الاكثر الحاحا وهى الوضع الانسانى, بل وحتى وقف اطلاق النار تم الان بمبادرة غير ملزمة بفترة زمنية محددة وهذا يهدده بالانهيار فى اى وقت. وبالتالى فان نقطة انعدام الاطار الزمنى لتنفيذ الخارطة نفسها هو مهدد اساسى لقدرتها على الوصول الى غايتها فى الخروج بالسودان من ازمته.
التغيير السياسى بين الواقع والمتطلبات:
فى ظل الراهن السياسى وما سينبنى على التوقيع على خارطة الطريق, وما قد يتمخض عنها من تحولات فى المشهد السياسى سواءا فى موازين القوى السياسية والتحالفات , او فى الواقع المعاش بالنسبة للمواطنين السودانين , يبدو ان هناك مساحة رمادية متسعة بين ما يمكن تسميته بالواقع الممكن والمتطلبات التى نراها ضرورية لاحداث تغيير حقيقي فى المشهد السياسى فى البلاد. يخشى المتحفظون على خارطة الطريق ومسالة الحوار ككل خارجيا او داخليا يخشون من اطالة عمر النظام, لكن لا يبدو انه هناك اى خطة حقيقية تجرى حاليا لتقصير عمر النظام فى المقابل. والمعروف ان السياسة فى النهاية ما هى الا فن الممكن. وكما ذكرنا فى البداية حول اسباب الضغط على المعارضة, فان ضعف القوى السياسية يشكل عائقا اساسيا امام اى عمل حقيقى لتحقيق ( مبدا اسقاط النظام). ان الثورة الشعبية هى دوما احتمال قائم , و امكانية حدوثها اصبحت لا تعتمد على القوى السياسية , بقدر ما تعتمد على الارداة الشعبية. وارادة الشعب السودانى للاسف تبدو غير موحدة حول مسالة اسقاط النظام ومضطربة, لكن هذا طبيعى نظرا للقيادات والنخب التى لم تستطيع ان تقدم رؤية واضحة للشعب. اذن الواقع والمطلوبات يبدوان فى تباعد مستمر, فهل ستقوم الاحداث القادمة بالتقريب بينهما , هذا ما سنحاول ايجاد مقاربة له من خلال ثلاثة مسائل اساسية هى فى عمق التركيب المعقد للواقع السياسي السودانى. المسائل هى :
1- مسالة الحرب والسلام: ان الحرب فى السودان ليست بامر جديد وهى اكبر مؤشر على مدى عمق الازمة السياسية فى البلاد منذ استقلالها. فى المقابل فان اسباب وجذور الحرب لم تتم معالجتها ابدا على الرغم من تجربة نيفاشا والتى انتهت على عكس ما تمنى البعض. و اثبتت التجربة ان السودان غير قابل للتغيير الجذرى بسهولة ولا يقبل النظام السياسى والاجتماعى والاقتصادى الموروث منذ نشوء الدولة الحديثة تغييرات عميقة وبنيوية. وعليه فان ما راهن عليه القليلون جدا من احتمال وحدة السودان تناثر فى الهواء مع انفصال الجنوب. ومع سقوط بقية بنود نيفاشا وبداية الحرب فى المنطقتين, عادت الحرب لتتسيد المشهد فى دلالة وتاكيد على مدى الشرخ فى تركيبة الدولة والمجتمع السودانى . والخلفية الاساسية للازمة السودانية ليست فقط سياسية , فالجانب المتعلق بالسياسة والدولة هو تمظهر لما يعترى السودان من خلل اجتماعى , اقتصادى وبنيوى هيكلى. فالدولة مبنية على تمييز ضد مجموعات مع امتيازات مؤسسية تتمتع بها مجموعات اخرى. وهذا التناقض الهيكلى البنيوى فى الدولة ضحد صفة المواطنية المتساوية التى تشترطها الدولة الديمقراطية الحديثة. وعلى هذا الاساس تتراكم اسس التهميش والاستبعاد , مع خلفية تاريخية مفخخة بمشكلات معقدة مثل العبودية و الاستغلال الاقتصادى , اضافة الى الازمات البنيوية الاخرى المرتبطة بحقيقة التنوع الاثنى والثقافى والدينى . اذن متطلبات الخروج من حالة التازم المزمنة للواقع السوداني تتطلب ان تتوقف الحرب وياتى السلام , ولكن على اسس بعيدة تماما عن التسويات السياسية السطحية التى يتبادلها المتفاوضون فى الغرف المغلقة. ان الانتقال من واقع الحرب الى السلام يتطلب ثلاث متطلبات اساسية:
ا الاعتراف باالمشكل الهيكلى فى بناء الدولة , والمتعلق بالتمييز ضد فئات من الشعب , فى مقابل الامتيازات التى تتمتع بها فئات اخرى. وخطوط الامتيازات والتمييز تشكل انعكاسا للازمة التاريخية التى تتجلى فى اشكال اجتماعية واقتصادية وايضا سياسية وهذا هو الامر الاخطر. اذ ان خطوط التمييز والامتياز هى خطوط عرقية, دينية , ثقافية , ولغوية, وهى بالتالى تندرج تحت التمايز العنصرى , وهى تسد الطريق امام المساواة فى المواطنة. عليه يجب ان تكون اهم المطالب هو” الاعتراف” بالمشكلة على حقيقتها حتى تتطرح فى مفاوضات سياسية او مصالحات اجتماعية حلولا حقيقية, تؤدى الى تغييرات مباشرة فى الواقع . هذا هو المتطلب او الشرط الاول والاساسى لسد الفجوة بين الواقع والمطلوبات للانتقال من الحرب الى السلام ( المستدام).
ب الاستعداد لتقديم التنازلات اللازمة من اجل تحقيق المواطنة المتساوية التى تعنى اعادة ترسيم خطوط التمايز والتمييز بين المواطنين السودانيين, حتى تنبنى على اسس الدولة الحديثة والدمقراطية. يجب ان تكون الخطوط الجديدة شاملة للاعتراف بحقيقة ما جرى من ( تمييز) وانه قدسبب خسائر لكل السودان اولها الحروب واثاراها, وايضا الاعتراف بان ( الامتيازات) ضمنت امكانيات اكبر للترقى الاجتماعى والاقتصادى والسياسى لمجموعات على حساب اخرى. ولذلك لا بد من تنازلات تؤدى الى مساواة فى الفرص لجميع المواطنين دون تمييز او امتيازات.
ج العدالة والمصالحة: الحروب المتكررة والجرائم الموثقة التى جرت خلال العقود الماضية وليس فقط خلال فترة الانقاذ خلفت شروخا اجتماعية وخسائر اقتصادية ضخمة لمناطق الحرب وسكانها وللسودانيين بشكل عام. عليه فان العدالة هى هى سبيل مؤكد لضمان تحقيق السلام الاجتماعى, كما ان المصالحة هى الطريق لضمان استمرارية السلام. والعدالة كمطلب اساسى سواءا عن طريق اليات دولية ( المحكمة الجنائية الدولية) او اليات محلية ( لجان العدالة والمصالحة) هى مدخل اساسى ومطلب رئيس من اجل تغيير الواقع من حالة الاحتراب نحو سلام وتعايش حقيقى. لذا تجاوز مسالة العدالة فى اى تفاوض او تسوية يعد قنبلة موقوتة تهدد اى اتفاق وتجعله هشا فى قدرته على تحقيق سلام اجتماعى دائم.
2- مسالة التحول الديمقراطى والتغيير: ان التحول السياسى فى السودان نحو نظام ديمقراطى حقيقى يشمل داخله تحديات اساسية شملت النقطةالسابقة اجزاء منها . من ضمنها التنوع البنيوى للسودان الذى يتطلب رؤية مبدعة وخلاقة لايجاد التركيبة السياسية المناسبة التى تحترم حقوق الجميع وتضمن لهم المشاركة فى حكم البلاد وتنميتها. على اسس الديمقراطية الغربية فان الاغلبيية هى التى تحكم , وفى ظل التنوع السياسى والثقافى والاثنى فربما تريبات اكثر حساسية لطبيعة التنوع يجب تحل محل ديمقراطية الاغلبية, سواء على مستوى الحكم والدولة او على مستوى الدساتير والتشريعات والقوانين الحاكمة. ولذلك فان مسالة ادارة الدولة والحكم لا تنفصل عن الرؤية السياسية للقوى المتصدرة للعمل السياسي للبلاد.ولذلك هناك ثلاثة محاور اساسية تحكم عملية الانتقال الى التغيير السياسى والتحول الديمقراطى فى السودان على ارض الواقع وهنالك متطلبات هامة تضمن عملية الانتقال تلك وهى :
ا حسم الجدل حول مدنية اودينية الدولة : ان مسائل الصراع الاساسى حول دينية او مدنية الدولة التى استهلكت قدرا عظيما من تاريخ السودان الحديث, لابد من وضع حد لها بشكل نهائى فى اى ترتيبات سياسية قادمة, حتى نخرج من نفق احتمالات النكوص مرة اخرى فى براثن دولة دينية احادية التوجه. والخروج من هذه الدائرة لا ياتى فقط بنصوص دستورية, بل عبر خلق ثقافة وتربية سياسية جديدة مبنية على رؤية وطنية تعددية تعترف بالتنوع وتحترمه . والاحترام هنا يعنى العمل على الحفاظ على التنوع الثقافى والاثنى والسياسى كثروة , ووسيلة للتنمية والتميز فى عصر معولم ومضطرب بدلا عن سياسة ( الانصهار فى بوتقة واحدة). كما ان مسالة الهوية الشائكة فى الذهن السياسى السودانى لا يجب ان تكون محدد للنقاش السياسى, اذ ان هوية المجتمع هى عملية مستمرة التشكيل , اما هوية الدولة فهى ليست محل نقاش . فالدولة لا يجب ان تكون سوى الية تمثل جميع المواطنين بالتساوى وتقوم على خدمة مصالحهم المشتركة فى الداخل والخارج. وعليه فان الواقع الراهن الذى تحكمه دولة احادية التوجه منذ الاستقلال لا يمكن ان يتغير دون حسم مسالة مدنيةدينية الدولة وبناءها على اسس خدمة المواطن دون تمييز.
ب تغييرالعلاقة بين الدولة و المؤسسة العسكرية: لقد حكم العسكر السودان فى معظم تاريخه الحديث بعد الاستقلال , ودائرة الانقلابات الشريرة اقعدت السودان عن النهضة والنمو. ولا زال نظام عسكرى اسلاموى يحكم البلاد منذ ثلث قرن. ناهيك عن الحقيقة المرة حول المؤسسة العسكرية السودانية التى ارتكبت جرائم ضد المواطنين الذين يجب ان تحميهم فى معظم مناطق السودان ولا زالت تقوم بتلك الجرائم التى وصلت الى حد الابادة الجماعية. اذن دور المؤسسة العسكرية فى السودان يجب ان يتم اعادة رسمه لكى يحجم تماما كما حدث فى دول مثل اليابان والمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. فيجب ان يكون العسكر هم حماة لحدود الوطن و وليس لهم اى علاقة بالسياسة, ولائهم لعلم البلاد ودستورها وشعبها وليس لاى قيادة سياسية. وهذه عملية صعبة لكنها ليست مستحيلة فى ظل انهيار المؤسسة العسكرية تحت الضغوط لتى تمر بها , اذ انها تخوض حربا ضد شعبها لاكثر من ستين عاما بلا توقف. كما ان الميزانية العسكرية والامنية التى تاكل 70-80% من ميزانية الدولة , شكلت السبب الرئيس فى افقار السودانيين. لذا فان المؤسسة العسكرية يجب ان تعاد هيكلتها وبناء عقيدتها من جديد على اسس عسكرية وطنية . وهذا التغيير فى العلاقة بين العسكر والدولة السودانية يجب ان يكون جزءا رئيسيا فى الدستور القادم كما ان اى اتفاقية سلام يجب ان تنظم وتبدا هذه العملية , خاصة مع خطورة الوضع الخاص بوجود جيوش متعددة للحركات المسلحة. اذن التحول نحو دولة مدنية بمعنى انها ليست محكومة بالعسكر , هو تحول اساسى ودقيق يجب الانتقال فيه بعناية لكى يحرم استخدام الجيش للقوة ضد شعبه, وضمان بعده التام عن السياسة. فى خارطة الطريق المرتقبة تشكل الترتيبات الامنية جزءا هاما من المفاوضات, ورغم دعوات المعارضة لاعادة هيكلة المؤسسة العسكرية, لكن لا تبدو بوضوح ما اذا كانت هنالك خطة لتحقيق ذلك لدى المعارضة. كم ان الجيش يسيطرفعليا على البلاد الان وبالتالى فان اى اتفاق يجب ان يشمل التزاما شاملا من المؤسسة العسكرية نفسها بالمشاركة فى عملية اعادة الهيكلة . وهذا امر يحتاج لارادة قوية من القوى السياسية المعارضة , ولكن هذا احد الضمانات الاساسية لاستقرار ووحدة البلاد.
ج بناء الدستور: لم يتمتع السودان منذ استقلاله بدستور دائم يحكم البلاد, وهذا من اهم مؤشرات انعدام الاستقرار وعدم القدرة على حسم رؤية ووجهة الدولة. ولذلك فان ما تتم المطالبه به من مؤتمر دستورى وهو الذى اقرت خارطة الطريق انه سيكون احد مخرجات الحوار الداخلىالخارجى فى نهاية المطاف هو نقطة شديدة الاهمية. والدولة التى لا يحكمها دستور هى دولة تحكمها الاهواء والامزجة المتقلبة لمن يتولى السلطة. وهذا ما حدث بالظبط فى السودان طوال تاريخه الحديث. والدستور هنا لا يمثل فقط مجموعة القوانين التى تحكم الدولة والشعب , بل هو روح الارادة السياسية والسيادية الموحدة للشعب , تلك الروح التى تقود الدولة الى الغايات التى يريدها الشعب ويقررها. وفى دولة متنوعة التكوين مثل السودان من المهم ان يكون الدستور هو الفيصل وهو الجامع ايضا لتطلعات وطموحات ومطالب وحقوق وواجبات كل المواطنين على اختلافهم وتنوعهم الاثنى والثقافى والسياسى والدينى. لذلك فان بناء الدستور يجب ان يكون عملية ديمقراطية حقيقية , تنفتح فيها ابواب الجدال والحوار البناء بحيث تحفظ الحقوق. وفى ظل وعى شعبى وانفتاح على وسائل متعددة من التكنولوجيا فمن الممكن ان تتاح مشاركة واسعة للمواطنين السودانيين فى تشكيل دستورهم. فلم نعد فى عصر ( الاباء المؤسسين ) والوصاية, فالشعب السودانى وبسبب كل ما مر به من ماسى ومشكلات , هو الاكثر قدرة على تحديد مصالحه ومعالم مستقبله. ولذلك فان المشاركة الواسعة فى بناء الدستور السودانى ستكون هى الضامن الاساسى لمستقبل البلاد, وانهاءا لعصر الوصاية واتخاذ القرار نيابة عن الشعب من قبل النخب التى تدعى معرفة الغيب. وبالتالى فان المؤتمر الدستورى الذى يفترض انعقاده, هو خطوة من ضمن خطوات اخرى لضمان صناعة دستور دائم للسودان يخرجنا من واقع امزجة السلطة فى الحكم, الى دولة دستورية , تقدس دستورها وتحترمه . ولذا فان المشاركة الواسعة والديمقراطية فى بناء دستور السودان وليس فقط مجرد اقامة مؤتمر للنخبة السياسية للبلاد والاحزاب هو احد المتطلبات الاساسية للتحول الديمقراطى والتغيير فى السودان.
3- مسالة التنمية المتساوية المستدامة: ظل لفظ التهميش مرتبطا بالمعنى الاقتصادى لفترة طويلة , ومظلة التهميش الاقتصادى فى السودانى تتجاوز المهمشين فى مناطق الحرب الى من يعيشون على هامش دائرة الاقتصاد فى السودان والذين يكادون يكونون معظم الشعب. اذن التهميش الاقتصادى فى السودان هو ازمة دولة وتخطيط ورؤية وبالتاكيد ازمة توزيع عادل للانتاج القومى. فالعدالة الالهية جعلت السودان يحظى بتوزيع عادل للغاية للموارد الطبيعية والثروات المختلفة سواءا معدنية , زراعية او حيوانية. فيكاد لا يخلو ركن فى السودان القديم قبل الانفصال او السودان ( الجديد) بعد الانفصال من موارد قابلة للاستغلال . هذا مع تنوع يحسدنا عليه الكثير ويطمع فيه الجميع من ناحية خصوبة الارض وتوافر المياه وسواه. وفى ظل عودة العالم الى الطبيعة والبعد عن التصنيع فى المجال الغذائى , يمكن ان يكون السودان هو مخزن حقيقى للثروة فى كل شبر منه. وهذا ما ادركه الكثيرون على راسهم الخليجيون الذين اصبحوا اشد حرصا على السودان من اى وقت مضى. وهناك متطلبات اساسية لضمان التنمية المستدامة المتساوية:
ا عدم تجاوز البشر والثقافات المحلية: التنمية الاقتصادية يجب ان لا تتجاوز المكون البشرى والثقافة المحلية والشعوب الاصيلة صاحبة الحق الاساسى فى التنمية لمواردها التى فى اراضيها. لذلك فان التنمية المتساوية تعنى بالضرورة تمكين اصحاب الموارد من مواردهم وتنمية قدراتهم المحلية ليتمكنوا من استغلال تلك الموارد بمساعدة ودعم من الدولة المركزية.
ب بناء قدرات السكان المحليين: تنبع الاستدامة من بناء القدرات البشرية “ المحلية” لاصحاب الموارد انفسهم حتى يتمكنوا من تطوير مناطقهم برؤية تتفق مع ما يحملون من خبرات حول ارضهم ومواردها. فاستجلاب برامج ووصفات التنمية الجاهزة لن يؤدى سوى الى كوارث , كما ان الاستغلال الجائر الذى لا يحترم الاستدامة سيؤدى لكوارث طبيبعية مدمرة مثلما تشهده دول عديدة تعرت غاباتها واستهلكت تربتها ونفدت مواردها العصية على التجدد. اذن السودان لديه فرص ذهبية فى مجال التنمية لكن , يجب الاستفادة من الدرس وعدم تركيز التنمية فى مناطق معينة دون سواها , وتمكين اصحاب الارض من مواردهم وتنمية قدراتهم كمواطنين اصليين كل فى منطقته وكل فى مجاله , ليقوموا بتنمية محلية مستدامة ومتساوية . وعليه فان اى مفاوضات تعمل على تقسيم الثروة , هى مفاوضات لا تعى تحديات الواقع ومتطلبات تغييره.
ج اعادة اعمار مناطق الحرب: لا تشمل خارطة الطريق الكثير عن موضوع التنمية , ولكن اعادة اعمار مناطق الحرب , يجب ان يكون اولوية اساسية لاى اجندة تفاوضية او تسوية قادمة. ويجب ضمان ان يتم ذلك فى ظل تنمية متساوية تعين المناطق التى دمرتها الحرب على النهوض , وتمكن المواطنين المحليين من استعادة قدراتهم الانتاجية واعادة الارض والممتلكات لاصحابها. هذا اضافة لضمان بنود اساسية تضمن حقوق الشعوب الاصيلة فى استغلال وادارة مواردها على اراضيها, حتى نخرج من واقع التهميش الى التنمية المستدامة العادلة.
الى اين الطريق؟
ان الجدل حول خارطة الطريق فى حد ذاتها ليس باهمية الجدال حول ما يجب ان تصل اليه خارطة الطريق. فهى ليست سوى مخطط تنظيمى لعملية التفاوض . ويبقى التساؤل الجوهرى حول مدى استعداد وقدرة المتفاوضين على فرض اجندة وطنية حقيقية تحقق انتقال واضح من الواقع الراهن الى واقع يلبى تطلعات الشعب السودانى المقهور اجمالا, وخاصة الشعوب فى مناطق الحروب. والاتهامات المتبادلة والنقاش الكثيف حول التوقيع وعدم التوقيع على الخارطة , يجب ان يدور فى الحقيقة حول الاسباب التى ادت الى ضعف المعارضة وعدم قدرتها على وضع النظام فى موقف اضعف مما هو عليه الان, حتى تتمكن المعارضة من التفاوض معه من موقف تفاوضى اكثر قوة مما عليه الوضع الان. والمسؤولية تقع على عاتق جميع المفاوضين من قوى المعارضة , سواء الممثلة لمناطق الحرب او التى تمثل المناطق الاخرى, فهذه هى ربما الفرصة الاخيرة للوصول فعليا الى حل سياسى قد يخرج البلاد من ازمتها, ويوقف الحرب الجارية منذ ما يكفى من الزمن لضياع مستقبل اجيال كاملة من الشباب والاطفال فى مناطق الحروب والنازحين خارجها. وهذه المسؤولية تعنى ان التفاوض يجب ان يكون مبنيا على رؤية واضحة للواقع الراهن ولكن ايضا ان ينبنى على رؤية اكثر وضوحا للمستقبل, وللمطلوبات الاساسية التى اشرنا الى بعضها اعلاه لانهاء الحرب والتحول الى دولة المواطنة. فالالاف من السوادانيين فى مناطق الحرب وخارجها يحتاجون الى التقاط انفاسهم والعيش حياة طبيعية, ولكن يجب ان تكون حقوقهم فى الحياة الطبيعية مضمونة ومثبتة بضمانات تؤكد عدم عودة الحرب مجددا. ان هذه المسؤولية يجب ان تكون محل النقاش الان , فالتفاوض هو مبدا اساسى والوقت ليس فى صالح احد, وخاصة المعارضة التى بدات فى التفكك فى ذاتها , فيجب التحرك فى ظل هذا التوحد الراهن للوصول الى اقصى نقطة ممكنة من المكاسب لصالح الشعب الصابر. ان انهيار الوضع فى السودان ليس ببعيد والتحديات فيما بعد خارطة الطريق وايضا ما بعد اى اتفاق يمكن التوصل اليه , هى اكبر مما يبدو ان الجميع على استعداد لها. فنهايات الطريق الذى ترسمه الخارطة لن تكون مضمونة الا بقدر الاستعدادت لمواجهة التحديات على الطريق واثبات قدرة المعارضة على الحرص على التزامها الاساسى تجاه امال الشعب السودانى الذى هى الممثل الاساسى لمصالحه فى الوقت الراهن.
1- ( خارطة طريق لـ (تشاوري أديس أبابا) بتوقيع الحكومة ورفض المعارضة, سودان تريبيون , 12 مارس, 2016,
http://www.sudantribune.net/%D8%AE%D…84%D9%80,13719
2- ضغوط دولية قاسية على المعارضة للتوقيع على خارطة الطريق, التغيير الالكترونية , 19 يونيو , 2016.
https://www.altaghyeer.info/2016/06/…2%D9%8A%D8%B9/
3- مجموعة الازمات الدولية تطالب مجلس الامن باعتماد الحل الشامل , سودانايل, 22ديسمبر , 2012.
http://www.sudanile.com/index.php?op…d=42&Itemid=60
4- البشير يعلن الوثبة ويجتمع بالقوى السياسية , الراكوبة, مارس 2014.
http://www.alrakoba.net/news-action-show-id-142406.htm
5- البشير الى اديس لحضور قمة ايقاد حول جنوب السودان, سودان تريبيون, 5 اغسطس, 2016.
http://www.sudantribune.net/%D8%A7%D…84%D9%89,14836
6- الجنائية تحفظ ملف دارفور لغياب دعم مجلس الامن, العربية , 13 ديسمبر, 2014.
http://www.alarabiya.net/ar/arab-and…%85%D9%86.html
7- الازمة السودانية وخارطة الطريق بلاوجهة, خالد التجانى النور, سودان تريبيون, 3 اغسطس, 2016.
http://www.sudantribune.net/%D8%A7%D…9-%D9%88,14808
8- الحركة الشعبية تبدى استعدادها للجلوس مع الحكومة حول الوضع الانسانى, التغيير الالكترونية, يوليو 2016.
https://www.altaghyeer.info/2016/07/…4%D9%88%D8%B3
9- نص قرار مجلس الامن الافريقى 456, راديو دبنقا, اغسطس 2016.
https://www.dabangasudan.org/ar/all-…AF%D8%A7%D9%86
10 – التوقيع على نداء السودان, الجزيرة نت, ديسمبر 2014.
http://www.aljazeera.net/news/arabic…B8%D8%A7%D9%85
11- وى نداء السودان تدافع عن قبولها توقيع خارطة الطريق, القدس العربى, اغسطس 2016.
http://www.alquds.co.uk/?p=571437
12- انظر نص خارطة الطريق الموقعة بين الحكومة وامبيكى فى صفحة الالية الافريقية على الفيسبوك, 21 مارس , 2016.
https://www.facebook.com/AUpanel/pho…type=3&theater
[email protected]