د. الهادي عبدالله أبوضفآئر
(كل عام وانتم بألف خير)
المحاولات المتكررة لزرع بذور الشتات وتزييف مسيرة الثورة، لم تكن سوي توليفة هزيلة، ودعوة عقوق لا يقل عن عقوق الوالدين، فحصرها على فئة الشباب، توصيف مخل وتشويه متعمد وممارسة للتمييز بين فئات العمر، بل تعد انخراط في السُكُر المفاهيمي وحاناته، فالثورة تراكم نِضال مستمر، كل الذين تقدموا في العمر دفعوا ثمناً باهظاً من اجل التغيير، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.
التغيير قيمة عليا، فالتنكُر للصيرورة التاريخية، يسوقُ المجتمع إلى حالة من الجمود، تصعب معها رفع حالة الطوارئ من العقول، الإصلاح يبدأ بالاعتراف بالمتغيّرات، لان تدرج الإنسان في التصور يرتقي شيئاً شيئاً نحو الكمالات. للثورة اسباب منطقية، ساهمت في التغيير ، لكن بالرغم من التأييد الذي وجدها، لم تُحدث تحول في الواقع، نتيجة لمحدودية الرؤية وانسداد الافق، واستصحاب صراعات الأيدلوجيا وحرف الثورة عن شعاراتها واستحقاقاتها الأصلية، مما سمح بظهور الأرضية الخصبة والمساحه الكافية، لنمو الشجرة الملعونه (الزواحف)، ودخولهم الحلبة من جديد، فالثورة اضحت في ايدي لم يكن على قدر طموح الثوار. فمعظم قادة النظام الحالي منشغلين بتغيير مطالب الثورة لِتُلائم طموحاتهم، فأنتجوا نظام لم يكن اقل سوءاً من النظام البائد، حيث الاصطفاف خلف الايدلوجية، واستدعاء نهج الجهوية مما افقدها المناعة، واظهرت أسوأ ما لديها.
إدارة الدولة امست من الإشكاليات الأساسية، لانها تأسست على استهبال سياسي، وممارسات خاطئة مما يذكر الثوار بجلاديهم، أصبحت مفردة مدنية تساوي الخروج من الملة، فهل بوصول احدى الجماعات التى تنادي بالدولة الاسلامية إلى سدة الحكم سيؤدي ذلك إلى إصلاح في الاقتصاد والسياسية والثقافة ومعالجة التخلف والرجعية؟ ام ستزداد الامر سوءاً. حيث تُعد الفصل بين مؤسسات الدولة بمثابة قطع الحبل السري بين المولود والام، على الرغم من أنها عملية مؤلمة، لكن من خلالها يولد الأمل ويتحرر المولود من ضيق الرحم، الذي احتضنه نطفة، فمُضْغَةً، فعِظَاماً، حتى يصبح قادراً على أن يضرب بقدميه فضآء الدنيا، ليبرز تجربة جديدة جذرها الاساسي كرامة الإنسان.
ليست المسألة إدانة للإشخاص الذين يحملون الفكر الاسلامي، بقدر ما هي محاولة لفهم النص القرآني المُتُحرك وفق الزمان والمكان، يغترفُ منه كل جيل حسب الخارطة الذهنية لديه وادواته الخاصة، لكن اسه ثابت، وهي الكرامة الوجودية للإنسان تحت مظلة لكل نبيٍ جعلنا شرعةً ومنهاجا، ولكنهم ينتمون إلى قيمة واحدة الا وهي التوحيد. دراسة تجارب التيارات الاسلامية كما هي موجودة على الارض، ابتداءاً من داعش، بوكو حرام، طلبان، والكيزان ضرورة للمراجعة العميقة والإصلاح، فهل تلك التجارب حاولت بناء دولة حديثة تسِع الجميع، ام إنها تحمل في بنيتها بذور تخلف ورجعية تمنع الإنجاز. فالوصول لسدة الحكم لا يعني بالضرورة حل الإشكاليات، ما لم تطرح الاجابات الشافية للاسئلة الكبرى المتعلقة بقضية الدولة، ونظام الحكم، العلاقات الداخلية والخارجية، الاقتصاد والقانون والسياسية وكرامة الانسان،
الأفكار التى نتحرك بها غير صالحة للعبور في هذا العصر، مشكلتنا الاساسية ليست مع منتجات الفكر، بل مع العقل اصلاً لاننا لم نعترف به كمحرك لصناعة الفعل والقرار، معظم قراراتنا مبنية على حدوث معجزة، تملأ الارض عدلاً وقسطاً بعد أن ملئت جوراً وظلماً، وينطق الحجر والشجر يا مسلم خلفي يهودي فأقتله. دوماً ننتظر غيباً خارج نسق قوانين الكون، ليُحدث تحول في المسار، دون أن نعمل صالحاً، نتعمد أن لا نرى الأشياء بصورة واقعية، بل بصورة حالمة حيناً ومتواطئة أحيانا، بينما نمط التفكير في الاقتصاد، القانون، التاريخ، السياسة والنظر الي الكون، عبارة عن عناصر متشابكة لا يمكن ان يتجزأ، الفشل في اي عنصر يعني فشل المنظومة بأكملها. فالخرافة تسكن دوماً في منظومتنا الفكرية، بينما استعادة حيوية المجتمع ليست في تغيير نظام، إنما في القدرة على تغيير نظام الافكار، كثيراً ما نتحدث حول الاعراض ولم نغوص في الاعماق، لترتيب القضايا الأساسية.
ما يُحدث الآن من سفكٍ للدماء ليس نشازاً للتاريخ، فإزالة التناقض البيِن في نظم الأفكار بين واقعنا المتمثل في الحرب والقتل والتشريد والنزوح، وبين فكرة الرسالة كرحمة للعالمين لا للمنتسبين له فقط. السؤال الجوهري، هل الدين جاء لنبذ التعصب الجهوي والعرقي والجغرافي، ام جاء لتفعيله حتى لا يصبح جزء من الإشكال تُبني الحواجز بين البشر. الدين يكمن في تفكيك خطاب العنف، لصالح خطاب الرحمة، وتأخير الرأي الذي لا يري في الاسلام الا سيف مسلول لقطع الرقاب.
جدلية الإنسان في هذا الكون لا يخلو من الفساد وسفك الدماء، ولكن بأعتباره كائن قابل للتعلم بقصد تحقيق مراد الله، فكلما ارتقى في سلم التعليم كلما اقترب من الانسانية وامتنع عن الفساد وسفك الدماء كمشروع حلم يقدمه للإنسانية اجمع، بأعتباره العتبة الاولى لصنع آله الرحمة والمودة بين الموجودات، شحن الانسان بالرحمة مشروع رباني، لتحقيق مبدأ العدل والمساواة، لإكتمال الوعي بدين الله، تجسده، قصة سيدنا موسى عليه السلام اذهب إلى فرعون انه طغى، الهدف المرتجى استنقاذ البشرية من الطغيان واعطاء فرصة للحرية والاختيار كجزء اساسي من مشروع الدين وبعثة الانبياء. ايضاً ارسال يوسف عليه السلام ليُصلح اقتصاد قوم لم يؤمنوا بالله، نجد فيه البعد العميق لكرامة الإنسان وتصور نبيل لحل مشكلة الاقتصاد. قصة سيدنا شعيب لاصلاح الكيل والميزان، قصة سيدنا داود والتركيز على فكرة الصافنات الجياد والصناعات العسكرية التي تحفظ دم الإنسان وترد العدوان. قصة سيدنا سليمان في طريقة إدارة الملك والقضاء بين الناس، وإعطاء الحقوق للميارم والكنداكات. الدين جآء ليضع منظومة من القيم لبناء الإنسان، ولكنها تقزمت مع رحلة الاجيال، فاختفت خطاب يا ايها الناس وحتى خطاب يا ايها الذين آمنوا تقزمت كلٌ على حسب انتمائه.
ختاماً الرحمة للشهداء الذين ذهبوا احياء وتركوا تجار الدين والزيف موتى، يحبكون زيفهم لِينجبوا دنساً يُنسبُ زيفاً لعُرس الأنبياء، سرقوا الرسالة من المسجد، نهبوا العقل من الانسان، وسرقوا البراءة من الاطفال واعتبروا الدين مظهراً، ببناء افخم المباني بيوتاً لله وسط ارتال من الجياع، حيث لا ضمير يهتز رحمة بالفقراء، يؤمنون بالاسلام ولم تسلم من ايديهم والسنتهم الضعفاء، بينما الدين أن تحج إلى بيوت الفقراء والله جنبك خيراً لك من أن تحج إلى بيت الله والناس حولك جياع، قد نجد الدين في أكواخ الفقراء اكثر من قصور الاغنياء وفي أفريقية بلال اكثر من قريشية ابوسفيان، قد نجده في شهدآء رمضان لا في إدعاء الكيزان. فالمسألة اكبر من اطلاق اللحية ولبس الخمار، إنما الدين العفة والشهامة، فالفقه الذي كان يجلدها لانها لم تستر جسدها، جعلها عارياً بتشريعاته، فلا معنى لاي صورة خارج نطاق الضمير. رفع المعاناة عن الناس ضرورة دينية، حيث أن الدين ثابت في قيمه لا في احكامه. فالدين ان تموت مع الله بإنسانيتك خيراً لك من أن تموت بدين من دون الله. حينما يخرج الانسان عن انسانيته تذهب القيم والدين وان بقيت المساجد