صلاح شعيب
مهمة عسيرة أن توثق للفنان الذري الذي كناه أستاذنا رحمي سليمان، هكذا، تزامنا مع حدث تفجير القنبلة الذرية في هيروشيما، والتي روعت العالم عند مطلع الخمسينات. فقد وازنت سرعة الذري في الانطلاق الغنائي، ساعتئذٍ، سرعة انتشار ملحمية الأداء الكروي لكابتن الهلال، والفريق القومي، نصر الدين عباس جكسا، حفيد المفتش الإنجليزي جاكسون باشا.
فإبراهيم عوض انطلق مرة واحدة بباقة أغنيات لصناجة اللحن عبد الرحمن الريح فدخل بها التاريخ من بوابة التميز: “هيجتني الذكرى” و”أبسمي يا أيامنا” و”أنفاس الزهر”. أما جكسا، والذي كان رمحا ملتهبا لا يقوى المريخاب على محاشاة بهلوانياته، فانطلق بتوجيهات المدرب التشيكي إستارستا ثم شكل بداية التفجير للمواهب الكروية. والاثنان كانا كمهرين جامحين، وجانحين، للانطلاق الإبداعي في مطلع الخمسينات والستينات، وذلك حينما خرجت الأقوام السودانية من أتون ضجيج استقلالها لتفتح صفحة للتعمير تنشد مستقبلها.
ومرحلة الستينات الملهمة التي يكمن فيها مقام معتبر للصوت الذري مثلت بامتياز، في المحصلة العامة، بوادر للسودنة مظنونة بالعطاء الحافل في كل شئ. ولعله لا توجد سانحة للنوستالجيا بالنسبة لبنين، وبنات، الطبقة الوسطى أقوى من تلك المرحلة، حيث لغناء جيل الذري مواويله، ومدارسه، ومزاميره. به يضمدون الأسى في ظل غياب الرؤيا، والوضوح، والجدية لدى المعارضة، ويقاومون ثقل الحطام الأيديولوجي الإسلاموي، ويأملون في أن تعود الأمور إلى سالف تسامحهم، ولكن هيهات.
فكل عودة حزينة للوراء لتأمل فن الذري، وصحبه، فإنها تجوهر غناء الستينات، والسبعينات، والثمانينات، كمرآة لمشاغل، وأحلام، البناء الوطني في ارتباطها بحركة السياسة العالمية، والإقليمية، وكذلك ارتباطها – عشية الاستقلال – بتطلعات الجماهير نحو التقدم، والاستقرار، وتمتين الهوية القومية، وسيادتها. ولو كانت أحلام اليسار الفكري، والأدبي، هي الأقوى، والأعلى صوتا، ولكن كان لليبراليين الأحرار مدماكهم من لدن ميرغني حمزة، وتوفيق صالح جبريل، وود القرشي، والسيد الفيل، وزنقار. وحياة إبراهيم عوض ليبرالية، شذبها بولائه المحافظ لها مثل ولائه لوطنه، وفنه، وحي العرب، والمريخ. وبهذه الولاءات التقليدية كان إبراهيم عوض قد برز رمزا باهرا لثقافة أمدرمان التي ألقت بظلالها الرحيبة على كل ربوع البلاد.
فهو كرمز فني قد شارك بالقدح المعلى في هموم السودنة التي تمت مؤازرة بين قوى التحديث الفكري والسياسي وبين جحافل التحديث الثقافي ـ الفني التي بانت طلائعها في مدرسة الخرطوم التشكيلية، والغابة والصحراء، ومنهج الزنجران الموسيقي، وأبادماك، ومسرح العبادي، وخالد أبو الروس. وهاهنا كان إبراهيم عوض نجم أمدرمان الفنية، والاجتماعية. إنه بهندامه الآسر، وجدة تسريحته، وصوته السحري أخذ بتلابيب تلك المرحلة، وصبغها بنغمه. وبذا صار ملهمها الذي انبجس فجأة كشهاب ليضيئ بصوته الكرواني نهجا للتعبير العاطفي لا ينخفت أبدا.
-2-
بظهوره بدا إبراهيم عوض كأنه يمثل الرابط القوي بين مرحلة السودنة المتعلقة بوراثة التركة الاستعمارية، وتعمير البوادي، وبين التقاء لطائف التحديث في المزاج، والتوجه، والشعور القومي، والعاطفي، والفردي. ولذلك صحت أمدرمان بعد نصف قرن من هزيمتها على أقنوم إبراهيم عوض الفني، والذي تمظهر بإحساس جديد يعيد تاريخ صحوتها على أنغام كرومة، وليله الشاهد، الذي عبر عن إيلام نفسي، وهي ذات الأنغام التي أرسلها الريح في الهزيع الأخير من الليل للشيخ قريب الله، حفيد الشيخ أحمد الطيب راجل أم مرحي، والذي ربت عند الصباح على كتف الفتى كرومة فقال له: استمر في هذا التبديع يا بني، يغني المغني وكل على هواه. ويا لها من حكمة صوفية متجلية تجافي عنت السلفية تجاه الفن.!
ومن ناحية أخرى يمثل الذري النقلة الجديدة التي وضعت الأغنية السودانية في مدار للتحديث تنوع من بعده حتى غدا سورياليا. وبمثلما أن كرومة قد أرهق وردي الذي قال إنه لم يستطع الخروج من فلكه اللحني فإن إبراهيم عوض قد أرهق الذين أتوا من بعده ليتقفوا أثره غير المسبوق. ذلك برغم أن تلك المرحلة قد شهدت تفجيرات نغمية للكاشف، وبرعي وعثمان حسين، ومحمد الأمين، ولاحقا وردي نفسه.
وربما يختلف الذري عن كل هؤلاء لكونه قد استند على ثلاث مراحل لحنية سمت تجربته: مرحلة عبد الرحمن الريح الذي هندس خطوه الأول فعجم عوده، ثم مرحلة الطاهر إبراهيم الذي بعد أن نجا من مذبحة أودت بحياة جماعة البكباشي علي حامد بدا يذاكر التجارب التي من حوله ليملأ الفجوات في الصوت العذري للذري، ثم مرحلة عبد اللطيف خضر التي حافظت على ريادة إبراهيم عوض كغرويد لا يجارى في لونيته، وعبر هذه المرحلة الأخيرة استبانت قدراته الصوتية المهولة عبر أعمال “المصير”، و”غاية الأمال”. وما ميز الذري أيضا أن طلعته البهية، آنذاك، كانت مثار نقع لجيل جديد أراد أن يؤكد جدارته، وكذلك حماسه إزاء تسيد الساحة بعاطفته الجديدة، وأحلامه الوردية، وعزمه على تحقيق الإصلاح الفني بشروط لحظته التاريخية.
والحقيقة أن التأويل حول إنجازات فناننا الكبير لا يكتمل ما لم نشر للدور الكبير للشعراء الذين صاغوا تلك الحروف التي ساقت التّذوق العاطفي، والوطني، لتلك المرحلة نحو السمو، والذي قابله حماس أبناء، وبنات، الطبقة الوسطى بشحذ الهمم نحو ترجمة معاني الاستقلال. وللأسف أجهضت تلك التطلعات التحررية بكثير من المكر السياسي، وكثير من الأنانية الحزبية، وكثير من الارتهان للخارج.
-٣-
الآن، لا ندري إلى مدى وجدت تجربة الفنان إبراهيم عوض حظها من أشغال الأكاديميين الموسيقيين عبر دراسات عليا لتلمس أسرارها، وشرح تفاصيلها، وتناول العوامل الكامنة فيها التي حققت هذا القبول الكبير. والمدعاة لكل هذا الحلم هو أن الظاهرات الثقافية في بلادنا ينبغي أن تحرض القائمين على أمر مؤسساتنا الأكاديمية لتشجيع الطلاب لدرسها عبر رسائل الماجستير، والدكتوراة، وإقامة سمنارات سنوية عنها، خصوصا إذا فٌهم أن رسالة هذه المؤسسات تنهض على تطوير تجاربنا الإبداعية عبر درس تراث الرواد الذي جاء ملحميا وبقي في كل زمن أكثر نضارا، ومددا للإلهام، ونقطة التقاء قومي.
أما إذا كان دور المؤسسات الثقافية الرسمية هو الاعتراف بفضل هؤلاء المبدعين الذين أدوا دورا خرافيا في تشكل السودان الحديث، فلا نخال أن التشريع الثقافي الآن يلقي بالا بالفنون جميعها، إلا في حدود أن تكون معبرة عن تكريس مشاريع النظام المستبد. ذلك أنه قد أتى حين من الدهر فيه تعرض زملاء أبو خليل لجلد حتى. ولعل التفسير السلبي لأغنية “يا خاين” في الفترة المايوية كان جزءً من القراءات المبتسرة لهذا التراث المملوك للسودانيين جميعا. وما كان ينبغي أن يحرم من العرض حينذاك من الإذاعة، والتلفزيون، لمجرد أن كاتب وملحن الاغنية – اليوزباشي الطاهر إبراهيم، قد بث شكواه السياسية عبر حنجرة إبراهيم عوض.
غالب الظن أن احتفاء معظم السودانيين بفنون المبدعين من جيل الذري، وغيره، أهم من أي احتفاء آخر، سواء صدر من المؤسسات الأكاديمية، أو الرسمية، المعنية. فالمتلقي هو أفضل حكم على تجارب الإبداع. وكما قال الفنان عثمان حسين في ملابسات السعي لاستقطابه إن دلاقين التكريم الشعبي التي وشحته أعظم من نياشين السلطات السياسية، والتي تمنح أحيانا للصوص، والانتهازيين، وأثرياء الدجل.
إن لا سبيل لنشدان الإصلاح الوطني إلا بالعودة للاستلهام من الغناء العاطفي والوطني الذي أنتجه جيل ابراهيم عوض. فإذا كان هذا التراث الوطني ما يزال حيّا في ذاكرة كل أجيال بقاع السودان، إذ تتقاسم النهل منه، والترويح به، فإن لا شئ يعزز تلاقي السودانيين إلا سموهم الفني الذي صاغته أجيال المطربين قبل مرحلة إبراهيم عوض، وأثناء ظهوره، وبعده. والحقيقة أنه لم يبق للسودانيين شئ يفتخرون به الا إبداعاتهم، وذلك في ظل خيبة الأمل في المشاريع الفكرية، والسياسية، والاقتصادية، والتربوية، والإعلامية، والتي انتهت بِنَا الى تعليق مصير السودان كله بالفشل السياسي للإخوان المسلمين المحليين، والإقليميين، والدوليين.
عسى عشم الصديق الدكتور هاشم إبراهيم عوض في قلمي لا يخيب بان أمخر في عباب هذا الأقنوم الفني الساحر لوالده، بكثير من التأني في رصد هذا التاريخ الفني الذي جمع ذواقة الفن السودانيين على محبة رمز فني كبير ما يزال يمثل ملهما لتطلعات شعبنا بأن يسترد المعاني العظيمة التي نشدها جيل إبراهيم عوض المبدع، وأولها الوفاء لهذا الشعب الصابر الذي يرنوا الى لحظة الخلاص.