شاهدنا بأم أعيننا حملة الكراهية الواسعة النطاق التي اكتسحت ساحات الاعلام الاسفيري , وبعض القنوات التلفزيونية التي مازالت تأتمر بأمر فلول النظام السابق , حملة من البغضاء المشحونة بالسخرية و التهكم , شنها عدد من الناشطين باتجاه نائب رئيس المجلس العسكري , استهدفوا بها شخصه متجاوزين المؤسسة (المجلس العسكري) التي يعتبر هو فيها بمثابة الجزء وليس الكل , هذه المؤسسة التي يناط بها ترتيب وتنسيق الفعل السياسي الانتقالي في هذه الفترة , متماهين مع الشخصنة ومحاولة نسبة كل حركات و سكنات هذه المؤسسة الى الفرد لا الجماعة , في حالة من التحيز والتنميط الواضح للعيان والمصحوب بنزعة وحالة من حالات الاستدعاء الوجداني لحقبة (خليفة المهدي) في ذلك العهد البعيد , عندما أتت به التراتيبية التنظيمية إلى رأس هرم سلطة الدولة.
هنالك حالة من الفصام السايكولوجي ما بين نخب ومجتمعات السودان النيلي والمركزي , ورصيفاتها من صفوة وأفراد وقبائل دارفور وكردفان , ودائماً وأبداً تتجلى هذه الحالة الفصامية عندما يحتدم التنافس حول سلطة وثروة البلاد في أعلى قمة الهرم , فقد حدث هذا التباغض و التباعد قبل قرن و ثلاثة عقود من الزمان , في ذلك الوقت الذي بدأت فيه خلايا سودان اليوم في التخلّق والنمو والتكوّن , باندلاع أعظم ثورة وطنية وقومية شاملة في تاريخ البلاد الحديث , فحينها برزت ولأول مرة ظاهرة الرفض الجماعي لرمزية حاكم السودان القادم من الأقاليم الغربية , وكانت ترعى هذه الظاهرة وتغذيها العوامل الجهوية والمناطقية , أكثر منها الأجندة الوطنية ومظاهر انهمار دموع التماسيح والتباكي المصطنع على مصير الوطن , والدروس الوطنية الزائفة التي يحاول البعض تلقينها للبعض الآخر.
لقد تكرر حدوث هذه الحالة مرة ثانية بعد انقلاب المخلوع عمر البشير , وتحديداً بعد انقضاء عشر سنوات من تاريخ هذا الانقلاب, حينما قلب النخبويون النيليون ظهر المجن لأخوتهم الذين ينتمون إلى إقليمي دارفور وكردفان , فخرج بشير آدم رحمة وعلي الحاج وابراهيم السنوسي , ذووا الانتماء الجغرافي المعروف من منظومة الحكم , واستفرد بالدولة ونظامها كل من علي عثمان ونافع وعوض الجاز , الذين تجمعهم جغرافيا منفصلة عن جغرافيا الثلاثة المذكورين أولاً , فهذه الحالة الفصامية لم تستطع الايدلوجيا و لا حتى الدين أن يكبحا جماحها , برغم تواثق هؤلاء الاخوة على مشروع الدولة الدينية والدين , الذي يقول صراحة لا فرق لعربي على عجمي الا بالتقوى , وكان سيحدث ذات الذي حدث ولو كان هؤلاء الاخوة الستة ينتمون الى تيار كارل ماركس , ذلك التيار النقيض تماماً لحركة الاخوان المسلمين التي ترعرعوا وتربوا في كنفها.
عشرون عاماً مضت منذ تفجر المفاصلة الجهوية الرمضانية الشهيرة بين الانقاذيين , وها هو الآن قد تحقق حلم الناس بخلع الدكتاتور , لكن مازالت حالة الفصام الوجداني بين أولاد البحر و أولاد الغرب , تخيم على الحراك المدني و العسكري الذي أطاح بالمشير , وفي هذه المرة اختلفت الحالة الفصامية كماً وكيفاً عن سابقتيها في المرتين الماضيتين , ففي الماضي كان ميزان القوى العسكرية بيد العصبة النيلية ,أما اليوم فالقوى الحاملة للسلاح والقائدة للكتائب العسكرية جلها من غربي البلاد , وكذلك نلحظ أن هذه القوى قد دخلت إلى معادلات الصراع الأمني الداخلي في الدولة بقوة , ودلفت إلى أسباب التمكن العسكري في الإقليم (الشرق الأوسط) بوضوح لا تخطأه العين (ليبيا واليمن) , وهذا الأمر بطبيعة الحال له دلالاته المعنوية و المادية.
إنّ تحدي تأسيس الوطن الذي يسع الجميع لن نستطيع الوفاء بشروط تجاوزه , إلا بالخروج من رداء المكابرة وخلع عبائة النفاق السياسي وإخراج الرؤوس من تحت كثبان الرمال , ذلك الرداء وتلك العبائة التي ظلت ترتديها النخبة السياسية السودانية بجميع مكوناتها زماناً , فالكراهية بحق الآخرالتي يمارسها اصحاب العقلية النرجسية والعنصرية , وعدم القبول بهذا الآخر في دولاب السلطة من منطلق خلفيته المناطقية , لن تورثنا سوى المزيد من الاحتراب الأهلي و الانقسام الداخلي.
فالحل يكمن في محاربة جرثومة الجهوية و المناطقية , التي أسس لها العقل المركزي بعيد استقلال البلاد , و محاورة هذه العقلية المركزية الانطوائية والانكفائية المنغلقة حول ذاتها, ودحض ادعاءاتها وافحام منطقها المعوج , فهي ترى خارطة الوطن من خلال منظور مدن الخرطوم الثلاث , وعليها أن تعلم بأن مدن السودان التي انتفض سكانها , في الجينية و كادقلي وبورتسودان وعطبرة , ليس من العدل أن يقود حراكها الثوري حفنة قليلة من نخب سكان هذه المدن الثلاث لوحدهم.
فالدولة المدنية لن تتحقق لمجتمع منقسم على ذاته وجدانياً , ولن يتم إنجازها لكيانات سكانية يتجسد مفهوم الدولة لديها في إطار جغرافيا بعينها , وتعتبر من خلا من الانتماء الى تلك الجغرافيا فهو قادم من الخلاء , ولا يستحق الا أن يطرد ويرد إلى خلائه الذي تنعدم فيه التنمية و الحياة الكريمة , بالرغم من أن باطن أرض هذا الخلاء يستخرج منها البترول , الذي تستغل عائداته من قبل هذه الصفوة وهؤلاء الأفندية , في بناء فخيم المنازل وامتطاء صهوات الفاره من السيارات.
إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com