تباينت ردود الأفعال على لقاءات حميدتى مع الإدارة الأهلية. بعضها كان يعبر عن الخوف من السيناريو الإنقاذى يتكرر عبر تحالف الإدارة الأهلية مع نظام حميدتى كما فعلت مع نظام البشير. كذلك كانت هناك ردود الأفعال التى اعتبرت ان الادارات الأهلية والقبلية هى جزء من التاريخ الذى لم يعد ممكنا استعادته كما كان فى عهد الاستعمار او حتى عهد البشير. لكن حقيقة الامر ان الواقع هو انعكاس لمزيج مختلط من كلا الرؤيتين. تلك التى ترى فى الادارات الأهلية خطر على حلم الديمقراطية وتلك التى ترى ان زمانها قد انتهى على الاقل بشكلها التقليدى.
الإدارة الأهلية هى بالتأكيد جزء من تكوين السودان المجتمعى التقليدى والذى لطالما كان داعما لمن كانوا فى السلطة بشكل مباشر. كما ان الإدارة الأهلية او القيادات القبلية هى من أهم أصحاب المصلحة مع العسكر والقوى الدينية والطائفية فى ان يظل الشعب السودانى فى حالة خضوع مستمر للحكام. وان تظل المواطنة مشروطة بالانتماء القبلى والدينى والطبقى حيث تظل تلك القيادات مسيطرة على مقبض السلطات التقليدية المتوارثة التى لا يمكن ان تستمر الا اذا تم حبس السودانيين فى تاريخهم دون ان يخترقوا ابدا أبواب الحداثة، وبالتالى فان خوف القيادات القبلية من الدولة المدنية ليس اقل من خوف العسكر منها على الإطلاق . لذلك فإن تحالف القيادات القبلية والعسكر وحميدتى هو تحالف طبيعى ، لطالما حدث عبر التاريخ السودانى مع كل السلطات القمعية فى تاريخ السودان ابتداءا من الاستعمار التركى وبعده الإنجليزى ومن بعده العسكر من عبود الى نميرى وصولا الى عهد الكيزان. اذن حميدتى لا يقوم بشي جديد هو فقط ينفذ كامل كتاب تعليمات كيف تصبح دكتاتورا فى السودان والذى أعطاه اياه كل من حوله من قيادات عسكرية واخرى مدنية انتهازية حتى وان لم يجد قراءة التعليمات الا انه ينفذها كما شرحوها له.
رغم ان السودان تغير بشكل عميق خلال العقود الثلاث الماضية واجبرت الحروب والفقر الملايين الى النزوح من الريف الى المدن وبالتالى نقصت قبضة القبيلة على كثير من السودانيين خاصة الاجيال الصغيرة، الا ان غياب الدولة بشكلها الخدمى الذى يوفر للمواطنين الاستقلال الاجتماعى بشكل فردى جعل للقبيلة دور مهم فى صناعة شبكة الأمان الاجتماعية. تلك الشبكة التى يتم من خلالها توفير نظام اشبه بالتامين او الضمان الاجتماعى فى الدول الغربية المتقدمة. حيث انه فى الدول المتقدمة المواطنة والكفاءة هى الشروط الوحيده للحصول على الحقوق وخدمات الدولة من تعليم وعمل وترقى اقتصادى او وظيفى. لكن فى السودان وفى ظل اللادولة بمعناها الحقيقى منذ الاستقلال، فإن صلات القرابة وشبكات العلاقات الاجتماعية عبر القبيلة والانتماء الجغرافي هى آليات الضمان والأمان الاجتماعى الوحيدة. كما انها وسائل الترقي الاجتماعى والاقتصادى وحتى آلية تراكم السلطة والثروة الرئيسية. عليه فإن دور القبيلة فى السودان يتعدى الانتماء الاثنى او الثقافى الى ان يكون صك التمتع بالمواطنة الكاملة الوحيد المتوفر لبعض السودانيين فيما لا يتوفر للبقية. ومن هنا فإن الصراع السياسي فى السودان لا يمكن عزله عن دور القبيلة لكنه لابد ان يتم إعادة ترتيب هذا الدور فى اطار عملية بناء الدولة التى من من متطلباتها المساواة وحقوق الأفراد كمواطنين متساوين وليس فقط ككتل قبلية او كانتونات امتيازات تاريخية تحت مسمى القبيلة او الاثنية.
الحقيقة ان هناك بعد اخر مهم لتحالف القيادات الأهلية مع حميدتى وهو المصالح الاقتصادية التى تربط بين الرجل وبين القيادات القبلية، هذا اضافة طبعا الى ان أبناء بعض القبائل الرعوية خاصة هم المورد الرئيس للتجنيد من قبل مليشيات الجنجويد. للأسف ان تلك القيادات القبلسة التى لا ترى سوى مصالحها الخاصة منذ توقيعها على رسائل التأييد للاستعمار وحتى الآن، والتى لم يكن لديها حس وطنى حقيقي ابدا يتعدى الحفاظ على سيطرة الشيخ او السلطان على قبيلته والاستفادة من موقعه لمراكمة الثروة وتثبيت موقعه. اذن فإن هذا التحالف مع حميدتى الان أيضا طبيعى مع المصالح المشتركة فى تعدين الذهب واستثمار أبناء القبيلة فى ان يعملوا مرتزقة فى اليمن. وبالتالى فان هؤلاء الشيوخ يقدمون حلول معيشية سهلة وذات كلفة قليلة لأفراد قبائلهم او المجتمعات تحتهم ودون الحاجة إلى دولة. ومن هنا يكمن خطر حميدتى والقيادات الأهلية ،فهم جميعا لا يريدون ان تكون فى السودان دولة حقيقية. دولة لها جمارك وحدود وقوانين واستثمار فى المواطنين والتعليم ورؤية واضحة للاقتصاد تمنع التعدين العشوائي المضر وتحفظ ثروات البلاد وتحمى الأطفال من التجنيد والموت فى حروب للارتزاق.
ان وجود دولة فى السودان بشكل حقيقي قد تم منعه من قبل القوى القبلية والطائفية طوال تاريخ السودان الحديث حتى يحافظوا على مكانتهم عبر قبائلهم التى يوفرون من خلالها أشباه دويلات مصغرة. حاولوا من خلالها الاستعاضة عن تكوين دولة لكل السودانيين عبر دويلات الانتماء القبلى التى لا توفر الضمان الاجتماعى لأفرادها الا عبر اخضاعهم وكذلك عبر اخضاع ونزع الحقوق من الآخرين. ان مستقبل الثورة السودانية الان فى مواجهة حقيقية مع كل اعداء الدولة المدنية الحديثة ودولة المواطنة فى السودان، وليس حميدتى سوى واجهة لهم جميعا. وانتصار الثورة سوف يكون بداية حقيقية لتاريخ السودان الدولة الحديثة . ولذلك على الشباب الاستمرار في ثورتهم فالان الخيار اما ان يكون السودان او لا يكون.
[email protected]