عثمان نواي
زيارة اول رئيس وزراء سودانى لمنطقة تحت سيطرة الحركة الشعبية لتحرير السودان( او اى حركة مقاومة مسلحة ) وقبل التوقيع على اى اتفاق سلام، تعتبر هى الاعتراف الأول من نوعه بحركات المقاومة الشعبية المسلحة كجزء من مكونات السيادة الوطنية السودانية وليست مجرد حركات متمردة تهدف للتهديد والانتقاص من تلك السيادة كما كان يتم الترويج لذلك طوال تاريخ السودان ما بعد الاستقلال . كما ان زيارة رئيس الوزراء التى يقوم بها اليوم الى كاودا تاتى كاستجابة لدعوة كريمة من رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان عبد العزيز الحلو. وبما ان الحركة الشعبية كانت الطرف الداعى للزيارة فإن فى هذا دلالة سياسية وتاريخية وقيمية عالية ،تؤكد على ان المقاومة المسلحة فى جبال النوبة هدفها هو تثبيت الحقوق لمجموعات سودانية ظلمت طويلا وليس هدفها تهديد أمن الوطن او المس بسيادته، بل الهدف هو الحفاظ على حياة وحقوق جزء من المواطنين لم يحصلوا على حقوقهم كاملة من الدولة.
ان وضع هذه الزيارة فى قالبها الصحيح ومكانها الصحيح من التاريخ هو ضرورة هامة لانجاح أهدافها، وجعلها نقطة انتقال تاريخى نحو اللاعودة للحرب والنزاعات فى السودان. حيث ان الشعب السوداني فى جبال النوبة والذى كان يتم قصفه من قبل صناع القرار فى الخرطوم منذ عقود طويلة وتعرض لكافة أشكال الظلم والتهميش والاستبعاد والقتل والتنكيل ،لازال من الكرم والرفعة فى الأخلاق والقيم ليفتح ذراعيه واسعة مرحبا بالآخر على أرضه، فاتحا أبواب مشرعة من الامل فى ان التغيير الذى قلب نظام الحكم في الخرطوم، سوف ينتهى الى تغيرات جذرية تنهى حالة الاستبعاد التاريخى التى عانى منها هذا المواطن منذ بداية الدولة السودانية.
ورغم التغطية الإعلامية الضعيفة للغاية للزيارة حتى الآن ، الا ان هناك وفد إعلامى كبير مرافق لرئيس الوزراء نتمنى ان يعكس فى الأيام المقبلة، وبكل مصداقية واقع الحال فى المناطق المحررة التى كانت طوال عهد الانقاذ ، هى المناطق الوحيدة التى لم تتلوث بحكم الكيزان لها كما تلوث باقى الوطن، رغم أنها دفعت الثمن غاليا تجويعا ومرضا وقصفا. ولكن انسان هذه المناطق كان يعى ان هذا هو ثمن الحرية، ولذلك فإن مواطنى كاودا وصمودهم فى وجه نظام الكيزان ،يجب ان يتم عكسه بمصداقية توضح مدى صلابة وشجاعة وعلو همة هؤلاء المواطنين السودانين الذين أنكرت وجودهم حكومة الخرطوم سنين عددا. وصمت عن حالهم كثير من القوى السياسية والاعلام. ووضعوا تحت الحصار الإنسانى لثمان سنوات عجاف. لأن وحدة الوطن لا تبنى فقط بمعسول الكلام والاشعار، ولكن بقول كلمة ألحق ووضع نضالات الشعوب فى محلها الذى تستحق من لائحة الشرف والنضال فى التاريخ الوطنى. كما ان مدينة كاودا وما حولها من مناطق محررة لا يقطنها فقط مقاتلين حاملين للسلاح بل يقطنها اكثر من مليون مواطن سودانى منهم خريجو الجامعات وأصحاب درجات علمية عليا اختاروا ان يكون النضال من أجل الحرية والعدالة هو طريقهم وبنوا تجربة حكم مدنى يجب ان يتم عكسها رغم كل الظروف الإنسانية السيئة وضعف الامكانيات والحصار ولكن الشعب هناك هو شعب اختار الحياة بكرامة دون اى تنازلات، وهذا ما يجب ان يعيه كل من يزور كاودا اليوم، اى ان الحرية والعدالة هى قيم تم دفع ثمنها مسبقا باغلى الأثمان لمواطنى هذه المناطق. وحان الوقت الان للاعتراف بتلك الأثمان والمدفوعة وسداد مديونية الوطن لحراس الكرامة والعزة ولهؤلاء الصامدين رغم الجراح.
ان هذه الزيارة محملة بكثير من الابعاد السياسية والعاطفية والتاريخية والتى نتمنى ان يتم الارتقاء لها من خلال العمل على أرض الواقع لبناء جسور حقيقية للتواصل والتغيير. حيث ان تاريخ السودان يشهد الان أنقلابات حقيقية فى الصورة النمطية لتقسيم الوطن لاراضى التمرد وأراضي الدولة، فلم تعد كاودا حيث يذهب البشير ليصلى على جثث ضحاياه الذين كان يخطط لابادتهم قبل ان يصلى عليهم صلاة الجنازة. بل مدينة المبادرة وبناء جسور التواصل ، أيضا جوبا التى كان يحلم دبابين الميل أربعين بدخولها اصبحت الان هى عاصمة السلام التى تحتضن كل فرقاء السودان وتعينهم للوصول للأمن والاستقرار . ان لم يتم استيعاب درس متغيرات التاريخ هذا وان الخرطوم لا تستطيع ان تكون وحدها مركز التغيير ،وأن بقية السودان له كلمة فى ما يجب ان يكون عليه حال هذا الوطن، اذا لم يتم استيعاب هذه الدروس، فإن هذه المدن ستظل تفصلها ليس فقط الحدود والحروب بل حواجز وجدانية سوف يصعب اختراقها. لذلك نأمل ان يتبع هذه الزيارة خطوات جادة لإعادة تعريف الدولة السودانية لتصبح دولة كل السودانيين بلا تمييز او اضطهاد، وما ثار وحمل السلاح احد الا مطالبا بهذا.
[email protected]