ليس غريباً أن تأتي التشكيلة الوزارية الجديدة مثل سابقاتها من التشكيلات الهزيلة و الباهتة , فكما وعد المشير عمر حسن أحمد البشير في خطابه الطوارئي في فبراير المنصرم , بعد أن قام بحل الحكومتين المركزية و الولائية , بأن حكومته الوليدة والمرتقبة سوف تكون منظومة حكم مختلفة , وسوف تحتوي على وزراء ذوي كفاءة ومهنيون خُلّص , وأنها حكومة ذات مهام محددة , وليست كما تبينت وبانت ملامحها بورود أسماء نفس الشخوص , عند الإعلان عن قائمة وزراء هذه المنظومة الجديدة يوم أمس , فما تم من كشف للنقاب عن تعيين شخصيات مكررة ومعهودة ما هو إلا مجرد مكافآت وظيفية , دفع بها السيد المشير إلى عدد من المقربين إليه في الإذعان والسمع من الوجوه القديمة , وذلك لما قامت بتقدميه هذه الوجوه من فروض ولاء كفيف و طاعة عمياء للسيد حادي ركب القافلة , ونسبة لهذا السلوك الممل لن تزال الغمة عن صدر الوطن المكلوم , ولايمكن أن ينبلج نور الصباح إلا بحتمية السقوط الداوي وغير المشروط لكامل المنظومة (من ساسها لي راسها).
في الخاطر مقولة مشهورة لوالي الخرطوم الأسبق تنص على : (الفشل يولد الفشل) , إنّها جملة متداولة لذلك الانقاذي العتيق والذائع الصيت , الفريق الركن عبد الرحيم محمد حسين , مجسداً المثل القائل :(خذوا الحكمة من أفواه المجانين) , فعلى الرغم من اللغط الذي يدور حول شخصية هذا الرجل المثيرة للجدل, إلا أنه سجل اعترافاً واضحاً ظلت تتداوله المنتديات وتتهكم به الأسافير نتيجة للفظه تلك العبارة الصادقة , فسجل سيئة الذكر (الإنقاذ) حافل بالمشاريع الفاشلة , سواء كانت المقاولات العقارية ومنها (مبنى جامعة الرباط) , أو الفعاليات السياسية التي يمثل خلاصة عصارتها ما سمي (الحوار الوطني) , فالإخفاق والفشل ظلا يمثلان الصبغة الرئيسية لمنظومة حكم الاسلام السياسي في السودان , وأصبح اضمحلال مؤسسات الدولة و التردي الخدمي و تدهور الأخلاق مادة خصبة لصناعة النكتة , ودافع قوي لإبداء السخرية بحق أفعال ورموز منظومة الهوس الديني.
ومن قرائن الأحوال في محاولات المشير اليائسة لترميم أعمدة حكمه , التي تآكلت بسبب صمود طلاب وشباب ديسمبر في هبتهم وثورتهم المجيدة , يتأكد للرائي أن مسألة السقوط الإجباري للمنظومة الانقاذية قاب قوسين أو أدنى من الحدوث والتحقق , وأنه لا يوجد أي منقذ ومخلص أو جبل, بمقدوره أن يعصم هذه المنظومة وزعيمها من الطوفان , وأي طوفان!! , إنّه تسونامي الشعب المهدور الكرامة منذ صبيحة الثلاثين من يونيو , من ذلك اليوم المشؤوم الذي أرخ لبدايات عصر الظلام , فتلك الأمواج العاتية التي هزّت كيان سفينة الإنقاذ , البارجة التي قيل أنها لا تبالي بالرياح ولا تأبه بالأعاصير , لقد أمست الجماعة الإخوانية مثل الطريدة التي أرهقها عنت و رهق تعقب صيادها الماهر , فكلما توقفت برهة عن الركض للتمتع بشيء من الإنجمام, باغتتها كلاب ذلك الصياد اللاهثة بألسنتها المزبدة , فيتلقى ظهرها ضربات كرباجه المحدودب , وهو يسعى حثيثاً للانقضاض و الإجهاز عليها.
سيحفظ التاريخ لسلسلة الحكومات المتعاقبة للسيد المشير , حقها الحصري و ملكيتها الفكرية في إختراعها لمنهج وأسلوب (الدمع السخين لنيل الأنواط و النياشين) , الذي برع في تطبيقه كلا الوزيران الكبيران , بشارة جمعة أرو وأحمد بلال عثمان , وتبعهما على ذات المنهاج الكثير من الوزراء الطامحين و الطامعين , فمنذ بداية عهد الدولة الحديثة في السودان لم تشهد لجان إختيار الوزراء و الدستوريين , مثل شاكلة هذه المنهاجية البكائية الدامعة التي صارت علامة مميزة , ويافطة بارزة تقف على جنبات الطرقات المؤدية إلى القصر الرئاسي , لقد أشفق الشعب السوداني أيما إشفاق عندما رأى الدموع المنجرفة على وجوه وزراء حكوماته , منهمرة خوفاً وطمعاً ورهبةً من ضياع الجاه و السلطان , وعلم أن الكفاءة ليست وحدها الفيصل في حسم عملية ترشح المواطن الصالح , لشغل شاغر الوظيفة الدستورية العليا في بلاده , وإنما هنالك خبرات ومهارات أخرى , هي عبارة عن خليط من العاطفة المصطنعة والمتكلفة , مضاف إليها بعض إلمام بشئون الكوميديا وفنون المسرح , تعمل جميعها في تناغم تام من أجل إنتاج ما يسمى (بالوزيرالإنقاذي) , وفي هذا الخصوص , فإنّ صفة (الإنقاذي) تعتبر هي الصفة الأكثر شمولاً من وصمة (الكوز) , في تعريف ألذين استرزقوا من الاستوزار و استغلال الوظيفة الدستورية العامة في عهد حكومات الإنقاذ , وأولئك الذين ساهموا في تثبيت أركان حكم الكيزان في السودان, لأن مصطلح (إنقاذي) يشمل الأنصاري المندغم والختمي المتوالي و البعثي والشيوعي المتماهيان.
وخلاصة القول أن التغيير الحقيقي لابد أن يبدأ من الجذور ثم يرتقي ليلحق بالفروع , فطريقة التجيير و تبييض القشور ولى زمانها , خصوصاً مع المد الشعبي الماثل في شوارع مدن السودان المنتفضة اليوم , المدن التي تعلو سقوف مطالبها و تزداد أجيالها وعياً على وعي مع كل صباح يوم جديد , فالكبار و الصغار ألموا بأسباب استمرار استيطان داء الضائقة الاقتصادية , و خبروا الدروب المؤدية لحلها و بسط رغد العيش في ربوع البلاد , لذا , على الناصحين المتكأين داخل بهو صالون سيد القوم , أن يقولوا له إن المعضلة الرئيسة تكمن في وجودك على رأس الهرم يا سيد القوم , وعليهم أن يبحثوا معه سبل التنحي المبكر الذي سوف يقلل من كلفة نزع الملك الباهظة الثمن , فكلما تقادمت الأيام كل ما ازداد هذا العبء أضعافاً مضاعفة.
إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com