أصدرت المحكمة الأفريقية الخاصة الاثنين حكمها القاضي بإدانة الرئيس التشادي السابق حسين حبري بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وحكمت عليه بالسجن المؤبد. وبدأت محاكمة الرئيس التشادي السابق حسين حبري، في 20/يوليو/2015، في السنغال، بحضور حسين حبري نفسه، الذي أقتيد بالقوة إلى المحكمة، وقد رفض التحدث فيها أو الدفاع عن نفسه. وانتهت الجلسات في 11/فبراير من هذا العام، وطلب الدفاع عندها تبرئة حسين حبري، الذي الذي تولى رئاسة تشاد لثمانية أعوام ، 1982ـ 1990، قبل أن يطيح به أحد أقدم مساعديه الرئيس الحالي إدريس دبي، ويلجأ إلى السنغال في ديسمبر من عام 1990. فرانس 24/أ ف ب.. نقلا بتصرف عن الراكوبة.
مما لا شك فيه أن مثل هذه الأخبار التي ينتصر فيها أخيرا الخير على الشر، وتكون ثمار الجرائم والإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان عقابا دنيويا صارما، لن يكن وقعها سعيدا ومفرحا على الذين تم بحقهم توجيه إتهامات جنائية دولية، لارتكابهم ذات الجرائم التي تم بموجبها إدانة الرئيس التشادي السابق حسين حبري.
ومن المؤكد أيضا أنها ستقضي على السكينة الزائفة والأمل السراب، والتحدي الكذوب، والتمترس خلف الحصانات المغتصبة، التي جعلت من الشعب السوداني بأكمله درقة ورهينة للإفلات من هذا المصير المظلم، وخاصة إذا كان المدان بحجم رئيس دولة سابق، كحالتنا هذه التي تم الحكم فيها على شخص كان يعتقد عن وهم أن من حقه أن يقتل ويغتصب ويتمتع في الآخر بمعاش هادي، وعيش هانيء في أي دولة يختارها، حالة فقده للحكم الذي سرقه واغتصبه من سابقه من الرؤساء.
أحد أهم الدروس المستفادة من هذه المحاكمة التاريخية، هي أن التذرع بالحصانة وارتكاب أفعال مجرمة تخالف مقتضياتها، لن تكون مانعا من المساءلة والمحاكمة والعقاب، أثناء التمتع بها أو بعد فقدانها، وإن الدفع بإعمال مبدأ السيادة، وممارسة الصلاحيات الرئاسية الدستورية في التذرع بدعاوى الحفاظ على هيبة الدولة لتأديب المعارضين والمناوئين والمتمردين والخونة والمارقين، وغيرها من الإتهامات المعلبة والجاهزة التي يحفظها عن ظهر قلب، ويرددها كل الطغاة والديكتاتوريون مغتصبو هذه الحصانات أثناء ممارسة سطوتهم وبأسهم، لن تجديهم نفعا في حالة ارتكابهم جرائم جنائية يعاقب عليها القانون الجنائي محليا كان أم دوليا، والذي حدد بدوره نطاق هذه السيادة والحصانة المفترى عليهما، وفصل تفصيلا صارما كيفية ممارستهما، وليس من ضمنها بأي حال من الأحوال ممارسة أفعال القتل والتعذيب والإغتصاب والسجن والإعتقال، وغيرها من الجرائم الوحشية، التي تجرد الإنسان من إنسانيته السوية، ناهيك عن حصانته المغتصبة والمدعاة.
والدرس الثاني المسُتفاد منها أي من هذه المحاكمة والتي تُعتبر عرسا أفريقيا للعدالة بحق وحقيقة، هو التأكيد الذي أسقط كل الشكوك، على أن هذا النوع من الأفعال المُجرمة لا يشملها التقادم المسقط للجرائم، فهي عصية على التجاهل والنسيان وإن تعاقبت عليها السنون، وان مجرد ارتكابها وإسنادها لفاعل بعينه بواسطة محكمة مختصة سوف تظل ملازمة له، حتى بعد مماته، ولا أحد يتذكر الطغاة والمستبدين والقتلة والمغتصبين إلا بصفاتهم تلك، ولنا في صفحات سفر التاريخ قديمه وحديثه ما تعجز الكلمات عن التعبير عنه من العبر والنماذج والأمثلة.
كما أنها أكدت من جهة ثالثة، مقولة: لن يضيع حقا وراءه مطالب، وها قد كان، وأثمرت جهود الضحايا ومثابرتهم الدؤوبة بجلب واترهم إلى سوح العدالة مصفدا بأغلاله، تشيعه لعناتهم، ونظرات إحتقارهم، ويجلله عار أبدي، وهو ضعيف ذليل عاجز لا يقوى حتى على مجرد النظر في وجوههم، بعد أن كان في لحظة زمان تعيس ما، يصول ويجول، آمرا وناهيا.. متحكما في مصائر البلاد.. ورقاب العباد، فهو القابض الباسط.. المانح المانع.. بيده السجن والحرية.. الحياة والموت.. العفو والعقاب..الثروة والفقر.. العزة والمذلة، الجاه والوضاعة، السمو والسُفُول، ولسان حاله يقول أنا ظل ربكم على هذه الأرض، فقد اختصني جلالته سبحانه وتعالى، وأيدني بنور منه، فلا مساءلة ولا محاكمة ولا عقاب في هذه الدنيا الفانية، إلا عند أوان المثول بين يديه.
ومن جهة رابعة أكدت هذه المحاكمة: بأن تحقيق العدالة الجنائية بمحاكمة ومعاقبة الجناة مهما كانت صفاتهم ومواقعهم، وعلت مراكزهم في هرمية السلطة السياسية، هو الضمانة الوحيدة لذوي الضحايا الذين هم في مهب رياح تلك الإنتهاكات، وأولئك الذين يمكن ان يتعرضوا لمثلها في المستقبل، بأنهم أصبحوا في منأى من تكرارها، وما يرتبط بها من مآس وويلات وأحزان. كما أنها ستكون رسالة واضحة لكل المستبدين والطغاة والقتلة، بأن لا أمن ولا أمان من العقوبة لمن يسيء الأدب ويتخطى قواعد السلوك الإنساني السليم، ليرتكب الجرائم والموبقات بحق شعب يحكمه جبرا وقهرا، شعب لم يختاره، ولم يفوضه أمره بأن يجعله حاكما آمرا ناهيا عليه.
ومن جهة خامسة اكدت هذه المحاكمة: أن ظاهرة الإفلات من العقاب التي لازمت كثيرا من الحكام والقادة الأفارقة الذين ارتكبوا الفظائع والموبقات بحق شعوبهم أثناء فترة حكمهم، ونجوا بجلودهم من المساءلة والعقاب إلى أن توفاهم الأجل المحتوم، بأن سابقة محاكمة وإدانة حسين حبري قد انهت هذه الظاهرة البغيضة وإلى الأبد، وما على الضحايا إلا المتابعة القانونية لمن يرتكب الجرائم بحقهم مهما كان مركزه، وما عليهم إلا الإحتجاج بهذه السابقة التاريخية والإستناد عليها لنيل حقوقهم كاملة غير منقوصة، وحقوق ذويهم وأحبائهم من ضحاياه الذين قضوا.
وأظهرت هذه المحاكمة من جهة سادسة: وأثبتت جليا، أن الاتحاد الأفريقي أو في الواقع نادي الرؤساء والقادة الأفارقة نفسه، كما يطلق عليه البعض وأنا منهم، يكيل بمكيالين ويمارس سياسة إزدواجية المعايير في أقصى مراحل تجلياتها انتهازية وبشاعة، فمن جهة يقدم المساعدة في تشكيل المحكمة التي حاكمت الرئيس التشادي السابق حسين حبري، في دولة السنغال.
ومن جهة أخرى يسبغ الحماية، ويُلبس ثوب الحصانة الُفترى عليها، على المتهم الدولي الجنرال عمر حسن أحمد البشير، ويرمي القضاء الدولي بداءه ثم ينسل، محتجا بأن المحكمة الجنائية الدولية لا تستفرد إلا بالقادة الأفارقة (الأبرياء)، وأنها أي المحكمة صنيعة غربية تمنح الدول الإستعمارية الكبرى المسوغ القانوني لاستغلاله سياسيا لتحقيق مصالحها وأطماعها في القارة الأفريقية المنكوبة والحزينة التي يتحكمون في مصيرها وأقدارها ويحكمونها بالحديد والنار غصبا عن إرادة ورغبة أهلها.
أوضحت هذه المحاكمة جليا للذين يستشكل ويصعب عليهم تصور وفهم، بأن الرؤساء يمكن أن يرتكبوا الجرائم والفظائع أثناء فترة توليهم للرئاسة، بأن الرئيس أو الزعيم أو القائد هو المسؤول الأول عما يحدث لمن تصدى لرئاستهم، سواء أن تم اختياره وإسناد السلطة إليه عن طريق صناديق الإنتخابات أو سطا على السلطة بليل بهيم، ولن يشفع له الاحتجاج أمام المحاكم، بأنه في قصره بعيدا عن مسارح الجرائم التي تُرتكب باسمه لحماية حكمه، وأنه لا يعلم بها.
فالجريمة السلبية أو الجريمة بالترك كما يعرفها القانون هي ذاتها جريمة الفاعل المباشر الأصلي بأركانها ودوافعها، فمن يستطيع منع إرتكاب الجريمة فعليه تحمل وذرها إذا ترك من هم تحت مسؤوليته إرتكابها، ومن يقول لا أريد أسيرا ولا جريحا لا يستطيع القول ويحتج بأنه لم يقتل أو يغتصب أو يعذب بيديه، لأن بإمكانه استعمال صلاحياته وسلطاته الرئاسية ومنع ذلك إذا أراد، وإلا الغرم بقدر المغنم. والصرخة بقدر الألم، فلن يفيد القول بأن إرحموا عزيز قوم ذُل.
رفعت الأقلام وجفت الصحف، قد أمسى الرئيس حسين حبري مجرما، مدانا، سجينا، حبيسا في زنزانته الإنفرادية يناجي نفسه الشريرة اللاوامة، ويجتر خيوط الندم اللامتناهية، وإذا قُدر له أن يخاطب زملائه القادة والرؤساء والزعماء الأفارقة الحاليين من منبر الحسرة والخسران والهزائم، لقال لهم نادما لقد أغرتني الدنيا بنعيمها، ولم أكن أعرف أن السلطة كالمال، فإنها أيضا (ضل ضحى زوال)، وها أنا اليوم ائتمر بأوامر سجانا صغيرا وأستأذنه ذليلا لكي أقضي حاجتي.
ومن دروس هذه المحاكمة البليغة فقد وضعت القادة والزعماء الأفارقة في حرج بالغ أمام دعاوى الضحايا الذين يطالبون بالقبض على المتهم عمر البشير لمحاكمته على جرائمه التي ارتكبها بحقهم، لتصبح مهمتهم في الدفاع عنه مهمة مرهقة سياسيا وأخلاقيا، ومكلفة اقتصاديا على دولهم وشعوبهم، فلم يعد أمامهم إلا رفع حمايتهم غير المستحقة عنه، وتركه لمصيره المظلم الذي ينتظره ليلحق برفيقه وزميل دربه السابق حسين حبري الذي قضى.
[email protected]