عبدالعزيز النور
تصريحات ما يسمى بالمجلس العسكري الإنتقالي في السودان في مؤتمره الصحفي مساء الثلاثاء الموافق 7 مايو 2019م ردا على مشروع الوثيقة الدستورية التي تقدمت بها قوى إعلان الحرية و التغيير للجسم المذكور، حيث حملت التصريحات التي أدلى الناطق العسكري باسم المجلس المذكور “أن الوثيقة أغفلت مصدر التشريع، و هو يجب أن يكون الشريعة الإسلامية و الأعراف، و أن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية” بجانب رفض بعض المفهومات الواردة في الوثيقة بينها مفهوم “المدنية” و أورد أن “إستخدمت الوثيقة كلمة المدنية و هي كلمة لم ترد في أي من دساتير من السودان السابقة و هي كلمة مبهمة تحتمل العديد من المعاني في تفسيرها و تأويلها” هذا من جهة، و من جهة أخرى عقد ما يسمى بالمجلس العسكري لقاء مع لأحزاب غير المنضوية تحت إعلان الحرية و التغيير “معظمها أحزاب موالية لنظام البشير و حركات مسلحة مستسلمة تمت صناعتها لإحداث ثورة مضادة” أو ما عرف في مجملها “بأحزاب حوار الوثبة” و قد أظهرت هذه المجموعة في لقاءها مع المجلس العسكري نهار الأربعاء 8 مايو 2019م – رغم المشاكسة و التناحر و الشجار فيما بينها – أظهرت إجماعا يطالب بضرورة قيام مجلس سيادي عسكري لا مكان للمدنيين فيه و هو ما يمكن إعتباره ثورة مضادة حرفيا لحركة الجماهير و المطالب الثورية التي صاغها إعلان الحرية و التغيير حيث تطالب قواه بضرورة تسليم السلطة لحكومة مدنية تنهي تسلط العسكر و تقوم بإدارة شئون البلاد لفترة إنتقالية تقود إلى دولة ديمقراطية مستقرة.
يتضح من موقف ما يسمى بالمجلس العسكري تجاه وثيقة قوى الحرية و التغيير الذي إعترف (هو) بتمثيلها الأوحد للحراك الجماهيري و كذلك تفعيله للقوى المضادة للثورة نهار الأربعاء بجانب الحديث عن الشريعة الإسلامية أن نظام البشير ليس حاضرا في كل صغيرة و كبيرة و حسب و إنما حدث ما كنا قد خطيناه في هذه السلسلة عن إستراتيجية نظام البشير في تسليم السلطة للعسكر عبر خطة محكمة تضمن بقاء النظام و سيطرته على مقاليد البلاد حتى مع تغيير شخوصه أو ضمان للهبوط الناعم على أسوأ الفروض. ما يسمى بالمجلس العسكري يحاول الإدعاء بأنه جزء من الثورة، و واقع الأمر أن هؤلاء الضباط العسكريين بمن فيهم الفريق أول عبدالفتاح البرهان و نائبه الفريق أول جنجويد محمد حمدان دقلو (حميدتي) لم يكن أي منهم قد إتخذ موقفا طوال الفترة الماضية (13 ديسمير – 6 أبريل) و حتى لحظة الإعتداء على المتظاهرين من قبل مليشيات النظام في السادس و السابع من أبريل الماضي، و ربما ما أجبرهم على إتخاذ موقف داعم للحراك أو القيام بمسرحية إبدال الرئيس المخلوع عمر حسن أحمد البشير هو الموقف الشجاع الذي إتخذه صغار الضباط أمام بوابتي أركان القوات البحرية و القوات الجوية بحسم قوات الأمن و مليشيات الظل عسكريا و إعلان عدد من صغار الضباط دعمهم للثورة و إنخراطهم في صفوف الثوار و ترديد شعارات الثورة “تسقط بس، تسقط تاني”. لذا فالموقف الذي أجبر كبار الضباط إلى إبدال البشير و من بعده عوض بن عوف ليس بالضرورة أن يكون دافعه الرئيسي الإستجابة للثورة و الحراك الجماهيري و إنما في الغالب ربما كان لقطع الطريق أمام إنقلاب حقيقي يقوم به صغار الضباط الذين إتخذوا قرارهم دون الرجوع إلى القيادة و خلافا للقوانين و الأعراف العسكرية. إعلان المجلس العسكري الأول و الثاني بقيادة بن عوف و البرهان بمشاركة مجموعة من الضباط الإسلاميين و قيادة المليشيات المقربين من البشير و المطلوبين في قضايا جنائية لدى المحكمة الدولية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتم بمعزل عن قيادة نظام المؤتمر الوطني و أجهزته الأمنية و غيرها من المؤسسات الداعمة و المساندة له.
ما يؤكد حقيقة أن المجلس الحالي بقيادة البرهان و حميدتي ما هو إلا إمتداد لنظام البشير هو موقف هذا الجسم من عدة قضايا بينها قضية جهاز الأمن و الدفاع الشعبي و الجنجويد “الدعم السريع” و غيرها من المؤسسات الأمنية للنظام حيث يرفض المجلس المعني حل هذه المؤسسات رغم ضلوعها في معظم الجرائم الكبرى بينها قتل المدنيين العزل و منعهم ممارسة حقوقهم في حرية الرأي و التعبير و إعتقال و مضايقة الناشطين و غير ذلك، عوضا عن الإنتهاكات البشعة التي لا تزال ترتكب في أجزاء مختلفة من دارفور آخرها أحداث نيالا التي برر لها ذات المجلس على أنها لا بد منها لدواعي أمنية رغم أن الذين تم ضربهم بالرصاص الحي هم مواطنين أبرياء عزل تحركوا من إحدى مخيمات النزوح للإنضمام لإعتصام القيادة العسكرية بنيالا. الشئ الآخر هو أن المجلس العسكري و مع أنه يتلكأ في عملية تسليم السلطة أو يرفض ذلك تدريجيا إلى جانب قيامه ببعض الإجراءات و القرارات المدنية بينها إعفاء النائب العام و تكليف آخر و كذلك قرارات مستشفى الخرطوم و أخرى تتعلق بالصحة إلا أنه يتغافل عن قضايا كبرى بينها قضية العدالة و نفيه لعدم وقوع جرائم في دارفور. أيضا مسألة إعتقال قيادات النظام السابقين بقيادة المخلوع البشير و أماكن تواجدهم، و الحديث عن وضعهم في مكان آمن مرة و مرات أخرى عن نقلهم إلى سجن كوبر دون بدء إجراء محاكمات أو عرضهم لوسائل الإعلام، و الأغرب من ذلك كله هو حديث البعض منهم بينهم النائب العام لمجلس برهان عن فتح بلاغات فساد في المال العام مع العلم أن البشير تعد جرائمه المعترف بها (هو نفسه) من أكبر جرائم كل المطلوبين لدى المحكمة الجنائية في العالم أجمع، فبينما تتهمه المحكمة الجنائية الدولية في جرائم الإبادة الجماعية و التطهير العرقي و جرائم الحرب و الجرائم ضد الإنسانية و غير ذلك من الجرائم و مع إعتراف البشير نفسه بقتل عشرة آلاف (10000) مواطن فقط في دارفور إلا ما يسمى بالمجلس العسكري بقيادة البرهان و حميدتي و لا أي من أعضاء مجلسهما قد أورد هذه القضية، و ربما هذه القضايا هي أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت الرجلان يتمسكان بالسلطة و يرفضان تسليمها للمدنيين خوفا لشروع السلطات المدنية في برنامج العدالة الإنتقالية و تسليم المتهمين المطلوبين لدى المحكمة الجنائية و الذي ربما يمتد إلى الرجلين اللذين وردت أسماءهما ضمن قائمة المطلوبين لما إقترفاه من جرائم بحق المدنيين و لمشاركتهما و تعاونهما مع البشير في تنفيذ سياساته الإجرامية فضلا عن طموح البعض منهم في الإحتفاظ بالسلطة رغم نداءات الثوار ممثلة تجمع المهنيين و قوى الحرية و التغيير بضرورة تسليم السلطة للمدنيين.
قوى الحرية و التغيير تعاملت مع هذا المجلس بنوع من حسن النية و إرتكاب خطأ الإعتراف بهذا المجلس من جانبها لأول وحلة عمل على سحب المبادرة من قوى الحرية و التغيير و جعلها في منطقة وسطى بين الثوار و المجلس في وقت فيه يحاول المجلس بناء الثورة المضادة من مجموعات الوثبة و المجموعات الدينية للنظام التي تتحرك تحت ذريعة “نصرة الشريعة الإسلامية”. أيضا الإجراءات المتبعة من جانب قوى الحرية و التغيير و أسلوبها التفاوضي أضعف موقفها إضافة إلى عدم الإنسجام بين قوى الحرية و التغيير، فبينما تعمل بعض القوى على ضرورة نقل السلطة إلى المدنيين كاملة كما في تجمع المهنيين تطالب قوى أخرى بقيادة نداء السودان إلى ضرورة إحترام شرعية الجيش و دوره في العملية السياسية و ذلك كما جاء على لسان زعيمه الصادق المهدي و هو ما يتوافق مع خطاب البشير الذي جاء في الثاني و العشرين من فبرائر الماضي و دعا فيه إلى ضرورة “الإعتراف بالدور السياسي للمؤسسة العسكرية” و هو ما أربك العملية السياسية برمتها. بينما الجماهير الثائرة و بعض قوى المقاومة المسلحة بينها حركة تحرير السودان – المجلس الإنتقالي (الأمانة العامة) و الحركة الشعبية شمال (قيادة الحلو) و حركة تحرير السودان (عبدالواحد) جميعها تتفق على ضرورة عدم الإعتراف بالمجلس العسكري و العودة إلى الشارع و مواصلة الضغط الجماهيري و الإستمرار في التصعيد لإجبار العسكر إلى تسليم السلطة لتجمع المهنيين و تكوين سلطة مدنية تتولى مهام الدولة اليومية و تعالج قضايا الحرب و السلام و القضايا الإنسانية و إحداث تسوية شاملة توطئة للدخول في فترة إنتقالية يشارك فيها الجميع تتخللها عملية بناء دستور دائم و تنتهي بإنتخابات ديمقراطية نزيهة تنهي حالة عدم الإستقرار في السودان.
و فوق كل ذلك، يتضح أنه لم يكن ما هو معلن سقف تحركات القوى المختلفة، فالقوى الإسلامية بينها حزب الأمة و حزب المؤتمر الشعبي و جماعة الإصلاح الآن و أنصار السنة و جماعة نصرة الشريعة بجانب أحزاب الوثبة تتحرك ليل نهار مع المجلس العسكري لإعطاء شرعية للمجلس العسكري الذي هو الآخر يلعب على إطالة أمد التفاوض مع قوى إعلان الحرية و التغيير بما يمكنه من إحداث إختراق و ملل وسط المتظاهرين و التركيز على فض الإعتصام من خلال محاولات متكررة و مختلفة بينها إحداث الرعب و الإعتداء على بعض رموز الحراك كالاعتداء الذي وقع صبيحة الأربعاء الماضي ضد لاعب كرة القدم السوداني الشهير الكابتن هيثم مصطفى الذي تعرض للضرب و تهشيم زجاج سيارته بالقرب من القيادة العامة و محاولة رفع التروس من وقت لآخر بحجج مختلفة هذا إلى جانب حشد الدعم المادي من دول الإمارات و السعودية و مصر مقابل إصرار الجماهير و الشباب الثائر إلى مواصلة الإعتصام و الضغط مهما كلف الأمر لحين التغيير الشامل، و هنا يبرز سؤال المرحلة، إلى متى يستمر هذا الحال، هل سينجح المجلس العسكري في فرض نفسه على الجماهير الثائرة التي تتوافد بصورة مستمرة لدعم الإعتصام و ترتب للإعتصام السياسي الشامل؟ أم هل سيستسلم المجلس و يسلم السلطة إلى المدنيين مقابل شروط تضمن تغييب العدالة و عدم المساس برموز النظام على رأسهم البشير و حميدتي و غيرهم و قضايا الفساد الكبرى بينها التنقيب عن الدهب و المعادن و غير ذلك؟ أم هل سيحدث إنقلاب عسكري جديد على مجلس البرهان و حميدتي يفرض واقع جديد و خصوصا أن صغار الصباط من رتبة رائد فما دون معظمهم يدعمون الحراك الجماهيري؟ و إلى أن يحدث إختراق يزيل هذا الإحتقان فإن المشهد الحالي قابل لكل السيناريوهات بينها العنف الشامل.
سنخصص الحلقة الأخيرة (10 – 10) من هذه السلسلة متابعينا لتسليط الضوء على دور المرأة السودانية في حراك (ديسمبر – أبريل) و الذي أنهى أطول فترة حكم ديكتاتوري في السودان.