عبدالعزيز النور
مواصلة لمتابعتنا و قراءتنا للحراك الجماهيري في السودان و ردود أفعال النظام و خطته للتعامل أمنيا مع الحراك بعيدا عن أي محاولات لحل المشكل السياسي في السودان و الأزمة الإقتصادية كنتيجة لذلك. و هنا لا بد من الإعتذار منكم القراء الكرام لتأخير كتابة المقال بسبب ظروف خاصة و غير إرادية و هذا ربما يكون أحد أسباب إطالة هذا المقال لتراكم الأحداث و التي أرى أنها حتى الآن تسير وفق قرآءتنا السابقة في هذه السلسلة، أامل أن أكون عند حسن الظن.
الحراك الجماهيري ما بعد ستة أبريل ليس هو الحراك الجماهيري في أي من مراحله السابقة، كما أن التحضير و التخطيط له من قبل تجمع المهنيين لسودانيين و قوى الشعب الحية و إختيار القيادة العامة العسكرية كوجهة له من جهة و الحشد له من قوى التغيير الشامل التي سيرت مواكب تحضيرية في سوق ليبيا و أمبدات بأمدرمان في الرابع و الخامس من أبريل بجانب حشد قوى إعلان الحرية التغيير و غيرها من جهة أخرى، حيث قتل حراك 6 أبريل آمال النظام و منسوبيه و أحلامهم في تراجع الشارع أو تشتيته مهما كلف الأمر، و قطع الطريق أمام المترددين، و التأكيد على أن التغيير خيار الشعب، و أن “حرية سلام و عدالة” هو سقف الثورة الأدنى. الجموع التي إنتظمت في السادس من أبريل من كل حدب صوب القيادة العامة، غير مكترثة بالفتاوي الصادرة من رجال دين البشير التي تبيح للحاكم قتل ثلثي الشعب أو حتى نصفه بوصفه راعي الأمة – حين قال البشير وفق أعضاء المجلس العسكري الإنتقالي “طبعا إنتو عارفين نحن ندين بالمذهب المالكي، و المذهب يبيح لنا قتلى ثلثي الشعب أو نصفه حسب المتشددين ليعيش المتبقي منه في رفاه” – و غير آبهين برصاص القناصة التي تم توزيعها على كل الشرفات و الطرقات المطلة و المؤدية إلى القيادة العامة و حولها، الرصاصات التي صعّدت ستة شهداء في اليوم الأول من إعتصام القيادة. الإصرار و الصمود و العزيمة الجماهيرية و حنكت الجماهير السودانية في مخاطبة الجيش السوداني “الجيش معانا و ما همانا” عملت على إحياء و إعمال الضمير المهني و الإنساني بين صغار الضباط، الذين سرعان ما قرروا مواجهة قناصات البشير و أعوانه الذين إعتزموا فض الإعتصام خلال 48ساعة، حيث قرر صغار ضباط الجيش حماية المدنيين السلميين المعتصمين أمام القيادة العامة و فتح بواباتها للجماهير للإحتماء داخلها دون الرجوع إلى أحد غير قسم القوات المسلحة الذي أدوه بداية خدمتهم، و قدموا لقاء ذلك عدد من الشهداء و الجرحى و بعضهم تمت محاكمتهم عسكريا بصورة عاجلة.
صمود المعتصمين لأكثر من ثلاثة أيام جعل البشير و أعوانه يدرسون خيارات المواجهة أو الإستسلام معا، و مع أن البشير نفسه كان يفضل المواجهة و العنف المخطط له منذ بدء الإحتجاجات كما أسلفنا، إلا أن بعض أعوانه الذين يدركون حساسية الظرف و إمكانية فشل المواجهة خصوصا بعد إنضمام عدد كبير من صغار الضباط و ضباط صف و جنود من القوات البحرية و الجوية تيقنوا بفشل أي محاولات عنف لفض الإعتصام، و فضلوا سيناريو التسليم، و كان إعلان تنحي البشير في 11 أبريل و تسليم السلطة للفريق أول عوض بن عوف نائبه الأول كرئيس لمجلس عسكري إنتقالي حيث أثار إعلانه بديلا للبشير حفيظة الجماهير التي تدافعت من كل مكان دعما لإعتصام القيادة و بالتالي إجباره على التنحي هو و نائبه كمال عبدالمعروف رئيس هيئة الأركان المشتركة في أقل من 30 ساعة بعد إعلانهم، لتُسلم السلطة إلى مجلس عسكري إنتقالي آخر بقيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان عبدالرحمن قائد القوات البرية و نائبه الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) زعيم قوات الجنجويد المعروفة بالدعم السريع بتاريخ 12أبريل، أي في اليوم التالي لتنحي البشير، فيما ضم المجلس العسكري الثاني الإسلامي البارز الفريق أول عمر زين العابدين و مفتش عام الشرطة السودانية الفريق أول الطيب بابكر و مسئول جهاز الأمن السيد جلال الدين الشيخ. و رغم تأرجح الشارع ما بين قبول و رفض شخوص المجلس الجديد إلا أن تركيز الشارع إنصب نحو تحقيق أهداف الثورة و تطبيق شعار حرية سلام و عدالة و المطالبة الفورية بتسليم السلطة لحكومة مدنية و حل المؤسسات القمعية و الأمنية التابعة للنظام على رأسها جهاز الأمن و المخابرات و كذلك مليشيات الدفاع الشعبي و تحويل أصول و أملاك و أموال هذه المؤسسات لمؤسسات خدمية لمصلحة المواطن بجانب المطالبة بإقالة و ملاحقة جميع رموز النظام البائد و تقديمهم للعدالة. تلكؤ المجلس في تنفيذ مطالب الشارع أدى إلى حشد المزيد من الجماهير لدعم الإعتصام، و إرتفع سقف المطالب إلى ضرورة إبعاد بعض شخوص المجلس بينهم عمر زين العابدين الذي بدى واضحا في عدم تعاونه مع قوى الجماهير ممثلة في تجمع المهنيين السودانيين و قوى إعلان الحرية و التغيير. و بعد لقاءات متفرقة بين المجلس العسكري من جهة و قوى إعلان الحرية و التغيير و تجمع المهنيين السودانيين و قوى أخرى من جهة، حاول المجلس جاهدا عدم الإستجابة لأي من مطالب الجماهير بحجج أن قوى أخرى قدمت رؤى سياسية مختلفة في إشارة إلى قوى الإسلام السياسي حيث قال الفريق عمر زين العابدين رئيس اللجنة السياسية بالمجلس العسكري “هناك أكثر من 100 مقترح تقدمت بها قوى سياسية مختلفة و سوف ننظر في أمرها” خصوصا بعد لقاء السيد على الحاج الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي و بعض الإسلاميين الآخرين بالمجلس العسكري، الأمر الذي دفع تجمع المهنيين و قوى إعلان الحرية و التغيير إلى إعلان وقف التفاوض و التصعيد الجماهيري لحين الإستجابة لمطالبهم بينها الإعتراف بقوى إعلان الحرية و التغيير الممثل الشرعي الوحيد للجماهير و عدم التحجج مرة أخرى بأي مقترحات تقدمت بها جهات غير معلومة. فيما يلاحظ إختفاء الفريق صلاح عبدالله قوش مدير جهاز الأمن و المخابرات من الأضواء تماما عقب إعلان إستقالته 14 أبريل بالرغم من المزاعم التي تنسب له تشكيل المجلس العسكري الأول و الثاني.
تلكؤ المجلس العسكري و محاولاته كسب الإعتراف من قوى محلية و دولية دون مطالب الجماهير جعل تجمع المهنيين السودانيين يقرر الإستمرار قدما في تنفيذ مطالب الجماهير دون الإلتفات للمجلس العسكري، و كان من المتوقع أن يعلن التجمع عن حكومة مدنية مساء الأحد 21 أبريل، و سرعان ما تدخل المجلس و طلب عدم إعلان الحكومة تزامنا مع تذبذب بعض قوى المعارضة التي ظلت تلتقي المجلس بصورة منفردة الأمر الذي جعل التجمع يؤجل إعلان الحكومة المدنية إلى اليوم الخميس و سط دعوة الجماهير إلى الإعتصام أمام القواعد العسكرية في كل بقاء السودان و دعم إعتصام القيادة العامة في الخرطوم. و في تطور لافت و مع إستمرار الضغط الجماهيري و دعم إعتصام القيادة من خلال أكبر حراك جماهيري غير مسبوق حيث تحرك مواطني مدينة عطبرة بواسطة أربعة قطارات في أروع و أعظم و أضخم مشهد ثوري تظاهري لا مثيل له على مستوى العالم عانقته حشود إستقبالية في العاصمة الخرطوم و إلتحمت الجماهير التي إختلطت عليها دموع الفرح و الإنتصار و العاصمة و التحدي و الشموخ و شكلوا معا “مدينة الثورة الجوالة” عند دخول العاصمة الخرطوم بتاريخ 23 أبريل، هذا المشهد قضى على كل محاولات الشك في تراجع الثورة السودانية، و قطع الطريق أمام قوى المساومة التي حاولت التسلل خفية للقاء المجلس العسكري الإنتقالي و الإعتراف به رغم رفض الجماهير ذلك. تصعيد الحشد الجماهيري و وصول مدينة عطبرة الثورية الجوالة إلى الخرطوم و إعلان إعتزام مدن أخرى بذات الطريقة لدعم الحراك الجماهيري و إعتصام القيادة العامة جعل المجلس العسكري يستجيب تباعا لمطالب الجماهيري بينها الإعتراف بقوى إعلان الحرية و التغيير كممثل شرعي أوحد للجماهير بجانب إبعاد بعض الشخوص غير المرغوبين من المجلس العسكري بينهم الإسلامي المعروف عمر زين العابدين و جلال الدين الشيخ. و يعتقد أن إستجابة المجلس لمطالب قوى إعلان الحرية و التغيير لم تأتي إستجابة للضغط الجماهيري و حسب، و إنما لإدراك المجلس العسكري بموقف صغار الضباط الذين أعلنوا موقفهم الداعم للجماهير، و أن أي حكومة يتم الإعلان عنها بواسطة الجماهير و قواها الحية في ميدان الإعتصام قد تلقى دعم من هؤلاء الضباط الذين وقفوا بصف الجماهير و حمايتهم مع بدء الإعتصام.
عدم إعلان حكومة مدنية من قبل تجمع المهنيين السودانيين يومالأحد 21 أبريل ليس فقط بسبب عدم رغية المجلس العسكري ذلك و مطالبته بعدم الإعلان عنها، و إنما جاء أيضا لعدم توافق بعض قوى إعلان الحرية و التغيير فيما بينها، حيث إتضح جليا أنه و في الوقت الذي يعمل تجمع المهنيين على توحيد جبهة المواجهة لكونه قائد الحراك، أبدت بعض القوى السياسية المعارضة رغبتها للتعامل المباشر مع المجلس الإنتقالي دون إكتراث لهتاف الجماهير “تسقط تالت” إذا لم تنفذ مطالب الجماهير، كما بدت الملاسنات و تبادل الإتهامات بالخيانة بين بعض القوى لمستوى البيانات الرسمية أبرزها المناكفة بين حزبي المؤتمر السوداني و الشيوعي، فيما أسرعت مجموعتي الجبهة الثورية من داخل نداء السودان بالإعلان بأن قوى نداء السودان التي إلتقت المجلس العسكري في الداخل لا تمثلها في إشارة إلى رغبتها للقاء المجلس بصفتها المسلحة منفردة، و سرعان ما إجتمعت هذه القوى في مدينة أبوظبي بالإمارات العربية المتحدة وسط إنشقاق و تبادل الإتهامات فيما بينها بمحاولة إقصاء بعضها الآخر، و أيضا لقاء أبوظبي يأتي ضمن محاولات بعض القوى الإقليمية الإلتفاف على الحراك الجماهيري و توجيهه بما يخدم مصالحها من خلال تمكين المجلس العسكري الذي يمثل قائده عبدالفتاح البرهان و نائبه حميدتي مصادر توفير المورد العسكري البشري لحرب التحالف العربي في اليمن. و تقربا للمجلس العسكري، فقد أعلن القيادي بالحركة الشعبية شمال / جناح مالك عقار السيد ياسر سعيد عرمان أحد قيادات الجبهة الثورية السودانية و نداء السودان ترحيبه بالمجلس العسكري و إظهار قائديه على أنهم ليس لهم علاقة بالإسلاميين و وصفهم بالقيادات المميزة و الحلفاء المحتملين، رغم ما يعرف عن الرجلين من دموية مفرطة و جرائم بشعة إرتكباها بحق المواطنين الأبرياء العزل في دارفور منذ بدء الحرب 2003م و تهجير و قتل مئات الألوف منهم.
بتاريخ اليوم الخميس 25 أبريل أعلنت قوى الحرية و التغيير بدلا عن تجمع المهنيين السودانيين، تأجيل إعلان أسماء مرشحيها للسلطة المدنية الإنتقالية و ذلك بعد إتفاقها مع المجلس العسكري و تكوين لجنة مشتركة لمعالجة ما أسمتها القضايا الخلافية العالقة، كما جاء في البيان طلب قوى إعلان الحرية و التغيير بضرورة إلغاء كافة الأحكام الصادرة ضد قادة الحركات الثورية المسلحة و إطلاق صراح جميع الأسرى حيث – برزت قضية الأسرى بقوة ضمن مطالب قوى الحرية و التغيير بعد الحملة التي قادتها الحركات المسلحة بضرورة إطلاق سراح الأسرى و المحكومين تعسفيا من منسوبيها – فيما أظهر المجلس العسكري من جانبه الرغبة في الأمر و الشروع الفعلي في القيام بذلك في مقبل الأيام و ذلك على خلاف موقف المجلس العسكري السابق تجاه الأسرى، كما دعت قوى إعلان الحرية و التغيير في بيانها اليوم إلى الإستمرار في التصعيد الجماهيري و الحشد للمليونية و التي كانت خصصت لإعلان الحكومة المدنية الإنتقالية. و مع عدم الإفصاح عن ما أسمتها قوى الحرية و التغيير القضايا الخلافية العالقة تبقى العديد من الأسئلة عالقة في أذهان الجماهير بينها، هل مسألة العدالة ضمن القضايا الخلافية العالقة ؟ هل مسألة تسليم البشير و المطلوبين الآخرين للجنائية ضمن هذه القضايا في وقت فيه يحتشد آلاف السودانيين يوم غد الجمعة أمام محكمة الجنايات الدولية لذات الغرض ؟ هل ستقبل قوى التغيير ببقاء السيد محمد حمدان دقلو(حميدتي) ضمن المجلس العسكري رغم صراخ الملايين من ضحاياه في دارفور؟ …الخ من الأسئلة التي من شأنها أن تضع حدا لمستقبل مستقر في السودان إذا ما وجدت الأجوبة الصحيحة و إتخذت موقعها ضمن أولويات الحكومة الإنتقالية. يلاحظ أيضا خلو خطاب قوى إعلان الحرية و التغيير من الجانب التنويري المتعلق بطبيعة الحكومات السابقة و أسباب فشلها، حيث أنه من المفيد التذكير بأن 54 عاما من جملة سنين حكومات ما بعد 1956م كانت بواسطة المؤسسة العسكرية بدءا من حكومة الجنرال إبراهيم الذي حكم لفترة8 سنوات و العقيد جعفر نميري 16 سنة و الجنرال البشير 30 سنة و كل منها قادت إلى أزمة سياسية قاتلة إنتهت بإنتفاضة شعبية و هي تجارب بلا شك مدمرة و معيقة لا تحتاج إلى تكرار و أن على المؤسسة العسكرية تحمل هذا الخطأ و الإلتزام بعدم التدخل في شؤون الحكم مرة أخرى، كما أن عليها الإلتزام بمهامها المنصوص عليها في الدستور فقط، و أعتقد أن ذلك سيكون مفيدا إذا جاء في خطاب قوى إعلان الحرية و التغيير لمليونية اليوم الخميس.
أعتقد أن قوى إعلان الحرية و التغيير و بعد إعتراف المجلس لمطلبها و قبولها كممثل شرعي للجماهير، هي بحاجة إلى عدم القفز على الواقع السياسي المعقد، حيث لا يزال وضع الحرب في العديد من المناطق في السودان ضمن العملية السياسية و الحراك الشعبي الثوري المسلح الذي سبق الحراك الجماهيري السلمي الذي فرضه النظام على الشعوب السودانية بعد أن أطلق النظام يد قواتها و مليشياتها للإعتداء على المواطنين في مناطق دارفور و جنوب كردفان و النيل الأزرق و التنكيل بهم و مصادرة حقوقهم و حياتهم، و إذا كانت قوى الثورة المسلحة سباقة في مواجهة النظام، فمن الأجدر مشاركتها في الحكومة الإنتقالية وفق برامج لمعالجة قضايا الحرب و آثارها، و هذا يتطلب أن تأجيل حكومة الفترة الإنتقالية و العمل وفق حكومة تسيير أعمال للفترة ما قبل الإنتقالية لحين إحتواء و مشاركة جميع القوى السودانية المختلفة في الفترة الإنتقالية و عملية بناء الدستور الدائم الذي يقود لفترة لوضع ديمقراطي و بناء دولة سودانية مستقرة.
oudingdumg0214@gmail.com