عبدالعزيز النور
تناولنا في فاتحة هذه السلسلة أسلوب النظام في التعاطي مع القضايا بصورة و التخطيط و التدبير الأمني لإجهاض أي حراك شعبي مقاوم لسياسات النظام أو أي من الإحتجاجات المطلبية الداعية إلى معالجة وضع معين أو طارئ كما الحالة الإقتصادية التي فجرت الحراك الثوري الآن. الواضح كما أسلفنا أن الأجهزة الأمنية للنظام إتبعت تاكتيكات و سيناريوهات مختلفة طوال الشهرين الماضيين لمجابهة الحراك الذي هو الآخر ظل يطور وسائله و أدواته يوما بيوم، كما إتضح جليا أن النظام ليس لديه أدنى فكرة جادة للخروج من مأذقه حيث قادته إليه سياساته غير المدروسة، و هذا ما يبين جمود النظام و تخشبه أمام الحراك، و إنغلاقه في دوائره الأمنية دون طرح أي معالجات لحالة الصدمة التي ضربت مجالات الحياة المختلفة بينها السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية بخلاف الوعود الأخيرة بإمكانية خلق فوضى إجتماعية للبطالة و العربدة و الحديث عن فتح الأماكن العامة للشباب و سحب و إلغاء شرطة النظام العام و تجريمها و السماح للشباب “الثائر” بتدخين الشيشة و عدم مضايقة الناس في ممارسة الحقوق الفردية الأمر الذي يعكس غرابة منسوبي النظام و قيادته و جهلهم بمطلوبات الشباب التي لخصها في “حرية سلام و عدالة،، سلمية سلمية ضد الحرامية” في إشارة إلى رغبة الشباب الجادة في أنتزاع حقوقه كاملة و إنهاء المظالم و محاربة الفساد و بناء وطن مستقر قوامه العدل و المساواة و هذا ما لا يمكن أن يحدث إلا بإسقاط النظام.
يجب أن نذكر أنه و منذ بدء الإحتجاجات الحالية في السودان، حاول النظام إستخدام لعبة “فرق تسد” التي أبقته في السلطة طوال ثلاثين عام “منذ الإستيلاء عليها في يونيو 1989م” و هذا ما تعكسه ردة فعل جهاز الأمن على التظاهرات في مدينة عطبرة – و دونكم تصريح صلاح قوش المعروفة ضد أبناء دارفور – و بالتالي قتل و إعتقال العديد منهم في سنار و الخرطوم و خلق مسرحيات غريبة، لقيت هي الأخرى إستهجانا و رفضا كبيرين من الشارع السوداني، أضف على ذلك أن المسافة بين عطبرة و سنار وحدها كفيلة بإسقاط أي دعاوي من هذا القبيل. إلا أن حصافة الشارع السوداني جعلته يدرك مرامي النظام في ضرب وحدته، ليأتي رد فعل الشارع على أن “كل الشعب السوداني واحد” و كل الشارع دارفور إذا كان أبناء دارفور هم من يقومون بالحراك الجاري كما في شعار “يا عنصري و مغرور، كل البلد دارفور”… هذا الموقف و الذي يحدث لأول مرة في التاريخ السوداني أن يصطف الشارع السوداني بيد واحدة و قلب واحد و وجدان شعبي موحد، قد أبطل للنظام مخططه في مواجهة الإحتجاجات و أكد أنه لا مجال لتقسيم الشعب السوداني أكثر مما سبق.
إتهام النظام للشباب الثائر بالتخريب، جعل الشباب الثائر يدرك مسرح العبث الذي يحاول النظام جر الشارع إليه “مسرح العنف” حيث يجيد النظام أضابيره. و على العكس و بخلاف الثقافة التظاهرية السائدة في التخريب و التكسير في مظاهرات عرضية سابقة لغير جيل اليوم، فإن وعي عام إنتظم لدى الشباب الثائر الذي رفع شعارات “سلمية سلمية، ضد الحرامية” مقابل ضبط نفس ذاتي منقطع النظير في الحراك رغم الإستفزازات و القمع الوحشي و قتل المتظاهرين بالرصاص الحي و التعذيب و السحل و إصابات المآت و الإعتقالات غير المحدودة و مصادرة أجهزة التلفونات و النهب و التحرش بالثائرات و غيرها من الأساليب التي تكفي لتحويل مجرى المظاهرات إلى أعنف ما يمكن أن تكون و هذا ما كانت ترغبه الأجهزة الأمنية وفق خطة النظام الذي لا يجيد غير العنف. لم يكتفي الشباب الثائر بإعجاز النظام في جره إلى مسرح العنف و حسب، و إنما خاطب الحراك قضايا القوات الأمنية الباطشة كما في شعارات “يا بوليس ماهيتك كم” في محاولة لتوعية هذه القوات بقضيتها أولا و التأكيد على سلمية الحراك الذي لا يستعدي أحد، و قد نجح الحراك في ذلك حيث أنه تم رصد صور و فيديوهات لأفراد من الشرطة و الجيش يعانقون الشباب الثائر و يتجاوبون مع الحراك بصورة إيجابية كما إتخذ بعض منسوبي هذه القوات مواقف رافضة لإستخدام العنف و مؤيدة للحراك أودت إلى توقيف و محاكمة و سجن حوالي أكثر من 60 من منسوبي الشرطة و الجيش حتى الآن، في وقت يطالب فيه منسوبي جهاز الأمن بأن تكون “التعليمات كتابة” في ما يتعلق بفض المظاهرات حتى لا يتم التضحية بهم بسبب “تعليمات شفوية”.
تأثير الحراك على القوى الأمنية لم يقتصر على ردة فعل الأفراد الذين يقبعون في السجون بسبب رفضهم العنف ضد الشباب السلمي، و إنما حرك خطاب الشارع المنتفض مؤسسة الجيش و ذلك بعد أن تصاعدت أعداد قتلى الحراك السلمي و دوت هتافات “الطلقة ما بتقتل، بقتل سكات الجيش” و هذا ما جعل قيادة الجيش تظهر للعلن لأول مرة منذ الحراك، ليس من خلال متحدثها اؤ ناطقها الرسمي و إنما بواسطة قيادتها العليا على رأسها وزير دفاع النظام و رئيس هيئة أركان حربه و إعلان دعمهما “ظاهريا” للرئيس عمر البشير، و لكن هل حقا كان الغرض من هذا الظهور هو إعلان الدعم للبشير ؟؟… النظام و بعد بيان عجزه عن مواجهة الحراك الجماهيري الذي إنتظم في جميع بقاع السودان الآن أو تشتيته، يحاول النظام الإلتفاف على الحراك من خلال طرح مبادرات سواء أكانت بصورة مباشرة منه أو بواسطة موالين للنظام أو متعاونين من بعض القوى و ربما قد يلجأ النظام إلى خيار الجيش من أجل ضمان الهبوط الناعم، و هذا ما يشير إلى ضرورة فهم تحركات قيادات الجيش في الآونة الأخيرة.
أعتقد أن ظهور الجيش لم يكن منه الهدف إعلان الدعم المطلق لبقاء البشير في السلطة، و لكن ربما جاء إظهاره بعد أن تأكد النظام أن الحراك لا يمكن إيقافه البتة، و أنه لا بد من إيجاد مخرج آمن له، و أن المخرج الآمن سيكون عن طريق تسليم للسلطة للجيش كما جاء في خطاب البشير بوادي “الحمار” بنهر النيل و كذلك بالساحة الخضراء في الخرطوم بأنه سيسلم السلطة للجيش إن دعت الضرورة. أيضا أن النظام يدرك أن تسليم السلطة للجيش بين عشية و ضحاها لن يوقف الحراك الجماهيري المدني السلمي و أن الشارع لن يتراجع لمجرد إعلان إنقلاب عسكري من قبل شخوص البشير “المذكورين”، و أن سيناريو من هذا القيبل لم يعد مقبولا، لذا كان لا بد من إدخال الجيش كطرف ثالث في الحراك “الذي إنحصر بين الشارع السوداني الثائر من جهة و نظام المؤتمر الوطني و منسوبيه من أخرى”، كما أعتقد أن الجيش سيظهر كثيرا في الأيام المقبلة للحديث عن الأمن و ضرورة عدم الإنفلات و حفظ الأمن و عدم الإنزلاق للحرب و غير ذلك – رغم أن البلاد في حالة حرب لأكثر من ستين عام – و هذا ما يحتاج إلى سيناريوهات “جيوش صلاح قوش الذي يقول إنها جاهزة للإنقضاض على الخرطوم” فهل يفتعل النظام معركة مصطنعة لإخراج سيناريو الجيش حتى يضمن مخرج آمن له و لمنسوبيه؟. أم أن النظام يخطط هذه الأيام لإفتعال أزمة إقليمية كبرى يجبر معها القوى الإقليمية و الدولية للتعاون معه و دعمه لأجل الهبوط بسلام في المستقبل القريب.