ضبابية المشهد وأحداث نقلة نوعية
د. الهادي عبدالله إدريس ابوضفآئر
أن الحديث عن نجاح الثورة تكمن في فهم قواعد اللعبة السياسية التى تحتاج إلى معرفة الخصم، وعملية التدافع هل هي قآئمة على أساس المنافسة (رابح- رابح) ام (رابح – خاسر) دون عواطف أو مجاملة، إضافة إلى معرفة قناعات المنافس عن مجال المنافسة. فرجل السياسة يجب أن يمتلك قدرات ومؤهلات ومهارات فن قواعد اللعبة والتحرك الجيد في المساحات المتاحة للوصول إلى الأهداف المرجوة. المؤهل وحده سيظل عاجزاً للوصول إلى مخرج آمن ما لم يحرسه الشعب فهو الضامن الحقيقى للأهداف المرجو تحقيقها.
لكل ثورة شروط لابد من توفرها، كالظرف الموضوعي الذي يسمح بتغيير ثوري بإرادة شعبية واعية تؤسس لمجتمع ناضج مهمته تطوير المفاهيم بإستمرار وفقاً لتقلبات الحياة المستجدة والتناقضات المثيرة لحركة المجتمع وعلاقات التأثير والتأثر المتبادل، ليصوغ كآفة مجالات الحياة العلمية والتطبيقية صياغة جديدة. فالعوامل التى توفرت لقيام الثورة ما زالت جزء كبيرة منها تشكل حضور في المشهد السياسي. إذن لابد من وعي هذه الظروف والتعامل معها بحكمة وعقلانية تؤطر لثورة شمولية كبرى تنتج دولة حضارية تحرر الشعب من الذل والاستعباد ، فالشعب الذي لا يملك الحرية غير قادر على إحداث اي تغيير لأن الحرية شرط لحدوث النهضة، حيث يستطيع الإنسان التعبير الحر عن فكره سواء وافق أو خالف المجموعة، مُطلِقاً لعقله العنان ناظراً متأملاً في مجالات المعرفة ودروب الحياة. فكلما استطاع الإنسان أن يبدع فأنه يتجاوز واقعه إلى واقع أفضل.
حتى لا يتكرر إغتيال الامل فالالتزام الكامل بالشعارات التى رفعتها الثورة ومن أجلها استشهد نَفَرٌ كريم لهم الرحمة والمغفرة، يعد عامل أساسي لبنآء الثقة ونجاح الثورة مما يسهم في تشكيل وطن يسع الجميع. تلك التضحيات تحتم علينا مواصلة المشوار حتى يتطابق الأفعال مع الأقوال والمحسوس بالمعقول. أن المصداقية في تغيير السلوك الممارس من قبل النظام البآئد يعتبر أوليه، فالجوء إلى الإجرآءات الإنتقامية عند النصر والتمكين من العدو يتجافى ومبدأ العدالة، لأن الدول لا تبنى على الحقد والانتقام، بينما تبنى بصيانة المفاهيم الوطنيه التى تأخذ كل الأشكال الإيجابية والقومية مضافاً إليها مفاهيم المعاملة والخلق القويم، وتحويل التعليمات الإلهية المطلقة إلى واقع موضوعي في عالم النسبية (تغيير المحتوى وثبات النص ونسبية الفهم) بما أن أئمة المتقين في فرقان محمد صلى الله عليه وسلم هم من أئمة العلم المادي الذين يؤمنون بالبينات المادية والتفكير العلمي البعيد عن الخرافة والشعوذة والدجل ولا علاقة لها بالشطحات الصوفية وكرامات الأوليآء (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
دوماً تجد أعدآء التقدم والازدهار يتآمرون لمنع تقدم الشعوب للالتحاق بركب الامم المتقدمة، يريدونها دولة رجعية تنظر إلى الورآء لتقود بها المستقبل، ويتهمون دعاة التغيير بالتآمر، فالتاريخ ملئ بالأحداث مثلما اتهم فرعون موسى السحرة بالتآمر، والمشهد يتكرر في ساحة الاعتصام، مثل رمي الثوار بالشيوعية وأعدآء الشريعة، ولكن أن اي شريعة يتحدثون، إذا كانت شريعة الله فعليكم بأعمال الآية الكريمة (الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ). السؤال البدهي هو اين مشروعكم الاقتصادي الذي يُؤمن للناس الحد الأدنى من الحياة الكريمة، الذي يوفر فرص العمل ويوزع موارد الدولة بالتساوي ويقدم التنمية المتوازنة. من الأشيآء التى تؤدى إلى تدمير الدولة وانهيارها أن تكون مقاليد الأمور بيد طبقة معينة ولها الامتيازات دون سائر البشر وخاصة في النعم والرفاهية والإسراف (إِنَّ هَٰؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ). السؤال المطروح لآئمة السلطان هل جاء الإسلام ليحيى الناس به ام ليحيوا من اجله؟ فإذا جاء الإسلام ليحيى الناس من أجله فهذا يعني أنه لا يتناسب مع فطرتهم وفرض عليهم فرضاً وسيأتي يوماً يهربون منه أما إذا جآء ليحيوا به فهو متناسب معهم في كل زمان ومكان.
أكبر مشروع لتدمير الدولة عدم امتلاك رؤية اقتصادية وسياسية واضحة المعالم ومشروع كوني عملاق يستطيع أن يحرك عجلة الحياة ويقديم الأفضل لحياة الناس في قضايا المعاش والأمن والصحة والتعليم وتوفير مساحة حرة لنظام ديمقراطي يقوم على حرية التعبير عن الرأي وتوفير لقمة العيش، اي مشروع دعوة بدونه هو مشروع فاشل بإمتياز ، لان الناس لا يريدون استدعآء النصوص الدينية بدون فهم وانزالها على أرض الواقع، فهل وجدتم فرقة إسلامية عجزت عن استدعآء النصوص لكي يخدم اهدافه حتى داعش وبكو حرام لديهم مخزون من النصوص التى يدعمون به مواقفهم. المشكلة ليست في النصوص ولكن في فهم النص. كل فرقة بما لديهم فرحون ويعتبرون دينهم الحق، ويدّعون امتلاك الحقيقة المطلقة، مما ولدت آليات التحكم في الناس، فأنت أمام خيارين لا ثالث لهما اما أن تبيع نفسك وتسقط عقلك أو تخرج من الجنة الموعودة. بما أن الفقهآء اجتهدوا لمجتمعاتهم ولم يجتهدوا لنا فمشكلتنا تكمن في استمرارية الاعتماد على اجتهادهم مع اختلاف أدوات البحث والزمان والمكان، مما ولدت فقهاً يدعو إلى القبول بالظلم والرضوخ له، وانتظار الأقدار لتغيير الواقع، فاضحت طاعة السلطان وان كان ظالماً واجب والخروج عليه يعتبر من المحرمات. الأمر الذي ادى إلى قتل الفكرة والعقل معا، وهما دعامة النجاح لأي مجتمع وعليهما تقوم الإيمان والتكليف وبهما تتم إعمار الأرض ونصرة دين الله.
السياسة مجال مختلف لانها مرتبط بالواقع، اما الدعوة مرتبط بالمثال الذي يحدثنا عما ينبغي أن يكون، بينما السياسة تحدثنا عما ما هو كائن. سيدنا يوسف عندما استلم الوزارة ودخل في السياسة لم يفرض أجندته الدعوية على الدولة، فهل معنى ذلك انه تخلى عن أخلاقه كمسلم؟ وترك التقوى ام أصبح إسلامه وتقواه وأخلاقه قيمة مضافة فيما كان يمارسه من سياسة. ينبغي على الانسان ألا يزور الماضي إلا بقدر احتياجه لافتكاك فرص في المستقبل، لأن الإسلام الذي نجده في ثنايا الكتب، والأفكار التي تتحدث عن شكل الدولة وطرق إدارتها لم ولن تسمح لنا بالعبور إلى العصر الذي نعيشه، ما لم نعيد النظر والبحث فيها مرة أخرى ومقاربتها ضمن الأرضية المعرفية السآئدة الآن، ومقارنتها مع ما هو موجود بطرق تسمح لنا باكتشاف كنوز الإسلام التى تسمح بافتكاك المستقبل.
هذه الثورة استنهضت همم الناس وجعلهم ينظرون لغد أفضل. فالشعارات إلمطروحة مثل حرية سلامة وعدالة والثورة خيار الشعب، يالعنصري المغرور كل البلد دارفور ينبغي ألا تكون مجرد كلمات تنطقها الحناجر وهتافات تملآء الطرقات بل إن تتحول الى واقع معاش تتلمس طريقها الى مؤسسات الدولة (البنوك، والخارجية، الداخلية، الامن، المؤسسة العسكرية، حصة السودان في المنظمات الدولية الأمم المتحدة، الاتحاد الأفريقي، جامعة الدول العربية، السفارات، الإذاعة والتليفزيون كل مؤسسات الدولة المدنية) بان تصبح مؤسسات قومية تتمثل فيها كآفة ألوان الطيف السياسي والاجتماعي والقبلي وفيها البعد الاجتماعي الإقليمي والمحلي. تستوعب الظلمات التي دعت الأطراف لحمل السلاح ضد المركز متمثلا في اقتسام السلطة والثروة بكافة مستوياتها، فآليات التصعيد يجب ان تأخذ مداها حتى تكتسب الدولة مشروع تغيير متكامل تسمح لها بإنشآء مجتمع متساوي في الحقوق والواجبات، مما يؤدي إلى تغيير كفة الميزان تدريجيا لصالح الكتل المظلومة تاريخياً. وتوقف محاولات العبث والتمرد على الاصلاح التى غرست اظافرها في جسد الدولة المريضة وتدخلت لمنع الشفاء.
يسود الاعتقاد عند البعض أن الثورة لوحدها يمكن أن تحدث تحولاً في إدارة الأزمة ونظام الحكم، لكن في الواقع نحتاج إلى مزواجة بين الثورة وحكام مستنيرين وقانون يطبق على كل فئات المجتمع بما فيها القصر الجمهوري، تلك التحولات الكبرى لم تتحقق نتيجة الثورة وإنما نتيجة وعي اجتماعي متطور بين نخب الحكم ونخب المجتمع فالمزواجة بين الفضآءين يؤدي إلى رفع مستوى الوعي وتطوير المجتمع مما يؤثر على القيادة بشكل إيجابي. الإشكالية ليست فقط في القمة فالمشكلة عندنا أعمق وأعقد في القاعدة فالقادة ليست وحدهم اس البلآء فالمشكلة تكمن في القاعدة الجماهيرية التى لم تكن جاهزة لعمليات التنوير والإصلاح.
ما لم تستوعب الثورة امكانية صياغة عقد اجتماعي على اسس توافقية وضمان تفعيل آلية التراضي بين مجتمع مختلف الأعراق والأديان والعادات والتقاليد والسحنات سوف تنشأ اضطراب في دولاب الدولة. فالدولة المعاصرة عبارة عن تعاقد بين الناس للعيش المشترك فيما بينهم وليست وليدة الأفكار المختزنه في الأذهان، عندما تقترب منها تجد نفسك في وهم كبير، دولة الكيزان خير مثال، الهفوات والاخطآء ليست الإشكالية أنما الإشكالية تكمن في عدم المراجعة بعمق حول مآلات الفعل رغم قساوة التجربة والفشل في معظم مناحي الحياة كالتفكك والتآكل المستمر في بنية المجتمع، ولكن المحاولات الفاشلة لا تعنى اليأس من وجود الحل, دوما مسار الثورات لا يكون دائما في خط مستقيم. لكي نعالج اوضاعنا البآئسة لابد من معالجة جذور الأفكار التى أنتجتها. رغم التحديات الكبيرة التي تواجه الثورة لكن الخروج من الطوق ليست بالأمر المستحيل ما دام الشعب يمتلك إرادة التغيير.