بقلم عثمان نواى
الشخصية المثيرة للجدل حسين خوجلي خرج فى قناته مؤخرا وفى عدة مناسبات منذ بداية الثورة مدافعا عن النظام وعن عشيرته الكيزانية. ومن نقاط الدفاع التى يكررها الرجل كثيرا ويستند إليها هو افتخار الإسلاميين الكيزان بتقديم آلاف الشهداء دفاعا عن الفكرة والمشروع، وأيضا فى سبيل الوطن كما يزعم حسين خوجلي وغيره من الكيزان المرتعبين من التغيير الوشيك. هذا الفخر بتقديم الشهداء يحتاج الى وقفة حقيقية، حيث ان السودان الذى شهد حرب أهلية منذ ما قبل الاستقلال سالت فيه دماء فى كل أنحاء الوطن ومن كل الأطراف اكثر من اى دولة أفريقية وعربية فى العصر الحديث. ولذلك السؤال الجوهرى هنا هو حول مفهوم الشهيد نفسه من هو الذى يستحق إطلاق وصف الشهيد عليه وهل مفهوم الشهيد يتحدد من منظور دينى ام أخلاقى ام سياسى ام هو مجرد توصيف عاطفى يطلقه كل من أرادوا مكانة خاصة لقتلاهم. ؟
مفهوم الشهيد له خاصية ثقافية مرتبطة بالتضحية بالنفس فى سبيل اعتقاد دينى او ايمان بقضية ما تستحق عند البعض الموت من أجلها. وقد ارتبط بشدة بالاديان فى بدايتها حيث يتعرض أصحاب الدعوة الى للاضطهاد والقهر مما يؤدى الى مقتل الكثيرين فى سبيل استمرار الدعوة. على ذلك فإن من اكثر الاديان ارتباطا بمفهوم الشهادة هو الدين المسيحى الذى يعتقد بأن القداسة نفسها تنبع من مفهوم الفداء الذى قام به السيد المسيح للبشرية جمعاء عندما صلب متحملا الالم عن بقية البشر فاديا لهم بجسده. على هذا النسق أيضا جاء الإسلام ليعطي الشهادة ذات البعد الفدائى خاصة فى وقت الدعوة الأول، حيث كان أول شهداء الإسلام ليس من المقاتلين بل من القتلى بسبب التعذيب وهما عمار بن ياسر وزوجته سمية، والذين كانا عبدين، وجدا فى الإسلام العقيدة التى تستحق الموت من أجلها إيمانا بها وشجاعة فى مواجهة القمع والاجبار على التنازل عنها ودفاعا عن حقهم وحق الآخرين فى حرية اعتناق دين جديد يوقنون انه الحق.
اذن الشهادة ببعدها الدينى والثقافى والأخلاقى لا ترتبط بالقتال والحروب بقدر ما انها ترتبط بمفهوم أعمق وهو الفداء، و مقاومة الظلم والقهر ولو عبر التضحية بالنفس. وتثبيت حق الحرية وكرامة الإنسان. فالخطوة الأولى نحو الشهادة لا تبدأ من الموت بل تبدأ من اتخاذ موقف من الحياة التى لا تحترم الإنسان وحريته وكرامته، ولذلك التضحية بالنفس هى من أجل حياة افضل للبقية من الأحياء وليست عشقا للموت. ومن هنا يكون سبب الموت وكيفيته وعقيدة وإيمان القتيل لحظة الانتقال الى السماء هى الأسئلة التى تحدد من هو الشهيد. فالشهادة ليست قيمة وصك للدخول للجنة فى العالم الاخر فقط بل هى قيمة لتحقيق الخير والعدل فى الدنيا اولا. ومن لم يمت فى سبيل ما يحق الحق فى الدنيا فكيف له قبض قيمة تضحيته فى الآخرة.؟
لذلك يكون السؤال الحقيقي حول شهادة شهداء الكيزان هو ليس فى احقية تسميتهم شهداء، ولكن حول ماذا حققوا بشهادتهم هنا على الارض؟ ماهى نتائج تلك الشهادة ماذا قدمت من خير او عدالة او كرامة ولمن؟ ان ما قاله الترابى عن شهداء الإنقاذ بانهم فطائس إنما ينم عن فهم الرجل لمعنى الشهادة وليس فقط مناورة سياسية. الترابى رجل يعلم الحقيقة ولكنه كان يجيد دوما تحويرها لخدمة ما يريد على نسق أحبار اليهود الذى يعلمون الحق ويخفونه. ولذلك فإن شهادة شهداء الكيزان لا تحتاج الى اى دلائل على عدم احقيتها بالتوصيف. فقد استشهد الكيزان وهم يقتلون الاطفال والنساء ويفجرون القرى فى الجنوب، استشهدوا وهم يقاتلون أبناء وطنهم حينها، الذين كانوا فقط يطالبون بحقهم فى العدالة والكرامة والمواطنة ورفع للاضطهاد والظلم والتمييز والعنصرية عنهم كبشر اولا من ثم كشركاء فى الوطن. ومن هنا يكون السؤال، هل شهداء الكيزان هم الشهداء ام من كانوا فى الطرف الآخر؟ هل الفارق هو الدين ام ان من قتل من أجل ماله وارضه وعرضه هو شهيد فى تعريف الأخلاق وقيم الإنسانية وقيم الدين أيضا. حيث يجب ان لاننسى ان شهداء الكيزان لم يقتلوا فقط فى الجنوب الغير مسلم جدلا، حيث انه من المعروف ان هناك جنوبيين مسلمين كما ان هناك مجموعات مسلمة قاتلت مع الحركة الشعبية لتحرير السودان وقتها وقدمت شهداء كثيرين، هذا ناهيك عن قتال الكيزان فى دارفور، بعد ان تخلوا عن أعراس الشهيد بعد الالفينات. فهل القتال فى دارفور وقتلى الجيش والدفاع الشعبى والجنجويد من الشهداء الذين عدهم حسين خوجلي؟ ، حتى بعد ان قتلوا اخوتهم فى الإسلام وحرقوا أرضهم حتى صنف ما حدث هناك بأنه ” جريمة ضد الانسانية” ؟ والحقيقة ان مصطلح جريمة ضد الانسانية هذا هو فى عمقه مصطلح كان يجدر به ان يخرج من المسلمين لان القرآن الكريم هو الذى قال ان ” من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الأرض فكانما قتل الناس جميعا”. ان محاولات الجذب العاطفى الفاشلة النى يقوم به الكيزان هى محاولات تغرق فى قطرة من المنطق والحقيقة. حيث ان شهداءهم كانوا ولازالوا ليسوا اقل اجراما من إرهابيين داعش وتنظيم القاعدة، الذين يفجرون أنفسهم فى الناس بحث عن الحور العين كهدف دنيئ وهو اقل من كونه دنيوي حتى، فالدنيا فيها من الخير والطيبات الكثير الذى يستحق الموت لأجله لكن هؤلاء لم يرتقوا حتى لمستوى الأهداف الدنيوية النبيلة.
انه فى عالم البرزخ، الغاية لا تبرر الوسيلة، والطريق الى الجنة محفوف بالأسئلة حول الرحلة والنوايا الصادقة. ولهذا نجد ان السودان هو ليس فقط أرض المليون شهيد بل هو أرض ملايين الشهداء،الذين يجب الافتخار بكل تضحياتهم والذين حان الوقت لإعطائهم حقهم. انهم شهداء النضال والمقاومة مطالبة بالحق والعدالة والحرية والمساواة. شهداء فدوا أعراضهم وارضهم ولازالوا، من المعتدين تحت اسم الدين تارة وتحت اسم حماية الدولة تارة أخرى، بينما المعتدين ليسوا سوى تجارا بالدين وسارقين للدولة والسلطة بغير وجه حق. ان شهداء السودان بمفهوم الدين والأخلاق والسياسة ايضا هم من قتلوا حماية لحقهم فى وطن العدالة والمساواة ،هم من أرادوا سودان لا يوصف بأنه أرض التمييز والإبادة الجماعية بين دول العالم، الذين أرادوا سودان لا يصنف كدولة بين رعاة الإرهاب وقتلة احلام البشرية فى التقدم والازدهار. ان شهداء السودان من عبد الفضيل الماظ مرورا بمحمود محمد طه وخليل ابراهيم وشهداء الحركة الطلابية وجون قرنق، و بولاد وشهداء الحركات المسلحة جميعها وشهداء دارفور وجنوب السودان قبل الانفصال وجبال النوبة والنيل الأزرق ،وشهداء الحركة الطلابية من القرشى وحتى الشهيد محجوب شهيد ثورة دبسمبر الحالية وشهداء القضايا االمطلبية من كجبار الى شهداء بورتسودان هؤلاء هم الذين فدوا السودان وفدوا قيم العدالة والمساواة والحرية، منذ ماقبل الاستقلال وضد كل النظم القهرية التى حكمت البلاد ” حيث أن الكيزان ليسوا سوى ذروة سنام تلك النظم القهرية” . هؤلاء الشهداء هم الذين بفضلهم سوف يكون السودان يوما ما وطنا افضل. هؤلاء الذين يجب أن تستمر الثورة وان يقتلع الكيزان وفاء لتضحياتهم وتحقيقا لأحلامهم التى قتلوا من أجلها ومن أجلنا. هؤلاء الذين يجب ومنذ الان تسميتهم فردا فردا واقامة النصب فى كل مدن السودان لذكراهم.
ان ثورة السودانيين لأجل الحرية والعدالة والسلام لم تبدأ فى ديسمبر بل هى بدأت منذ بداية هذه الدولة وبداية الحلم بالوطن الذى لم يتحقق بعد. ولذلك فإن الدعوة لكل السودانيين لعمل سجل مفتوح بأسماء كل الشهداء بوصفهم الحقيقي الذى يليق بهم وكل ضحايا الانتهاكات والحروب وليس شهداء الاوهام والتجارة بالدين ، لان الاجيال القادمة والحالية يجب ان تعرف ان بناء الأوطان التى تحترم أبناءها، له ثمن غالى دفعه كثيرون استشهدوا من قبل، وحتى لا نكرر الأخطاء وحتى نحافظ على كل انجاز لهؤلاء الشهداء فى سبيل تحقيق السودان الوطن الذى يستحقون ونستحق جميعا… والمجد للشهداء..
#تسقط_بس
nawayosman@gmail.com