منذ زمان ليس بالقصير ظللنا نطلع ونتابع بعض من أخبار متناثرة هنا وهناك , عن وفود سرية مبعوثة من قبل الحكومة السودانية للقاء بعض القادة و السياسيين من دولة إسرئيل , و ازدادت وتيرة هذه الأخبار في الأسابيع القليلة الماضية , وذلك بعد زيارة رئيس الوزراء الاسرائيلي لسلطنة عمان , و وصول الرئيس التشادي إدريس ديبي إلى تل ابيب , فاجتاح المنطقة حراك محموم ومساعي من بعض الأنظمة العربية و الأفريقية, لتطبيع علاقاتها السياسية الاقتصلدية مع (دولة العدو الاسرائيلي) , الاسم والتعريف الذي ظلت أجهزة إعلام الشرق الاوسط تتداوله حين من الدهر , ومعه إعلام الحكومات السودانية المتعاقبة الذي كان ملكي أكثر من الملك , في تبنيه لخط المواجهة العربية للإحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية , حتى جائت الدعوة الصريحة على لسان وزير الإستثمار السوداني السابق , إلى إقامة علاقات إقتصادية وتجارية مع الدولة اليهودية , و إفصاحه عن ضرورة تطبيع العلاقات معها , الحديث الذي أثار ضجة كبيرة وغباراً كثيفاً وسط الناشطين الفلسطينيين , ما دعاهم إلى قيادة حملة شعبية وإعلامية عبر قنوات التواصل الإجتماعي , تستنكر تحريض وزير الاستثمار السوداني لحكومته , لكي تسير في طريق التطبيع مع عدوهم الاستراتيجي , فهذه الضجة التي أثارها هؤلاء الناشطون , عكست مدى معرفة الشعب الفلسطيني بالعاطفة الجياشة التي أحاطهم بها الشعب السوداني , و الدعم السياسي و الإقتصادي الذي جادت عليهم به أنظمة الحكم السودانية , لذلك كانت ردة فعلهم صارخة وداوية لإيقانهم التام بأن مثل ذلك التحريض , سوف يفعل فعلته المؤثرة سلباً على علاقة السلطة الوليدة لدولتهم مع السودان حكومات وشعب , فحديث السيد مبارك الفاضل وزير الاستثمار السابق , قد أخذ حيزاً كبيراً من إهتمام الشارع الفلسطيني , وبصورة أكبر من إهتمام ذات الشارع بحدثين مماثلين سابقين , قامت بهما جهتان سودانيتان معارضتان لنظام الحكم القائم اليوم في الخرطوم , وهما حركة تحرير السودان بقيادة الاستاذ عبد الواحد محمد أحمد النور , والناشطة السياسية السودانية الشهيرة الأستاذة تراجي مصطفى , فالأولى افتتحت مكتب و مقر لها باسرائيل لمتابعة شئون اللاجئين السودانيين هنالك , و الثانية قامت بتكوين أول جمعية للصداقة الشعبية بين شعبي الدولتين , وهي تعتبر أول شخصية سودانية تزور دولة اسرائيل علناً , فعلى الرغم من سبق هاتين الجهتين في ماراثون رحلات الحج الى تل ابيب , من لدن رؤساء دول الإقليم الذين كانوا إلى وقت قريب مقاطعين للكيان الإسرائيلي , لم يجد موضوع العلاقات السودانية الاسرائيلية زخماً اعلامياً بهذا المستوى , إلا بعد أن تناوله السيد مبارك الفاضل المهدي , وذلك لاعتباره جهة حكومية رسمية مسؤولة عن التجارة و الاستثمار , خلاف الجهتين الأخريين اللتين لم تخرجا من إطار كونهما , مجرد أجسام معارضة لنظام الحكم الذي كان وزير الإستثمار جزء منه.
هنالك عامل مهم جداً ويعتبر من العوامل التي رفعت سقف إهتمام الحكومة السودانية بضرورة التطبيع مع اسرائيل , وألهبت حماس الناشطين و الاكاديميين و الباحثين , والمهتمين بمشروع الإنفتاح على بلدان العالم دون الارتهان لعقدة الايدلوجيا و الدين , ألا وهو (أي هذا العامل المهم) الزيارة التي ابتدرها الرئيس التشادي إدريس ديبي إلى تل ابيب , فجميعنا يعلم ذلك التاريخ الطويل من عدم الثقة الكامن بين النظامين الحاكمين في السودان و تشاد , ومحاولة كليهما إزاحة الآخر من مقاليد السلطة مرات ومرات , وكلنا على يقين من أهمية الدور المتوقع من إسرائيل وخطورته , في تقوية شوكة من يدخل معها في شراكة سياسية و إقتصادية , وتأثير هذا في موازيين الصراع البيني لأنظمة الحكم في البلدين , ففي هذا الخضم حق للسودان حكومة وشعب و معارضة أن يعيد ترتيب أولوياته , ومن ضمن هذه الأولويات مشروع السلام الشامل في مناطق النزاع الثلاث , دارفور و جنوب كردفان (جبال النوبة) و جنوب النيل الازرق (الانقسنا) , فاذا لم يتخذ النظام ومعارضته الخطوات الكفيلة بالتعجيل باستكمال عملية السلام المستدام , فسوف تبتلع السودان كيانات و تحالفات إقليمية ناشئة ما زالت في طور التشكل , ولكي يلحق السودان بهذا الماراثون و يكون في مقدمته , على الدولة الحديثة فيه (دولة ما بعد السلام الشامل) , أن تعمل على تمتين علاقاتها مع العمق الافريقي , بدرجة اكبر من المجهود المبذول في المحيط العربي , فمن حيث مستقبل التعاون التجاري و المنفعة الاقتصادية للسودان , فإن تمديد السودان لجسور الإستثمار مع دول القرن الأفريقي و شرق و وسط أفريقيا , يعود بمردود وحصيلة أكبر من المنافع , و بمكاسب أفيد من المحصلة الصغيرة والضئيلة , التي ظل يحصل عليها من بعض البلدان التي تفصل بيننا وبينها البحار و المحيطات , فلعل الأوان قد آن لإسدال الستار على مسرحية ما ظل يطلق عليه قضية العرب المركزية , ويبدو أنه قد لاح في الأفق ضوء خفيض لفجر جديد من العلاقات بين دول الاقليم , علاقات سياسية و اقتصادية ذات إختلاف نوعي من سابقاتها المعهودة.
هنالك عقبات كأداء سوف تواجه منظومة حكم الانقاذ , في طريق سعيها الحثيث نحو إقامة علاقات طبيعية مع دولة مثل إسرائيل , كالقيود المكبلة لتحرك رأس النظام و الحادة من سفره , ولأن قضية تطبيع مثل هذه العلاقات , التي ظل كلا طرفاها يتبادلان درجة عالية من العداء المستحكم , ولمدة طويلة من الزمن تجاوزت النصف قرن من الزمن , ذات العداء الذي أدى إلى شن غارات جوية من قبل الدولة الاسرائيلية , استهدفت مصنعاً للسلاح في الخرطوم (اليرموك) , واقتنصت مشبوهاً متورطاً في تسهيل ودعم تنفيذ عمليات إرهابية ضد دولة الكيان الصهيوني (حادثة بورتسودان) , مثل هذه العقبات سوف تسهم سلباً في إمكانية إلتقاء رأسي النظامين (البشير ونتنياهو) , ولن تكون طريقة التلاقي مثل التي حدثت بين ادريس ديبي رئيس تشاد ورصيفه الاسرائيلي بأي حال من الأحوال , فهل يا ترى سيقوم حزب المؤتمر الوطني الحاكم بإقناع رئيسه بعدم الترشح في انتخابات الفين و عشرين ؟ وذلك لتعبيد الطريق لقافلة التطبيع كي تسير بسهولة ويسر , وبناء عليه يكون الحزب الحاكم قد أزاح عقبة من العقبات الكأداء , التي وقفت حائلاً دون تحقيق الانفتاح و الانفراج السياسي في البلاد , أم أن المعارضة المدنية و المسلحة ستقنع الفاعلين الحقيقيين في حقل السياسة الدولية , لتكون هي البديل الأنسب لنظام حكم استنفذ غرضه , و أصبح غير قادر على توفير لقمة العيش لمواطنه المطحون والممحون؟ , عليه و في كل الأحوال هنالك واقعة سوف تقع لتفك (عقدة غوردية) هذه , ثم من بعدها تتفجر الارض قمحاً ووعداً وتمني , فسنين عمر المنظومة الانقاذية قد زحفت نحو الشيخوخة المؤكدة , فاذا لم تمت بسيف المعارضة ماتت بغيرها من السيوف المسلطة على رقبتها , وتتعدد الأسباب و حتمية نهايات الأنظمة الدكتاتورية واحدة , فالمتابع لخلافات النافذين بالمنظومة الأنقاذية , والتي رشحت خلافاتهم هذه عبر صوتيات تطبيق واتساب , تنبيء بنفاد وقود سفينة الانقاذ , فقد أصبح يقولها هؤلاء النافذون علناً ودون مواربة , نعم أنت (العقدة) يا سيدنا القائد , الحديث الذي لم يعتاد على سماعه عامة الناس في سابق العهود القريبة لهذه (الانقاذ) , فالكارثة الاقتصادية لحق ضررها بعض ممن كانوا على مقربة من ربان السفينة , الذين كانوا يزينون لهذا الربان المنكر و ينكرون عليه المعروف , فلسان حالهم اليوم يقول ما جاء في قوله جل وعلا اذهب انت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون) صدق رب العباد.
اسماعيل عبد الله
[email protected]