بشهادة إعلام وصحافة الغرب , فقد حققت هبة ديسمبر إنجازاً عظيماً , تمثل في اعتراف رأس النظام بالقصور الكبير والفشل السياسي و الاقتصادي الذريع الذي أوصل البلاد إليه , وجاء هذا الاعتراف الضمني بتعطيله للدستور وإصداره لأوامر الطواريء , ما يعتبر اختراقاً مهماً قام بتنفيذه الثوار في مسار الانتفاضة الشعبية السودانية , حيث أخذت ثمار شجرة هذه الهبة الوطنية العارمة تنضج ويقوى عودها , الأمر الذي جعل رموز النظام المتهالك يركنون وينزوون إلى خانة الدفاع , بعد أن كانوا في سابق الأوان يتهجمون على الثوار ببائس وفقير الألفاظ , فعندما كانت تنطلق الاحتجاجات والتظاهرات المناهضة لحكمهم , يطلون من نوافذ استديوهات القنوات الاخبارية , فيهاجمون دعاة الحق من مواطني الدولة السودانية بعنجهية و كبرياء زائفين , و تنطع أجوف لا يتسق و كفاءة رجال يفترض أن يكونوا من خيرة المتحدثين , باسم منظومة حكم تدعي رعاية مصالح مواطنيها , فما زالت أراشيف قنوات التلفزيونات العربية والاذاعات الاقليمية , تنضح بمثل هذه النماذج من التصريحات الرعناء , التي اشتهر بها كل من الحاج ادم يوسف و أمين حسن عمر , و ربيع عبد العاطي ومصطفى عثمان ومامون حميدة , وكثيرون من منسوبي هذا النظام الانقاذي المترنح.
فأولى هذه الثمار تتمثل في تحرر العقول و القلوب من فوبيا المستقبل المجهول , وعدم الاكتراث من التحذير المغرض حول ماهية البديل للنظام الحاكم , وتلاشي الخوف من أيلولة مفاصل سلطة الدولة إلى أياد غير حريصة على أمن وسلامة الوطن و المواطن , مع حلول أواصر الثقة و المحبة و التماسك المجتمعي مكان هذه المخاوف في نفوس الناس , وزوال فزاعة الحركات المسلحة و افتضاح الأسباب الحقيقية للترويج الحكومي لفرية الأذى المحتمل , الذي سوف يلحق بالمواطن المدائني في حال حدوث انهيار وسقوط النظام , هذا إضافة إلى تعري النظام ذي السجل الحافل بجرائم الحرب والإبادة الجماعية والتطهير العرقي , و انكشافه أمام هذا المواطن المدائني المعتم على وعيه إعلامياً وسايكلوجياً , و شيوع وانتشار معرفة هذا المواطن اليقينية بأن منظومة الحكم التي يقودها المشير , لا تفرق بين هذا الشخص أو ذاك , في التنكيل و البطش والتعذيب و القتل إذا ما حاول اعتراض سيرها , فانقشعت بذلك سحابة الفرز الجهوي و الاستقطاب القبلي و المناطقي الذي كانت تمارسه جماعة الاسلام السياسي , واستشعر كثير من المواطنين في شمال و وسط السودان إحساس الندم و الأسف في قرارة أنفسهم , كونهم لم يحركوا ساكناً إبان اشتعال قرى جنوب كردفان ودارفور و جنوب النيل الازرق , بحمم براكين نيران قنابل الطيران الحربي الحكومي , الذي قتل الطفل و المرأة والعجوز المسن دون رحمة.
ومن القطوف الدانية لهبة ديسمبر , مزاحمة المرأة للرجل في هذا الحراك الثوري , واصطفافها معه الكتف حذو الكتف , كظاهرة تقدمية في أوساط مجتمعات سيطرت عليها النظم الراديكالية والرجعية خمسون عاماً , فدور هذه المرأة السودانية الرائد في مجريات أحداث الحياة السياسية على المستويين الوطني و الإقليمي , برز بشكل أوضح من خلال هذا الزخم الثوري الضاغط , الذي استدعى قيم ومزايا التراث السياسي والاجتماعي السوداني العريق والمتراكم , من أعماق التاريخ , حيث كان للكنداكة و الميرم و الحكّامة الدور التكاملي والمتساوي مع دور المك و السلطان و شيخ القبيلة , في التناغم والأنسجام حيال مجابهة تحديات الوجود وصعوبات تحقيق الحياة الكريمة للشعوب , دون تعارض ولا تفاضل بين الجنسين في الخصائص الجندرية أوالبايولوجية , فإرث الشعوب لا تسطيع طواريء الزمان و لا إرهاصاته العارضة أن تفصل بينه وبين تمدده نحو الأجيال الحاضرة , و لا يمكنها أن تحد من فاعليته .
والملاحظ كذلك تطور الغضب الشعبي و ارتفاع سقف طموح الناس الراغبين في التغيير السياسي الجذري , فعلى الرغم من خطاب المشير الذي أعقبه بقراراته الكبيرة , إلا أن تلك القرارات الطارئة لم تشفع لتوسلاته أمام محراب المواطنين المقهورين والساخطين على نظام حكمه الطويل الأمد , فنمو وازدهار ثمار شجرة الثورة السودانية مقابل ذبول أوراق شجرة زقوم المؤتمر الوطني , واجتثاثها من جذورها بفأس زارعها و ساقيها وراعيها المشير البشير , بعد أن أوكل مهمة الجزر و التقطيع والامساك بعود هذه الفأس إلى خبير الكسح و المسح أحمد هرون , كل هذا يدل دلالة واضحة على قرب مقدم موسم الحصاد الكبير , ومجيء موعد قطف الثمار الكثيرة و الوفيرة لشجرة الثورة السودانية , التي وصفها أحد المغردين العرب بأنها ثورة شعب صبور ومكابد عمل على إنضاجها بلهيب جمر نار هادئة , حتى تؤتي أكلها غير منقوصة كمنقصة صويحباتها في إقليمنا الشرق أوسطي.
من أمثالنا الشعبية (طول الصيف ينجض الحمّيض) , وبما أن هذا الحراك الثوري و الوطني السوداني الخالص , قد بدأ في شتاء ديسمبر من العام الماضي عبوراً إلى فبراير و مارس من ربيع العام الجديد , فنقول : إنّ طول أمد موسمي الشتاء والربيع سوف يعمل على تقديم منتج أكثر نضجاً , و أشهى مذاقاً ولذةً من ثمار فاكهة الثورة الشعبية والهبة الشاملة , فاذا جاز لنا اختزال هذه الانتفاضة الشعبية في رمزية الفرد المناضل من أجل حقوق المقهورين , يمككنا أن نطلق عليها الكلمات الخالدات لزعيم التحرر الوطني الهندي المهاتما غاندي , حين قال:(في البداية يتجاهلونك , ثم يسخرون منك , ثم يحاربونك , ثم تنتصر).
إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com