جبال النوبة – صوت الهامش
قال الطبيب الأمريكي توم كاتينا، الذي لاقت خدماته لأهالي جبال النوبة ثناءً دوليا واسعا، إنه لم يفعل أكثر مما كان ليقوم به أي تبشيري في مكانه.
ونقلت وكالة الأنباء الكاثوليكية (سي إن إس) عن كاتينا قوله “من المنتظر منا أن نكشف عن وجه المسيح للناس، لكن كيف يتسنى للمرء أن يفعل ذلك عندما تسوء الأمور؟”
وييلغ كاتينا من العمر 54 عاما، وهو من منطقة أمستردام بنيويورك، وهو مرسَل من جانب البعثة الطبية الكاثوليكية لإدارة مستشفى “أم الرحمة” في قرية “جيديل” الواقعة في جبال النوبة.
وفي عام 2011، اشتعل الاقتتال بين قوات نوبية معارضة وقوات حكومية. وشهدت المنطقة المحيطة بالمستشفى “أم الرحمة” الذي تديره الكنيسة قصفا مكثفًا من جانب القوات المسلحة السودانية. وعندئذ أصدر مكرم ماكس غاسيس، أسقف كنيسة الأبيض حينها والتي تضم منطقة النوبة – أصدر أمرًا لكافة العاملين الأجانب بالكنيسة، ومن بينهم الدكتور كاتينا، بالمغادرة.
وأرسل الأسقف مكرم ثلاث طائرات في مهمة صعبة لإجلاء العمال الأجانب، والذين كان معظمهم معلمين وممرضين متعاقدين من كينيا وأوغندا.
وكان الدكتور كاتينا بين عدد قليل من هؤلاء العاملين في الكنيسة ممن قالوا “لا” لمغادرة المكان.
يقول كاتينا “كانت العصبية تعصف بالمنظمة. وكان القائم على تقييم الموقف من ‘جوبا’ يؤكد أن الوضع في منتهى الخطورة، ومن ثم يجب أن أغادر. لكنني قلت إني لن أفعل. وقالوا إذا لم أغادر فسوف ينهون تعاقدي. فقلت لهم: حسنا ليكن ما يكون.”
ويضيف كاتينا “كنت أرى أن مغادرتي كفيلة بأن تقول للناس هنا أن حياتي أكثر أهمية من حياتهم. ولست أعتقد ذلك. لم يكن المسيح هكذا، لقد أعطى حياته للجميع. ويجب علينا أن نتبع المسيح. وعليه، فكيف لنا أن نغادر في وسط الأزمة؟”
ويؤكد كاتينا أن قراره هذا لم يكن قرارا صعبا … “كنا نعلم التبعات لو غادرنا، لأن المصابين كانوا يفدون للمستشفى بأعداد متزايدة. لم يكن ثم مجالٌ للمغادرة. وقد رفض العديد من طاقم العمل أن يغادر وظل في المستشفى، وعليه، لم أكن وحدي.”
ويمضي كاتينا قائلا: “تحظى بكثير من المصداقية عندما يراك الناس حولهم، تأكل مما يأكلون وتشاركهم نفس المخاوف التي يختبرونها. إن ذلك أبلغ أثرًا في النفوس من أي وعظ.”
توّلت الراهبة آنجيلينا نياكورو، الأخت الكومبونية من أوغندا، رئاسة فريق التمريض بمستشفى “أم الرحمة”. وقدِمت آنجيلينا وكاتينا معا إلى قرية “جيديل” لافتتاح المستشفى عام 2008. وأكدت آنجيلينا أن شجاعة الطبيب كاتينا كثيرا ما انتقلت إلى المحيطين به.
تقول آنجيلينا “في عام 2015، طافت شائعات بأن جنودا من الشمال (السوداني) كانوا على مسافة 30 كم فقط (19 ميلا) وأنهم يتجهون صوبنا. وكان الأمر مرعبا. حينها قرر الجميع أن يغادر. لكن الدكتور طوم عزم على ألا يغادر.”
وأضافت آنجيلينا “عندئذ أخبرت الأخوات الراهبات أنني أيضا لن أغادر. ظلت كل الأخوات، وكاهن واحد. فيما ذهب كثيرون إلى الحدود لمدة أسبوعين حتى هدأت الأوضاع. إن التزام الدكتور طوم الهادئ بث فينا التشجيع. عندما كان يحدق أي خطر، كان الدكتور طوم مستعدا للتضحية بحياته.”
إن كاتينا ليس فقط الطبيب الوحيد بين مليون شخص في منطقة جبال النوبة. فهو يدير مستشفى تضم عدد 435 سريرا. ويتعامل مع طاقم عمال غير راضين عن مرتبات راكدة فضلا عن التحديات التقنية التي يجابهها ممارس مهنة الطب في إحدى أكثر المناطق فقرًا على كوكب الأرض.
وفي لحظات غاضبة، ألقى الدكتور كاتينا باللوم على المنظمات الدولية في عدم الوصول إلى جبال النوبة خوفا من انتقام الرئيس السوداني عمر البشير المدان من المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وعملية إبادة جماعية ضد أبناء شعبه في دارفور.
إن تعاطف الدكتور كاتينا والتزامه جلبا إليه اهتمامًا من العالم الخارجي. ومن ذلك حصوله خلال العام الماضي على جائزة “أورورا للصحوة الإنسانية”.
كما أنه يمثل مادة لفيلم تسجيلي صدر حديثا باسم “قلب النوبة”. وقد رصد نيكولاس كريستوف، الكاتب بالنيويورك تايمز، اقتباسا لقائد مسلم محلي وصف فيه الدكتور كاتينا بأنه “المسيح عيسى” لأنه يعالج المرضى ويساعد العميان على الإبصار.
ويرى البعض أن تركيز العالم الخارجي على الدكتور طوم كاتينا ليس عدلا.
ويقول جون أشوورث، وهو مستشار للأساقفة الكاثوليك في السودان وجنوب السودان، “طوم كاتينا بطل. وهب 10 سنوات من عمره لأهالي جبال النوبة، وهو نجم في ذلك المستشفى.
لكن ثمة أبطالا كثيرين هنالك. مئات من الأبطال، لكنهم ليسوا من ذوي البشرة البيضاء وليسوا أمريكيين. إنهم أفارقة، وبجعبة الجميع منهم قصص ملهمة، لكن الصحفيين لا يولونهم اهتماما.”
وصرح الدكتور كاتينا عن خجله مما يحظى به وحده من اهتمام …. “أنا لم أسأل أبدا أي شخص لكي يأتي هنا ويحاورني. لكن إذا أتى الناس، فهذا حسن. وإذا كان بإمكاني أن أبلغ الرسالة، لإظهار وجه آخر للكنيسة وما تقدمه من خير في العالم، فلم لا أبلغ الرسالة؟”
ويضيف كاتينا “لم أكن أبدًا بمفردي. الأخوات الراهبات لم يبرحن المكان. الكهنة لم يغادروا. ممرضات النوبة وفريق المستشفى لم يغادروا.
لكن عندما أقول ذلك للصحفيين، فإنهم عادة ما يجيبون قائلين: “هؤلاء من أفريقيا”، كما لو كانت أفريقيا كلها دولة واحدة. إن الصحفيين يرغبون في الكتابة عن الـ “خواجة” القادم من الولايات المتحدة، لأن هذا هو ما يريد الناس في الولايات المتحدة أن يقرأوا عنه. أما ما عدا ذلك فلا أحد يهتم به.”
واختتم كاتينا قائلا “أعتقد أنني أوتيت الفرصة لإظهار أمرين: أن أهالي النوبة يعانون؛ وأن الكنيسة الكاثوليكية تقدم عملا رائعا هنا.”