لندن : صوت الهامش
قال الدكتور توم كاتينا، الطبيب الوحيد في منطقة جبال النوبة بالسودان، إنه حبس أنفاسه عندما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخرا عن تخفيضات في الميزانية المخصصة للمعونة الخارجية؛ بمعدل 44% للمنظمات الدولية، و31% لتمويل المساعدات الإنسانية، و25% لبرامج الصحة العالمية.
ولفت كاتينا، الحائز على جائزة “أورورا” لصحوة الإنسانية 2017 -في مقال نشرته صحيفة (الجارديان)- إلى أنه على الرغم من أن الكثيرين يرجحون عدم تمرير الكونجرس لتلك الميزانية، إلا أنها في واقع الأمر تثير القلق حول أولويات إدارة ترامب.
ونوه كاتينا عن أن الأمر لا يقتصر فقط على الولايات المتحدة؛ ذلك أن الحكومة الاسترالية أعلنت في شهر مايو المنصرم عن عزمها استقطاع 303 مليون دولار من ميزانية المعونة الخارجية على مدى عامين؛ أما في المملكة المتحدة، فقد جاء تعهّد رئيسة الوزراء تيريزا ماي بالاستمرار في الوفاء بنسبة الأمم المتحدة المستهدفة للدعم 7% – جاء ذلك التعهد بارتياح كبير؛ على الرغم من أن تلك الأخبار الجيدة لم تلبث أن أعقبتها مزاعمُ بأن حكومة المملكة المتحدة هي بصدد توجيه جزء أكبر من ميزانية معونتها في سبيل مصالحها الوطنية.
ونبّه الدكتور كاتينا إلى أن تلك الأخبار ترد في وقت هو الأسوأ عالميا على الصعيد الأزمات الإنسانية منذ عام 1945، بحسب الأمم المتحدة؛ حيث يواجه عشرون مليون إنسان شبح المجاعة دونما إغاثة فورية بالتمويلات في كل من اليمن وجنوب السودان والصومال ونيجيريا.
وقال الطبيب “أنا أتابع تلك التطورات عن كثب، ليس كجزء من مجتمع المعونة الدولي ولكن كشخص يرى الحاجة الماسة للمعونة طوال ساعات اليوم؛ منذ عام 2007 وأنا الطبيب الوحيد المقيم بشكل دائم في منطقة جبال النوبة بالسودان، التي تقطن فيها 750 ألف نسمة، وهي أيضا منطقة نزاع اشتعلت فيها نار الحرب منذ 2011 بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان”.
وأضاف كاتينا، أن “الناس في جبال النوبة قد تجاوزت معاناتهم حدود الخيال، حيث القصف الجوي مستمر الحدوث يوميا منذ سنوات؛ ويتم استهداف القرى والمزارع، ويضطر السكان للفرار إلى الجبال يلوذون بها حيث لا وجود للغذاء؛ ولقد اختبرتُ فظاعات وأهوال تلك الحرب بنفسي وبشكل مباشر؛ وأنا أتولى علاج 400 حالة يوميا بين بالغين وأطفال بحروق مروعة عبر أجسادهم، وأطفال بلا أطراف بسبب جروح الشظايا وحالات تعاني الجذام أو سوء التغذية”.
وتابع الطبيب كاتينا، قائلا: “ليس لدينا تقنية طبية؛ فالإمدادات محدودة؛ ونستخدم طرق علاجية قديمة ودائما لا توجد كهرباء ولا مياه جارية؛ إننا حتى لا نمتلك هواتف يُعتمد عليها؛ لكنني دائما تحت الطلب، أتلقى المواليد على يدي، وأعالج السرطان، وأدرّب فريقي، وطوال الوقت أضمّد جروح الحرب مستخدما في كل ذلك ما بين يدي من الموارد المحدودة ومستعينًا بفريقي الرائع”.
وقال كاتينا “ربما يكون القصف قد انتهى الآن، لكن معاناة الناس لم تنتهِ بعد؛ وأكبر المشكلات تتمثل في النقص الحاد في الغذاء؛ نحن على الحدود مع جنوب السودان ونعاني نفس ظروف المجاعة، وقوات الحكومة أغلقت سُبل الوصول للغذاء والمعونة… إنه بحق موقف باعث على اليأس”.
وأكد الطبيب أن “الحقيقة المؤلمة هي أن معظم قادة العالم والمنظمات الإنسانية قد تخّلتْ تقريبا عن شعب جبال النوبة؛ ومعظم أشكال المعونة الخارجية غير موجودة؛ والحاجة الماسة لي هنا مستمرة على حالها منذ أن جئت في عام 2007 وربما باتت أكثر إلحاحًا؛ وكذلك الحال بالنسبة لدعم المجتمع الدولي (الحاجة لهذا الدعم زادت عن ذي قبل)”.
ونوه كاتينا إلى أن “سبع دول فقط تفي بنسبة 77% من مستهدف الدخل القومي العالمي؛ والدول التي ينبغي أن تكون في الطليعة لبذل الجهود للحيلولة دون وقوع كوارث كالمجاعة ولتخفيف آثار الجفاف على بعض أكثر شعوب العالم فقرا – هذه الدول تغمض عينيها ما يبعث رسالة مقلقة مفادها أن الاقتصادات الرائدة لم تعد مهتمة بالمشاركة في جهود تخفيف المعاناة”.
ورأى الدكتور كاتينا أن “جزءا من المشكلة يتمثل في أن الحديث يحتاج إلى تغيير؛ فالمعونة الخارجية باتت قضية اختلاف سياسي؛ الشعوب تفترض أن الأموال يُساء إنفاقها وتضيع على البيروقراطية أو أن المعونة الخارجية باختصار لا تؤدي الغرض المرجو منها”.
وأضاف كاتينا “بالطبع، النظام بعيد عن أن يكون مثاليا؛ وفي عالم مثالي، لا يجب أن يكون الحديث فقط عن حجم الأموال المُنفَقة لعلاج المشاكل الراهنة، وإنما عن أثر المعونة على الإبقاء على الحكومات مستقرة والتصدّي للفساد وحماية حقوق الإنسان وسيادة القانون؛ ومع ذلك، على المدى القصير، رأيت بعيني الأثر الإيجابي الذي يمكن أن تتسبب فيه المعونة الإنسانية: إن بإمكانها حَرفيًا أن تُشّكل فارقا بين الحياة والموت”.
ونوه الطبيب عن أن ثمة أناسا يقومون بأعمال رائعة حول العالم كل يوم للمساعدة في الإبقاء على حياة البشر؛ وهؤلاء ليسوا مرتبطين بنظام معونة دولي، وإنما هم بشكل مستقلّ يستجيبون لحاجات أبناء جنسهم الأكثر احتياجا وعوزا، وفي سبيل تلك الاستجابة يواجهون أخطارا هائلة؛ لكن الأفراد لا يمكنهم أن يسدّوا حاجات العالم المنكوب وحدهم؛ وإنما يجب على المجتمع الدولي أن يوفر الموارد اللازمة لتقديم خدمة أفضل للمحتاجين.
واختتم كاتينا قائلا: “في وقت وصلت فيه المجاعة إلى مستوى الأزمة في أجزاء من أفريقيا، وأعداد لا تحصى من الأطفال يموتون جوعا – في وقت كهذا، تبدو الحاجة إلى دعم الدول الأغنى في العالم أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى”.