من الملاحظات الغريبة جدا أن السودانيين غالبا ما يتنازلون و بكل سهولة عن ثقافاتهم ( اللغة، العادات ، التقاليد…الخ) لصالح ثقافة الآخرين، و يرى البعض أن ذلك ( ذكاءا) و اخرون يرونها شطارة أو مهارة و هكذا دواليك.
و التماهي الثقافي سمة سودانية بجدارة مقارنة بالشعوب الاخرى التي تتحدث نفس اللغة .
و قد عرّف علماء النفس التماهي الثقافي بأنه:
سيرورة سيكولوجية، تبدأ من المحاكاة اللاشعورية و تتلاحق بالتمثيل ثم الاجتياف او التقمص ( الاستدخال) للنموذج او للثقافة المعينة.
و بالنظر إلى وضع السودانين في الدول العربية تجدهم يتبارون في محاكاة لسان الغير لدرجة الذوبان، فالسوداني في السعودية مثلا يتحدث السعودية بشكل رهيب و في الامارات نفس الشئ و كذلك في مصر أو لبنان، و أينما أجتمع (متحدثين بالعربية) في مكان ما إلا و تجد أن كلا منهم يتحدث بلهجة بلده( ماعدا) السوداني ( غالبا) ما يسعى للتحدث بلهجة ذلك البلد أو لهجة الأكثرية من بين الحاضرين و يجتهد في ذلك اجتهادا رهيبا، إما اعتقادا منه ان لغته غير مفهومة أو لتوضيح أنه ايضا مثلهم في كل شئ !.
فالمصري و الشامي و الخليجي و المغاربي و اليمني يتحدث بلهجته الخاصة مع أي إنسان يتحدث العربية غير آبه.
و اعتقد أن السبب هو عدم الثقة بالنفس و الشعور بالدونية الذي يجعل الفرد يعتقد أنه أقل درجة من الآخرين و يحمله ذلك الإعتقاد و الشعور الى الإجتهاد لتقمص ثقافة الغير حتى لا يُوسم بالتخلف الثقافي او الاجتماعي.
و اذا سحبنا هذا الأمر الى السودان لوجدنا أنه ينطبق تماما على المجتمع السوداني، ما يؤكد ان السبب هو عدم الثقة بالنفس و الشعور بالدونية عند المقارنة بالغير.
فقاطن المدينة مثلا غالبا ما يوسم قاطن الريف بالتخلف الثقافي و الجهل أو العشوائية و يمعن في ذلك الإضطهاد الثقافي بنعته بنعوت لتأكيد ذلك التخلف او العشوائية مثل ( القروي) او ( القوّازي ) من القوز اي إبن القرية كوصف لحالة تخلفه، رغم ان كلمة القروي تعني الانسان الذي يقطن القرية او ينحدر منها، لكن المعنى الاصطلاحي هنا غير المعنى اللغوي. و لذلك يجتهد ( القروي ) لتقمص شخصية قاطن المدينة لغة و سلوكا و هيئة، فيتماهى تماما في ثقافة المدينة حتى لا يستطيع أحد أن يميز بينه ( كقوّازي ) و بين ( ود المدينة) أو ( بنت المدينة).
نفس السلوك يمارسه سكان العاصمة على القادمين من الولايات الأخرى ، فينعتوهم بمصطلحات تدل عليهم و تميزهم مثل ( ناس الأقاليم )، ( غرابة) ،( عرب جزيرة) ( كردافة) …الخ، ما يجعلهم يجتهدون في تقمص شخصية ( العاصمي) او (.الأم درماني) في الكلام و اللبس و السلوك و مختلف التصرفات و بذلك يتماهون تماما في ثقافتهم ، و تنسحب ذلك حتى في الأغاني لتصبح أغنية أم درمان هي ( الأصلية) و لن يستطيع الفنان القادم من الأقاليم أن يطل على المستمعين إلا إذا تغني بالأم درمانية و تنازل قهرا عن غنائه او غناء المنطقة التي ينحدر منها، بل أن أغاني الثقافات الأخرى غير معترف بها البتة و غير معتمدة.
و الغريب ان هذا القهر الثقافي الذي يمارسه السودانيون ضد بعضهم لا و لم يجد مقاومة مطلقا في أي مستوى كان من المستويات المذكورة و عادة ما يستسلم المرء لهذا القهر و يقبل به، بل و يتعايش معه، ليبدأ هو الاخر في ممارسته ضد غيره من أفراد مجتمعه ( السابق) و هكذا دواليك و ( سكان العاصمة و ناس أم درمان كانوا في الاصل سكان أقاليم).
هذا السلوك جعل السوداني قليل الثقة بنفسه ( ثقافة، و سلوكا ) ما دفعه للنظر الى الغير بأنه أرفع مقاما و أسمى ثقافة .
و قد يعود السبب في ذلك الى أزمة الهوية التي يعيشها الانسان السوداني، الذي حار بين الأمم لتحديد هويته، و أصبح بين مطرقة العروبة التي عرَّفها معتقدوها من أهل السودان بأنها ( التحدث باللغة العربية و التدين بالإسلام ) حتى تنطبق على السودانيين لطالما يتحدثون العربية ( معظمهم) و يدينون بالإسلام ( أغلبهم )، و بين سندان الأفريقانية التي تفرضها عليهم بشرة ألوانهم السوداء أو السمراء و سحنات وجهوهم، و لأن دعاة العروبة هم الممسكون بزمام الأمور في السودان ( السلطة و مناهج التعليم ) صوّّروا للسودانيين أن الثقافة العربية هي السامية و الراقية بين جميع الثقافات المحلية الأخرى و أن تلك الثقافات غير العربية إنما هي رمز للتخلف و الرجعية و أن النسب العربي يعني السمو ( النقاء) العرقي ( حدوتة الأشراف)، و لذلك صار الجميع يتقمص الثقافة العربية من طريقة الكلام الى ربط الاجداد السابقين بآل البيت النبوي، و يجبرون التلاميذ الناطقين بغير العربية في المدارس على عدم التحدث بلغاتهم التي أطلقوا عليها إستعلاءا ( رطانة)، و ربطوا بين التحدث باللغات المحلية و التخلف، و ذلك بغرض تكوين رأي عام مجتمعي أن اللغات الاخرى غير العربية رمز للرجعية و التخلف، كما صوّروا لهم أن من يجيد العربية ( نسخة المدينة) هو الإنسان المثقف و المتحضر حتى يستعربوا. و شكل دعاة العروبة ضغط رهيب على أهل السودان لتبني العروبة هويةً لهم و رسموا في أذهانهم أن العربي و ثقافته هو المثال الذي يجب أن يُحتذى به.
و بذلك اصبح السوداني يتقمص شخصية الغير اعتقادا منه في سموّه عليه، و يتجلى ذلك في مختلف المستويات كما أوضحنا سلفا بين (القرية و المدنية) و بين (الاقاليم و العاصمة) و بين (السودان و الدول العربية).
أثر هذا الفهم سلباً على إنتشار الثقافة السودانية وسط المجتمعات العربية و المنطقة، وذلك بسبب التنازل المجاني للسوداني عن ثقافته ( الدنيا) في إعتقاده لصالح الثقافات العربية الأخرى ( العليا) في نظره، فلم تنتشر الدراما السودانية خارج حدود السودان ( لغياب الرسل) و لا يسعى العرب للاستماع إلى الأغنية السودانية لعدم وجود مروّج لها. لدرجة ان الخليجي قد يطرب للأغنية المغربية باللغة الامازيغية رغم اختلاف السلم و اللغة أكثر من طربه للأغنية السودانية الا في إطار المزح و السخرية، و ظلت تقاليدنا السمحة حبيسة داخل حدودنا بل وصلت لدرجة استبدال طقوس الزواج بطقوس غيرنا و يخاطبنا العائدون من الخليج بلغة أهل تلك البلاد متسامين علينا ( ظناً) منهم ، و ما قصة العائد من دبي الذي تقمص شخصية الإماراتي ( لغة) عندما أستأجر تاكسي من المطار الى داره حتى فاجئه أو (فجعه) السائق بقيمة المشوار فتنازل بسرعة البرق من مقام صاحب السمو الى ود البلد .