ابراهيم سليمان
تقرير صحفي
ولما استعصت هزيمة الإنقاذين، ظن الثوار أن الاستعانة بكل من هب ودب، وكل من يرفع شعار تغيير النظام على أسنة الرماح، سيعجل بالنصر ويدني بالفرج، متجاهلين براغماتية الإسلامين، وميكافلية أخوان الشياطين، حسبهم الشعارات الرنانة، والبيانات النارية، الصادرة من المغاضبين الذين يستثمرون موسمياً في “السرابات” الفاصلة بينهم والنظام، وهي قابلة للمصادرة بالطبع من قبل الأخير، مقابل وعود وردية تارة، ومناصب تمامة “جرتق” تارة اخرى، وقد لدغوا عدة لدغات متتالية من ذات جحر الافاعي، ويبدو أنهم لم يرعووا من “استهبال” هؤلاء بعد.
فلما وقّع د. يوسف الكودة، الشيخ السلفي ــ المتأخون، رئيس حزب الوسط الإسلامي على وثيقة الفجر الجديد في يناير 2013م فرحت الجبهة الثورة فرح طفولي، هللت وبشرت بالذخائر الحية، ودبّجت بيانات الإشادة وبرقيات الترحيب، لجأ الشيخ “الثائر” إلى دولة سويسرا، ظناً منه أن اللجوء سياحة خمسة نجوم، وأن معارضة نظام شرس بسبع أرواح امراً هينا، يمكن الانخراط فيها لمجرد نزوة سياسية عابرة، إلا أنه في غضون بضع اشهر، لم يقوَ بطن راحته الغض، على الإمساك بجذع المعاضة الخشن، وسرعان ما “إنبرش” تلكم الإنبراشة المدّوية، التي كادت أن تخرج أحشاءه، وقال بعدئذ، كلاماً في الإنقاذ لم يقله قيس بن الملوح في محبوبته ليلى، ولم يبقِ قطعة ثلج واحدة في جبال الألب الشوامخ لم يكسرها لرموز النظام، وأعلن على رؤوس الأشهاد توبته النصوحة عن التمرد والثوران، ودخل قاعة الصداقة برجله اليمنى، ثم يمم وجهه شطر النادي الكاثوليكي، معلناً الخنوع والتذلل والانكسار للمؤتمر الوطني، ومن يومئذ، صمت صمت القبور عن الكلام المباح، وكأن على رأسه الطير، ونظن انه محا أرقام قيادات الثورية من هاتفه وذاكرته إلي الأبد.
ولما ركل الإنقاذ المجرم موسى هلال، وخرج مغاضباً إلى قواته في مستريحة، وإعلانه عن قيام “مجلس الصحوة الثوري السوداني” في يناير 2014، مؤكداً سيطرته الفعلية على مساحات واسعة من شمال دارفور، وأن مقاطعة “مستريحة” تعتبر منطقة محظورة على السلطات الحكومية، وبمجرد أن لوّح مناوراً بإمكانية انضمامه للمعارضة المسلحة، هرولت بعض قيادات الجبهة الثورية إلى ملاقاته في منتصف الطريق، بالأحضان المفتوحة، والابتسامات العراض. ففي مطلع يوليو 2014 وقّع الفريق/مالك عقار بصفته رئيسا للجبهة الثورية، على مذكرة تفاهم مع موسى هلال، وفي ديسمبر من نفس العام أعلن متحدث باسم الأخير تأييد حزبه لنداء السودان، وهو تحالف بين المعارضة السياسية والجبهة الثورية السودانية ومنظمات المجتمع المدني جرى التوقيع عليه في 3 ديسمبر 2014 في أديس أبابا.
في حينه، نظر مراقبون إلى مناورات موسى هلال السياسية كونها انتهازية سياسية يهدف من خلالها إلى تأمين موقع لنفسه وللجماعات التي يتحدث باسمها في أي تسوية سياسية مقبلة يتم التوصل إليها من خلال المساعي الوطنية، وما كان مدهشاً في الدراما الثورية، هو صدور بيان مفاجئ وغير معتاد من الاستاذ عبد الواحد النور، زعيم حركة تحرير السودان، وواحد من أقوى المعارضين لإبرام أي اتفاقيات مع نظام الإنقاذ، بسبب جرائم الإبادة التي اقترفته، أيد فيه اتفاق يناير الذي تم إبرامه بين موسي هلال والحركة الشعبية لتحرير السودان ــــ شمال. ومعروف عن عبد الواحد النور حذره الشديد تجاه التواصل والوثوق بمنسوبي نظام الإنقاذ منذ مؤتمر حسكنيتة المنعقد في اكتوبر 2005م الذي شق حركته، ومؤتمر ابوجا الذي فوت فرصة حقيقية للوصول إلى تسوية عادلة لقضية دارفور، حسب تقييم الكثيرون.
والخيبة حدثت سريعا في يناير 2015م حيث شهدت حاضرة ولاية غرب دارفور الجنينة لقاءاً مفاجئاً جمع بين مساعد الرئيس حينها ابراهيم غندور وموسى هلال، وخلص اللقاء باتفاق يعود بموجبه الأخير لأحضان حزب المؤتمر الوطني، ونسب إلى غندور وقتها تأكيدات موسى هلال بتقديره لرأس النظام والمؤتمر الوطني الحاكم. وتنفيذا لهذا الاتفاق أنهى هلال المناورة الباهتة، وعاد إلى بيت الطاعة خنوعا من الباب الخلفي إبان تنصيب رأس النظام لدورته الرئاسية الحالية في يونيو من نفس العام، ليثبت ان تفاهمه من عقار لم يكن شيئا مذكورا، وأن اتفاقه مع عبد الواحد لم يعدُ عن كونه مناورة سياسية رخيصة، إذ انه فشل في قبض ثمنه على زهده.
وبما أن موسى هلال يتعمد اللعب بعواطف الثوار، بعد التنكيل بأهلهم، لابد لنا أن نسمي الأشياء بمسمياتها، ونذكره أنه قبل إندلاع الثورة المسلحة كان مسجوناً في بورتسودان، لارتكابه جرائم مخلة بالأخلاق، وان هذا النظام المجرم، اطلق سراحه، للاستفادة من خبراته الإجرامية، فتورم وظن انه زعيم نقي الإزار، ورغم ذلك إن تاب وندم، لأمسكنا عنه وتركنا امره للعدالة، ففي 2006 ادرجت إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش اسمه على رأس قائمة وزارة الخارجية الخاصة بالمشتبه بارتكابهم جرائم حرب في إقليم دارفور وفقاً لقانون سلام دارفور والمساءلة العام، الأميركي. كما فرض عليه مجلس الأمن إضافة إلى آخرين، حظراً للسفر وتجميدَ ممتلكاته بسبب عرقلته السلام في دارفور وفقاً للقرار 1591 للعام 2005 والقرار 1672 للعام 2006
وليس مفهوماً، مطالبة ثوار الهامش رأس النظام السوداني، الامتثال للقرارات الدولية، وغضهم الطرف عن ذات القرارات الصادرة في حق موسى هلال!
ولما أعلنت قوى معارضة في 23 فبراير من هذا العام بمقر حركة الإصلاح الآن، عن قيام جسم جديد تحت مسمى (قوى المستقبل للتغيير) يضم 41 حزباً وتنظيماً سياسياً أبرز رموزه العنصري الطيب مصطفى، وزعيم مذكرة العشرة غازي صلاح الدين، وربيب الإنقاذ فرح عقار، والبقية من غمار السياسيين.
وإزاء هذا الحدث، رغم أن الجبهة الثورية ـــ جناح مالك عقار، تأخرت في إصدار بيان ترحيب بالتحالف الجديد بشروط وتحفظ، سارعت الجبهة الثورية ـــ جناح جبريل للاحتفاء بهذا المولود المريب، ففي 25 فبراير صدر بيان ترحيب من السيد التوم هجو جاء في خاتمته “تجدد الجبهة الثورية السودانية ترحيبها الحار بالتحالف الجديد”، ولم تكتفِ الفصائل المكونة لهذه الجبهة بهذا البيان، بل إمعاناً في الحفاوة، عززت كافة الحركات المنضوية تحتها هذا البيان ببيانات خاصة بها، ففي نفس التاريخ صرح الاستاذ ابوعبيدة الخليفة مساعد رئيس حركة جيش تحرير السودان قيادة مناوي للشئون السياسية بان قيام تكتل قوي المستقبل للتغيير “يعتبر عمل ايجابي نرحب به” وفي اليوم التالي 26 فبراير صدر بيان ترحيب بقوى المستقبل للتغيير من حركة العدل والمساواة السودانية على لسان ناطقها الرسمي الأستاذ جبريل بلال جاء فيه ” دعمنا اللا محدود لقوى المستقبل للتغيير”، وفي 1 مارس 2016 صدر بيان ترحيب من رئيس حركة / جيش تحرير السودان/ جناح عبد الواحد محمد نور.
وحسب مراقبين، يبدو أن الدافع الاساس لهذه الحفاوة الثورية، هو شعار تغيير النظام الذي رفعه هؤلاء القادة المريبون على أسنة الرماح، ونعت كبيرهم زعيم حركة الإصلاح الآن د. غازي صلاح الدين الحوار الوطني الدائر وقتئذ بقاعة الصداقة بالميت، وفي ذات المنحى حمل بيان الإعلان عن الجسم الجديد عبارات الرفض لعملية الحوار الذي كان يدور.
على أعقاب الإعلان عن ميلاد هذا التكتل المتورم، نسب للدكتور أحمد الطيب زين العابدين قوله: ” أي شخص ملموم مع الاسلام السياسي، نحن لن نتلم معه ابداً، لأن ما رأيناه من الاسلام السياسي في السودان يكفينا، وقتها ظننا أن د. زين العابدين هو الثوري، وثوارنا الأفندية!
قبل ان يجف الحبر الذي كتبت بها شهادة ميلاد هذا التكتل المغاضب، سارعت قياداته بكل امكانياتها الظاهرة والمستترة للوصول إلى اديس ابابا والالتقاء بالمرتشي ثامبو امبيكي وزمرته من رموز الإنقاذ، وعاد الوفد ادراجه ليغزو قاعة الصداقة، ويقول كلاماً “خارم بارم” ففي 10-4-2016م صرح فرح عقار الأمين العام لقوى المستقبل للتغيير لسونا بقوله “سنواصل اللقاءات للوصول الي موقف مشترك لتوحيد اهل السودان حول الحوار الوطني”. أي نكوص ابلج من هذا، وأية “إنبراشة” اروع من هذه؟ لقد “سمسر” هؤلاء الأشرار بتأييد الثوار لتكتلهم لدى ولي نعمتهم، وعمدوا إلى تجيير “كوم احزاب الفكة الـ 41” لصالح مساومتهم داخل القاعة، وقد انسحبت بعض “الفكة” لكن بعد فوات الأوان.
ما اوردناه هنا، ثلاثة مواقف متتالية، تفضح “الإستهبال” السياسي لمنسوبي نظام الإنقاذ الأشرار، وتدلل على عدم مبدئيتهم، ويؤكد ان من تغذى بفكر الإسلام السياسي، ورضع السحت من ثدي الإنقاذ الفاسد، يستحيل أن ينفطم ويعيش شريفا. وما انفك هؤلاء يمارسون الفهلوة السياسية على الثوار عديمي الحيلة، وبعد كل هذه الخيبات المتكررة، نأمل أن يتعظ اخوتنا الثوار من سموم هذه اللدغات المميتة. فقد قلنا عندما وقع الاستاذ ياسر مع د. على الحاج مذكرة الشعبي والشعبية الثانية في لندن نوفمبر 2012م، قلنا إن هؤلاء لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً، ولا ينبغي لهؤلاء أن ينالوا شرف اسقاط النظام، وانهم دعاة تغيير ليس إلا، وبين الإسقاط التغيير فرق كبير.
ماذا يخسر الشرفاء من تجاهل امثال هؤلاء، لا شيء، بالعكس أن هذا التهافت المتكرر، يثير الشفقة، وقد يفهم منه عدم نضج ثوري، وتفكير عاطفي ضار بالتوجه الراديكالي ضد المركزية وزمرة الأشرار تجار الدين.
[email protected]