مُنذُ العام 2003م , وحتّى تاريخ اللحظة أصبح إقليم دارفور أقصى غرب السودان , مسرحا خصبا لإرتكاب الجرائم الدولية التى تقلق مضجع المجتمع الدولى , حيث يتعرض المدنيون العزل للهجمات بلا هوادة , ومنذ ست سنوات مضت يتعرضون للهجمات داخل قراهم , ويتم ملاحقتهم داخل معسكرات المشردين قسريا , فضلا عن جرائم القتل الجماعى , والإضطهاد , وإرتكاب أعمال حاطة بكرامة الإنسان ضد الفتيات , والنساء , وعمليات حرق القرى وتدميرها تماما , وغيرها من الجرائم التى تعد من الإنتهاكات الفاضحة للقانون الدولى الإنسانى , والقانون الدولى لحقوق الإنسان
فى ظل الإنتهاكات الجسيمة التى يتعرض لها المدنين العزل فى الإقليم , فشل القضاء الوطنى السودانى ملاحقة المجرمين , بل أن أليات التحقيق التى أقامتها الحكومة السودانية أخفقت تماما فى إنفاذ القانون الدولى لحقوق الإنسان فى دارفور , وعجزت تماما عن ملاحقة مرتكبى أشد الجرائم خطورة فى دارفور , ويرجع السبب الأساسى فى إخفاق الحكومة فى معالجة العوائق القانونية إلى إنعدام الإرادة , والقدرة ( ) لدى القضاء الوطنى السودانى لمحاسبة المسئولين الحكوميين , وأعضاء مليشيا الجنجويد على الإنتهاكات الفاضحة للقانون الدولى الإنسانى , والقانون الدولى لحقوق الإنسان , بل ان الحكومة السودانية أصبحت تشجع منتهكى القانون الدولى على الإفلات من العقاب .
كل تلك الممارسات الخاطئة من قبل حكومة السودان , دفع مجلس الأمن إلى تكليف الأمين العام للأمم المتحدة السابق – السيد / كوفى عنان , بضرورة تشكيل لجنة دولية للتحقيق حول مزاعم الإبادة الجماعية , والتطهير العرقى فى إقليم دارفور , وخلصت اللجنة فى تقريرها إلى إعتبار النظام القضائى الوطنى فى السودان يفتقد إلى القدرة , والرغبة لمعالجة الوضع فى الإقليم ( ) , وإستنادا إلى تقرير لجنة التحقيق الدولية قرر مجلس الأمن , وفى خطوة لاسابق لها إحالة الوضعة السائد فى إقليم دارفور- المنطقة الواقعة فى غرب السودان الذى يشهد أكبر وأعظم كارثة إنسانية على مستوى العالم فى الوقت الراهن ,
إعتبار من العام 2003م إلى مدعى عام المحكمة الجنائية الدولية ( ), ومن الجدير بالذكر أن مدعى عام المحكمة الجنائية الدولية أصدر قرار فتح التحقيق حول الوضع فى إقليم دارفور فى 6/ يونيو من العام 2005م , وفى اليوم التالى مباشرة , أى فى يوم 7/يونيو من العام 2005م , وبعد ثلاثة أشهر من تاريخ صدور القرار 1593 من مجلس الأمن , أعلنت الحكومة السودانية إنشاء محاكم خاصة بأحداث دارفور فى أبلغ دليل على أن حكومة السودان ليس لديها الرغبة على الإطلاق فى ملاحقة المجرمين , وقرارها بإنشاء محاكم خاصة بأحداث دارفور جاءت متأخرة جدا , وفى نفس الوقت كان محاولة منها لتفادى إجراءات المحكمة الجنائية الدولية .
فى 27 فبراير من العام 2007م , ووفقا للمادة (58) فقرة رقم (7) من النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية , تقدم السيد / لويس مورينو أكامبو , مدعى عام المحكمة الجنائية الدولية , بطلب إلى قضاة الدائرة التمهيدية التابعة للمحكمة الجنائية الدولية , ملتمسا منهم إصدار أمر بالحضور فى حق كل من السيد /أحمد محمد هارون ( أحمد هارون , والسيد / على محمد على عبد الرحمن- المعروف – ( على كوشيب ) ( عقيد العقدة فى منطقة شريط وادى صالح ), وذلك إعتقادا منه (المدعى ) أنه يمتلك ثمة أدلة قوية تثبت تورط كل من السيد / أحمد هارون – والسيد/ على كوشيب فى إرتكاب جرائم دولية تدخل فى نطاق إختصاص المحكمة الجنائية الدولية , حيث إتحدا وإرتكبا جرائم ضد الإنسانية , وجرائم حرب ضد المدنيين العزل فى إقليم دارفور أثناء هجمات نفذتهما القوات المسلحة السودانية بالإشتراك مع مليشيا الجنجويد ( ) , على قرى ومدن فى غرب دارفور مثل قرى – كدوم – مكجر – أرولا – وبنديسى …الخ , ومن الجدير بالذكر أن تحقيقات مكتب المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية , كشفت عن نظام العمليات السرية , والذى بموجبه تم إرتكاب الجرائم الفظيعة ضد المدنيين فى إقليم دارفور .
وفى 12/ مايو من العام 2007م , أصدرت الدائرة التمهيدية الأولى مذكرات توقيف فى حق كل كل من السيد / أحمد هارون – والسيد / على كوشيب – لمحاكمتهما على جرائم الحرب , والجرائم ضد الإنسانية . إن الدائرة التمهيدية الأولى التابعة للمحكمة الجنائية الدولية أصدرت القرار (قرار التوقيف) على خلفية أن هناك أسباب معقولة للإعتقاد بأنه تم خلال الهجمات التى قام بها كل من السيد / احمد هارون – وعلى كوشيب – إرتكاب جرائم حرب , وجرائم ضد الإنسانية , واللتان تندرجان من ضمن إختصاص المحكمة الجنائية الدولية , بموجب المادة (8) , والمادة (7) من النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية , وهناك أيضا أسباب بأن الهجمات التى شنتها مليشيا الجنجويد مع القوات المسلحة السودانية , كانت ذات طبيعة منهجية ومنتظمة , وواسعة النطاق , وكانت موجهة ضد السكان المدنيين الذى ينتمى معظمهم إلى جماعات – الزغاوة – المساليت – والفور ( ).
فى تطور أخر مثير ومبعث الأمل لضحايا النزاع فى إقليم دارفور , طلب المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية , من الدائرة التمهيدية الأولى التابعة للمحكمة الجنائية الدولية إصدار أمر توقيف فى حق الرئيس السودانى – السيد/ عمر حسن أحمد البشير , وإستنادا إلى أدلة يمتلكها – السيد / لويس مورينو أكامبو , حيث يرى المدعى أن لديه مبررات للإعتقاد – بأن الرئيس السودانى (البشير) , يتحمل المسئولية الجنائية فى مايخص التهم الموجه إليه بإرتكاب جرائم الإبادة الجماعية ضد قبائل الزغاوة- المساليت – والفور – فضلا عن جرائم الحرب , والجرائم ضد الإنسانية , ويعتقد المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية , أن الرئيس (البشير) , قد دبر ونفذ لتدمير جزء كبير من مجموعات قبائل – الزغاوة – المساليت – والفور , لأسباب عرقية , وكان البشير يتذرع لمكافحة التمرد إلا أنه لم يستطيع إلحاق الهزيمة بهم فصار يهاجم الشعب ,
ويعتقد المدعى للمحكمة الجنائية الدولية , أن دوافع البشير فى الأصل سياسية لكنه يتذرع بحجة مكافحة التمرد , أما نيته الحقيقية فهى إبادة قبائل – الزغاوة – المساليت – والفور , عن طريق مليشيا الجنجويد , حيث هاجمت الجنجويد القرى التى كانت تخلو تماما من أى نشاط عسكرى , وتابعت الجنجويد الأشخاص الذين تمكنوا من الوصول إلى مخيمات المشردين قسريا , وتم إخضاعهم لظروف معيشية فى غاية القسوة ليكون مصيرهم التدمير , وعرقلت الحكومة السودانية المعونة الدولية , وتم إفقار الأشخاص الناجين والتحرش بهم فى المخيمات , وأستخدم ضدهم سلاح الإغتصاب ,والتجويع , والخوف , والتهجير القسرى الذى لازال مستمرا بطريقة تسبب الصدمة النفسية للضحايا , وتحول دون إعادة تكوين جماعاتهم مرة أخرى , حيث إستأصل العنف والإجرام فى إقليم دارفور ما لايقل عن مليونى وسبعمائة الف مدنيا ( ) معظمهم من الجماعات المستهدفة من الأرض , والتى كان يقطنها من قبل أجدادهم وأسلافهم لقرون مضت- والأن يعانى الضحايا فى إقليم دارفور من الصدمة النفسية التى سببها لهم مشاهدة تدمير ونهب منازلهم وممتلكاتهم وإغتصاب نسائهم وفتياتهم بحضور أبواتهم وأزواجهن , كما يعانى الضحايا من حسرة جراء إحتلال أراضيهم السابقة من جماعات أخرى , وبالتالى لايوجد أمل للعودة مرة أخرى فى ظل إنتشار الفوضى الأمنية وسياسة تشجيع المجرمين على الإفلات من العقاب . لذا فإن مدعى عام المحكمة الجنائية الدولية يحمل المسئولية الشخصية للرئيس السودانى – عمر حسن أحمد البشير – لأنه يسيطر على الجناة ويوجههم , وبما أن البشير كان يشرف على تنفيذ الخطط الإجرامية فى دارفور , وبما أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة (البشير ) , فإن المدعى العام يعتقد أن لديه أسباب معقولة للإعتقاد , بأن البشير يتحمل المسئولية الجنائية فى مايتعلق بجرائم الإبادة الجماعية بموجب المادة (6) فقرة (أ) من نظام روما الاساسى المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية , وقتل أفراد المجموعات العرقية التى تنتمى إليها جماعات الزغاوة – الفور – والمساليت , كما أن المدعى يتهم البشير بإرتكاب جرائم ضد الإنسانية بموجب المادة (7) فقرة (1) من النظام الاساسى للمحكمة الجنائية الدولية , والمرتكبة كجزء من هجوم منتظم وواسع النطاق ضد السكان المدنيين فى دارفور , وعن علم بالهجوم , وأفعال القتل العمد وفقا للفقرة (أ) , والمادة (7) الفقرة (أ) الإبادة الجماعية ,والمادة (7) الفقرة (ب) جريمة إبعاد السكان ,أو النقل القسرى للسكان وفقا للمادة (7) فقرة (د) – التعذيب والاغتصاب وفقا للفقرتين (و)(ز) المادة (7) من النظام الاساسى للمحكمة الجنائية الدولية .ومؤخرا طلبت الدائرة التمهيدية الاولى التابعة للمحكمة الجنائية الدولية من المدعى العام مزيد من الادلة السرية حول الطلب الذى قدمه بخصوص الرئيس السودانى (البشير) , وقدم المدعى أدلة إضافية , ومن المتوقع أن يصدر قرار الدائرة التمهيدية فى النصف الأول من فبراير من العام 2009م .ونعتقد أن القرار الصادر من الدائرة التمهيدية التابعة للمحكمةالجنائية الدولية , سوف يكون بالقبض على البشير ,
إستنادا الى الأدلة القوية والدامغة التى قدمتها جهة الإدعاء للدائرة التمهيدية . وفى تطور لاحق أيضا , تقدم السيد / لويس مورينو أكامبو , بطلب الى الدائرة التمهيدية الاولى التابعة للمحكمة الجنائية الدولية , يلتمس فيه إصدار أمر بالحضور على ثلاثة من قادة المتمردين , وذلك إعتقادا منه بأنه يمتلك ادلة تثبت تورطهم فى ارتكاب جرائم حرب ضد قوات حفظ السلام الافريقية فى دارفور , وذلك عندما قام مجموعة من المتمردين بهجوم غير قانونى.بتاريخ 29/ سبتمبر من العام 2007م , ضد الأفراد والمنشأت التابعة لقوات حفظ السلام الافريقية , والتى كانت متمركزة فى منطقة (حسكنيتة ) القطاع رقم ( 8) التى تتبع لمحلية أم كدادة , الواقعة فى شمال دارفور حيث أدى الهجوم الى مصرع (12) فردا ( ) من العاملين فى حفظ السلام التابعة للإتحاد الافريقى , فضلا عن إصابة (8) أخرين بجروح بالغة الخطورة , كما دمر المهاجمين منشأت للإتصالات , وأجنحة النوم , والمركبات , وتم
نهب المعسكر بالكامل .وإستنادا الى تلك الادلة , فإن المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية , يوجه تهمة إرتكاب جرائم حرب ضد قادة المتمردين الثلاثة , والذى لم يفصح عن أسماؤهم ولا الجهات التى ينتمون إليها , ومؤخرا طلبت الدائرة التمهيدية الاولى من المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية مزيد من الادلة حول الطلب المتعلق بالمتمردين الثلاثة .وفى الختام فإننا ندعوا جميع الاطراف المعنية والمجتمع الدولى قاطبة , ان لا يقدموا المساعدة للمجرمين وذلك بالتستر أو إخفاء الجرائم الدولية فى إقليم دارفور , وندعوا جميع الاطراف الالتزام بقرارت الشرعية الدولية المتمثل فى القرار (1593) الصادر من مجلس الامن فى العام 2005م , والتى أحيل بموجبه الحالة السائدة فى إقليم دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية.
حماد وادى سند الكرتى
محامى وباحث قانونى