بقلم عثمان نواى
شعار تسقط بس هو شعار بسيط فريد ومحلى للغاية، هو فى الحقيقة كل ما يمكن ان يحلم به اى منتج حملات دعائية او إعلانية محترف سواء فى مجال تسويق المنتجات او الأفكار او فى مجال الحملات الانتخابية او السياسية او التوعوية. فهو شعار يتمتع بكل صفات الانتشار السريع الممكنة، كما انه يحمل قدرة كبيرة على التشكيل والتفسير ليرضي كل الأطراف المستهدفة. حتى الجهة المضادة للشعار تحاول استخدامه لكن لمصلحتها. ومن هنا ضمن اشياء كثيرة جدا سنحاول تعديدها، نجد ان الشعب السوداني يتجلى اخيرا فى أبهى صوره القيمية والإنسانية، والأهم انه يكشف لنفسه وللعالم عن مدى فرادة وخصوصية الشعب السوداني، التى كانت مدفونة تحت ارتال من التعصب الدينى الكيزانى، والفساد الاخوانى والجهل الطائفى والزيف التاريخي والوهم الهوياتى المفروض غصبا على شعب متنوع، مختلف وفريد من نوعه.
ان الثورة الان تنزع وتسقط أقنعة الزيف جميعها، حتى يتبدى تحتها الإنسان السودانى الحقيقي، الذى تغنى دوما وبلغات ولهجات عديدة لقيم التكافل والشجاعه والتضامن والثبات واحترام الذات. حيث ان الشباب السودانى بسلمية شجاعة يدهش نفسه وشعبه والعالم. ذلك الشاب الذى مات لكى يدفع الأمن عن اعتقال زميلاته الشهيد محجوب ، ومحمد المصرى الذى ارجع البمبان بيده حماية لزملاؤه حتى فقدها. فخر البلاد من الأطباء الشباب اليافعين الذين اشعلوا شرارة الغضب المهنى ولازالوا مضربين. شجاعة الشباب فى مواجهة احكام الطوارئ التعسفية، حتى قالت إحدى المحاميات، ان شجاعتهم فى مواجهة هذا البطش مذهلة، انهم يهتفون يوميا داخل الزنازين وفى قاعات المحاكم الصورية.
المشهد السوداني المهيب له روح قوية تنتشر الآن عبر الحدود، فبعض الدول العربية تعيش حالة رعب من انتقال عدوى ثورة السودانيين المهيبة اليهم ،الجزائر بلد المليون شهيد تستلهم شعار سلمية سلمية وتردده الجماهير ، وتسقط بس من وهران لامدرمان كان هتاف إحدى المظاهرات هناك. ان السودانيين يبدعون كل يوم في أشكال التعبير الثورى ويعيدون اكتشاف أنفسهم والعالم أيضا يعيد اكتشاف شعب عظيم، كان فى انتظار ان ينتفض على نفسه اولا ويتخلص من كل أوهام الماضي وأخطاء التاريخ حتى يظهر وجهه الفريد لنفسه والعالم.
من اهم مميزات الثورة السودانية هو محليتها الطاغية، حيث أثبت السودانيون ان لهم ثقافة سودانية فريدة ،متنوعة ،وأنهم ليسوا بحاجة لاستلاف شعارات الشعب يريد إسقاط النظام مثلا من الربيع العربى، كما انهم اخرجوا للعالم وجههم المثقف الفنان والمبدع والمعاصر أيضا. فمن جيوش المغردين على تويتر خاصة من السودانيين المهاجرين والمغتربين الذين لوحدهم لفتوا انتباه العالم الى هذه الثورة ،الى المصممين والرسامين الى مغنى الراب والزنق، وإلى أصحاب برامج الكوميديا على السوشيال ميديا، استطاع الشباب السودانى صناعة وجود وبصمة تاريخية على الإنترنت هى تاريخ جديد، حقيقي ويصنع كل يوم ومسجل للأبد ولا يحتاج الى مؤرخين لكى يزوروا التاريخ ويكتبوه على هواهم كما كان يحدث فى الماضي وفى كل ثورات السودان السابقة التى هضم المؤرخين فيها حقوق مجموعات سودانية عديدة، حيث لم تذكر كثيرا أدوار مناطق جنوب وغرب وشرق السودان، كما ان المؤرخين تجاهلوا دوما دور النساء في تلك الثورات، حتى بدت البطولات وكأنها للرجال فقط. من ثورات السودانيين على الأتراك وثورة المهدى مرورا بكل ثورات الجنوب وجبال النوبة و الشرق على الانجليز وثورة اللواء الأبيض وبعدها ثورتى اكتوبر وابريل. لم يعد الناس فى حاجة الان لمن يكتبون التاريخ من وجهات نظر ايدلوجية او اقصائية، فالتايم لاين على تويتر او فيسبوك للأشخاص او الصفحات هو سجل تاريخى واقعى مفتوح. ولذلك فإن السودانيين أنفسهم الذين حرموا من رؤية انفسهم وقصصهم وتعقيدات مجتمعهم مثل بقية الشعوب عبر الدراما او السينما او الرواية او الصحافة الحرة، او مناهج التعليم وكتب التاريخ الغير المزيف ، انهم الان يكتشفون أنفسهم ويشهادونها لايف لأول مرة، وياله من شعور مختلف، وكأن الطفل يرى نفسه لأول مرة فى المرآة.
هذا الانعكاس للذات على صفحات الإنترنت، ينقل ربما ليس الوجه الكامل ولكنه جزء كبير للشعب السودانى، والأهم انه يعبر عن الأحلام المؤجلة والمدفونة عميقا، بسبب اليأس الذى طال نتيجة لربع قرن من الكيزان و٦٠ عام من فشل الدولة. لكن السودانيون الان يكشفون عن حقيقة أحلامهم عبر ثورتهم . حيث نرى
رفض الشعب السودانى بشكل واسع للعنصرية عبر رفض رواية المؤامرة من حركات دارفور فى إشعال الثورة ،هو انتصار كبير في الطريق نحو سودان بلا تمييز ولا عنصرية.
المشاركة النسائية الواسعة بل وقيادة واشعال لهيب الثورة من الزغرودة الى فقد العيون، فداءا للوطن هو سجل اخر لفرادة الشعب السوداني. حيث المتظاهرين الرجال يحمون النساء ويحملونهم على الظهر ولا يوجد اى حالات تحرش من متظاهرين فى السودان، على عكس كثير من دول الربيع العربى. حيث ان المرأة السودانية ليست في المؤخرة فى كل موكب بل فى المقدمة. هذا إضافة الى الظاهرة الفريدة بحيث تخرج مظاهرات فى كل البلاد تكريم للنساء، هذا سوف يكون عمل تاريخى على مستوى العالم بلا شك.
عملية العلاج والتبرعات المتدفقة من سودانى الخارج والداخل والتكافل المذهل من دفع الغرامات، الى علاج المصابين، الى مساعدة المتاثرين بجرائم الكيزان بدءا من تصليح زجاج السيارات انتهاءا بى شراء منزل للوالدة الطفل الذى قتلته التاتشر قبل أيام. ان السودانيين يظهرون كرمهم الحقيقي.
الاصرار على العزل الاجتماعى للكيزان ولو من داخل أسرهم وقبائلهم هو من أهم وسائل الثورة الحالية فى النجاح ،وعمليات التعرية المستمرة لهم وكشفهم من خلال كل الأدوات السودانية تماما من خلال منبرشات او عادة السودانيين فى جيب زيت اى شخص وكان السودان كله قرية، هو اليه الان تستخدم بفعالية فى تشكيل سلاح الحرب النفسية على النظام.
البروز الكبير للريف السودانى والاقاليم فى صناعة الحراك ،هو أيضا نقلة تاريخية فى إنهاء سيطرة المركز والخرطوم على صناعة القرار. وبالتالى توزيع اكثر عدالة مستقبلا للسلطة والثورة فى البلد وعدم تركيزها فى الخرطوم.
ان تطاول عمر الثورة لم يعد يخيف بل هو ربما سيكون افضل ما فيها، لان السودانيين يكتشفون أنفسهم من جديد ويعيدون صياغة خياراتهم المستقبلية لكى يرسموا خارطة واضحة ،ليس فقط لما لا يريدون من سودان الغد بل الأهم ، رسم خارطة الأحلام التى يريدون ان يكون عليها وطنهم ما بعد تسقط بس. وبذلك فان السودان الوطن الذى يتخلق الان سيجبر العالم لإعادة اكتشاف هذا الشعب وهذه البلاد من جديد.
[email protected]